أدب

أدبُ المكاتبات في دواوين الدولة

صحبتِ الكتابةُ قيامَ الدولة عند العرب المسلمين، وكانت عنوانَها ولسانَها المبين عن مقاصدها؛ إذ كان من مقتضى قيامِ الدولة أن تنشأ فيها دواوين لإدارةِ شؤونها ، وأن يكون للدواوين كتّابٌ يتولّوَن الأمر فيها . وقد كانت الحال في أوّلها ؛ أن يُملي الخليفةُ ما يُريد إملاءه على كاتب ؛ أولى مزاياه إحسانُ الخطّ حتّى يكون مقروءًا ، غيرَ مُوقِعٍ في اللبس. ولم يتوخَّ المملي ، ولا الكاتبُ ، شيئًا من الفنّ ؛ وإنّما هو مقصورٌ على غايته في تأديةِ غرضه تأديةً واضحةً تُحيط بالمعنى المراد وتُعرب عنه .

غيرَ أنّ الدولة اتّسعت ، وزادت شؤونها فكان لا بدّ للكتابة الديوانيّة أن تتّسع معها ، وأن تمتدّ آفاقها ، وتتكامل أدواتها من قلم ومداد وقرطاس ، وأن يظهر رجالٌ عملُهم مقصور على كتابة الرسائل ، ومخاطبة ولاة الأقاليم باسم الخليفة .

كان الأمر ، على زمن الخلافة الراشدة، يسيرًا ؛ يتّخذُ الخليفةُ كاتبًا أمينًا، يُحسن الخطّ ، فيُملي عليه ما يُريد أن يُخاطبَ به الولاةَ من دون أن يتوخّى ضربًا من الفن ، وظلّ الخلفاء وأصحاب الأمر ، من بعدُ ، على هذا المنحى مدّةً بعد قيام الدولة الأمويّة ؛ لا يزيد الكاتبُ على تدوين ما يُملى عليه ؛ حتّى إذا عُرّبت الدواوين ؛ فنُقلت ، في العراق ، من الفارسيّة إلى العربيّة ، وفي الشام نُقلت من الروميّة إلى العربيّة ، وأُنشِئ ديوانُ الرسائل ؛ أخذت الكتابة تنمو شيئًا فشيئًا ، واتّجهت أن تكونَ صنعةً خاصة يزاولها من تهيّأ لها بما يملك من طبع مواتٍ ، ومحفوظ من الشعر والخطابة .

ولعلّ سالمًا كاتبَ هشام بن عبد الملك أوّلُ من حاول أن يجعل الرسالةَ الديوانيّة على شيء من الفنّ زيادةً على تأدية أغراضها في الإبلاغ والتوجيه والتحذير ، وأن يجعلَ للكاتب والكتابةِ رسومًا تُعلي من شأنهما ، وأن يكون للكاتب سلطان في الضَّرّ والنفع ؛ لكنّ ما بقي من آثار سالم شيء قليل ؛ على أنّ مكانة سالم في المكاتبات الديوانيّة لم تأتِ من رسائله وحدها ؛ وإنّما هي آتية منها ومن تعهّده عبدَ الحميد بن يحيى ؛ فلقد أدرك فيه طبعًا مواتيًا ، ومقدرةً على البيان ، وحكمةً في تصريف الأمور؛ فأدناه منه ، وقام على إرشاده ، ورفْعِ العوائق من طريقه ، وقدّمه إلى دار الخلافة .

درج عبدُ الحميد بن يحيى على مدارج الكتابة حتّى لُقّب بالكاتب ، وولي من شؤون الدولة أشياءَ كثيرةً دُعيَ من أجلها بالوزير قبل أن يُستحدثَ منصبُ الوزارة للدلالة على نهوضه بجانبٍ من أعباء إدارة الدولة . ولقد كانت عُدّةُ عبدِ الحميد بن يحيى للكتابة زادٌ من الشعر والنثر ؛ فلقد حفِظ واستوعب ، وتفهّم طرائق العربيّة في الإبانة ، وسعى أن يُرسي معالم فنّ مستحدث في النثر اقتضته شؤون الدولة . وإذ سُئل عن بلاغته وحُسن بيانه ؛ من أين أتى بهما ؟ قال : من حفظه خطبَ الإمام عليّ ! ولا ريب في أنّه أفاد من الشعر ؛ بحلّ أبياتٍ منه وتسريحها في رسائله ، وأفاد من الخُطَب ؛ بنقل بعض معانيها من مقام إلى مقام آخر ؛ لكنّه كان حريصًا على أن يكون للرسالة بناءٌ خاصّ يفي بالغرض منها .

