هذا عنوان مقالة لأستاذنا علي جواد الطاهر، قرأتُها في بيته، في سنة قديمة ، مكتوبةً بخطّ يده! كان فيها شيءٌ من ذكرى، وطيفٌ من أمل خبا! قرأتُها عنده، ولم أحتفظ بصورةٍ منها على أمل أن ينشرها في صحيفة، أو يضمّها إلى غيرها في كتاب! لكنّه لم ينشرها في صحيفة، ولم يحوها كتاب! وكنتُ أحسبها قريبةً منّي أستطيع أن أرجع إليها حين أريد! لكنّ السنين مضت، وقد أعجلتنا عن كثير ممّا نريد، وطوت صحائفَ من قبل أن تتمّ!
يرجع الطاهرُ في هذه المقالة إلى مصر، في أُخريات سنوات الأربعين، يوم ذهب إليها طالبًا يدرس في كليّة الآداب مدّة سنتين، أو دونهما بقليل، تمهيداً للدراسة في باريس؛ ذلك أنّ شهادة دار المعلمين العالية، على رصانتها، لمّا يُعترف بها بعد!
كان الطاهر يحبّ أعلام مصر الكبار؛ يحبّهم في بيانهم المبين، وفي فكرهم الناهض الجديد. وقد كانت كتب طه حسين، وكتب سلامة موسى، ومجلّة (الرسالة)، وغيرها من جياد آثارهم تصل إلى العراق، فيُقبل عليها الناس مشغوفين بها. ولقد كان ممّا يهوّن عليه الإبطاء عن بلوغ باريس ؛ رؤيةُ أولئك الكرام الذين أحبّ أدبهم قبل أن يراهم! كانت المقالة، أو ما بقي منها في الذاكرة بعد أكثر من أربعين سنة، تريد أن تصوّر شيئاً من ذلك، وأن ترجع ما مضت به الأيام؛ لكنّ عنوانها قد أفصح عن الأمل إذ يخيب، والبهجة إذ تنطفئ!
أوّل ما أعلن به الزمانُ عن هرمه؛ أنَّ طه حسين لم يعد في الجامعة، وأنّه في عمل آخر، وأنّ مُحبّه الفتى العراقيّ لن يسمع صوته، ولن يجلس إليه! وتمضي به الأيام هناك، في كليّة الآداب من دون طه حسين حتّى يكون حفل تأبين مصطفى عبد الرازق فيرى من طه حسين ويسمع ما يسرّ؛ ولكنّ قاعة الدرس خالية منه؛ فكيف لا يكون الزمان هرِما؟! أمّا أحمد أمين فكان قد تقدّمت به السن، ووهت منه القوى، وتعب! وأمّا الشيخ أمين الخولي فلم يجد عنده ما يُرضيه!
لقد مضى الجيل الأوّل وكادت الجامعة تخلو منه، ولم يستحصد الجيلُ الذي أعقبه ؛ وكأنَّ فتوراً مشى في أوصال الزمان!
وإذ خاب أمله في الجامعة ومن فيها؛ ذهب يسأل عن آخرين عسى أن يردَّ الزمان عليه شيئاً ممّا فات! سأل عن سلامة موسى، وعن زكي مبارك، ورغب في رؤيتهما. وقد كانت آثار هذين الكاتبين تُقرأ في بغداد، وفي غيرها من حواضر العراق؛ إذ كان سلامة موسى رائدَ الفكر القائم على العلم، والداعي إلى مزيد من حريّة العقل، وكان زكي مبارك الكاتبَ المبين ذا الصوت الجهير الذي لا يخرج من معركة أدبيّة حتّى يلج أخرى!
رغب الطاهر في رؤيتهما، والاستزادة منهما حتّى يؤيدَ الخُبرُ الخَبرَ؛ غير أنّه، حين سأل عن سلامة موسى أين يجده؟ قيل له: إنّه في (جمعيّة الشبَّان المسيحيين) فعجب أن يكون مثلُه بفكره الحرّ في جمعيّة دينيّة! وزاد عجبه حين وجده يوجس خيفة كلمّا مضى معه بالحديث عن أفكاره المبثوثة في كتبه! أمّا زكي مبارك فقد كانت الفجيعة به أتمّ! سأل عنه ، فقيل له: إنّه يجلس كلّ يوم في مكان كذا، في شارع كذا؛ فلمّا ذهب إليه رآه ثملاً عاكفاً على شرابه مغرقاً فيه؛ فلم يدنُ منه ، ولم يجلس إليه، وانقلب عائداً!
كان ذلك في أُخريات الأربعين، قبيل ذهابه إلى باريس؛ حتّى إذا مرّت السنون، وطوت بأيّامها ولياليها آمالاً وخيبات؛ انبعثت تلك الذكرى القديمة حيّة في النفس شاهدة على أن الزمان قد أرثّت حباله، وأدركه الهرم؛ فكتب: (أتى الزمانَ …) مستعيداً الذكرى بأجوائها وخطوطها، وختمها بتمام بيت أبي الطيّب:
أتى الزمانَ بنوه في شبيبته
فسرّهم وأتيناه على الهرمِ
وبقول أهل البلاغة عنه: أي فساءنا!
لكنّه لم ينشرها، وأبقاها طيّ أدراجه؛ إذ ليس في نهجه أن يقف عند الخيبة وما يُحيط بها من أسى، أو عند الخذلان وما ينشأ عنه من مرارة، وإنّما هو صاحب أمل وعمل وثقة! وكأنّ الشاعر أراده حين قال:
وكن كعهدكَ سحّاراً بمعجزةٍ
تحوّل الصابَ مسموماً إلى عسلِ
ومع ذلك فإنّه لم يرد لها أن تُنسى، وأن تذهب بها الريح؛ إذ صوّرت صفحة من الثقافة العربيّة في سَعدها، وفي نَحسها…!