ومع إفادة عبدِ الحميد بنِ يحيى من الشعر والخَطابة في كتابته ؛ فإنّ الشعر والخَطابة يباينانِ الرسالةَ الديوانيّة ، ويفترقان عنها من حيث مبدأ الإنشاء ؛ ذلك أنّهما يُعبّران عن المنشئ نفسه ، في المقام الأوّل ، في ما يحبّ ، وما يكره ، وما يُريد وما لا يريد ؛ أمّا الرسالةُ الديوانيّة فإنّها ليست تعبيرًا عن مُنشئها ؛ وإنّما هي تعبيرٌ عن صاحب السلطان الذي كُتبت باسمه ؛ في أمره ونهيه ؛ وذلك يقتضي من كاتب الرسالة الديوانيّة أن يتلبّس إهابَ السلطان ، وينظر بعينيه ، ويسمع بأذنيه ، وينطِق بلسانه ؛ مع تمام البيان . وإذا كان في الشعر والخَطابة عنصرٌ من “الغناء” ؛ فإنّ في الرسالة الديوانيّة عنصرًا من “الدراما” لا بدّ لها منه ليتمّ الغرضُ منها .

إنّ كاتب الرسالة الديوانيّة لسانُ السلطان المبينُ عن إرادته ، وهو وجه الدولة في قوّتها ، ونفاذ أمرها ؛ ومن أجل ذلك فقد كان الكاتب يتوخّى أعلى الأساليب ، وأقومها ، وأقدرها على بلوغ الغاية من المكاتبة . وأوّل ما يجب على الكاتب ؛ أن يُحسن العربيّة ؛ في نحوها وصرفها ، وبلاغتها ، وأن يعرف الكتاب العزيز ؛ في محكم آياته ومتشابهها ، والحديثَ الشريف َ ، وأن يكون وافرَ المحفوظ من الشعر والنثر .

وقد جُعِل للكتابة الديوانيّة رسومٌ لا بد أن يتقيّد بها الكاتب ؛ منها أن يبدأ بالتحميد ، ثم يجعل في صدر الرسالة ما يدل على غرضها ، ثمّ يبسطُ الكلام في المراد على وجه التفصيل والإحكام ، ثمّ يأتي الختامُ بما يقوّي البيانَ ويجعل الحُجّة ناصعةً مُلزمةً . والكاتب المقتدر من يوجز حين يقتضي المقامُ الإيجاز ، ويُسهب حين يقتضي المقامُ الإسهاب ؛ وكلٌّ بليغ في موضعه . ومن رسوم الكتابة أن يكونَ الخطُّ واضحًا ، وأن يأخذَ الحرفُ حقّه من الرسم ، وأن يقصرَ الكاتبُ الضبطَ على المُشكل من الألفاظ ، وأن لا يَعُمَّ به كلَّ لفظ ؛ وقد سمَّوا ضبطَ الألفاظِ كلّها بالشُّونيز نبزًا له ، وكراهةً أن يقع فيه كاتب !

فإذا أتمّ الكاتبُ عُدّته من اللغة والبلاغة زاد عليها أشياء من الفقه والفرائض ، واحتساب الخَراج ، ومِساحة الأرض لكي يكتبَ ، إذا كتب في هذه الشؤون ، وهو على علم ؛ ذلك أنّ إدارةَ الدولة ، وهو بمكانٍ منها ، تقتضي تلك المعارفَ ؛ من أجل أن يضع كلَّ شيء في نصابه .

ولا يتمّ للكاتب أمره ، ولا يستقيم شأنه إلّا بخُلُق رضيّ قويم ؛ وقد بسط ذلك عبد الحميد بن يحيى برسالته إلى الكتّاب فأوصاهم ، وهم عنده بمنزلة تلي منزلة الملوك والأمراء ، بالصدق ، والإخلاص ، والوفاء ، والعدل بين الناس ، والنأي بأنفسهم عن المطامع المذلّة ، وحفظِ العهد ، ورعاية الحقوق ، والتنزّه عن الكِبر والخيلاء ، وتجنّب أسباب المعاداة ؛ ذلك أنّ جانبًا من تصريف أمر الدولة ملقى إليهم .

لقد كانت الكتابة الديوانيّة شيئًا يجمع بين الإدارة والفنّ ؛ فلا الإدارة وحدها بكافيةٍ ، ولا الفنّ وحده بكافٍ ؛ بل لا بدّ لهما أن يأتلفا وينسجما لكي تبلغ الكتابةُ غايتها ، وتؤدي غرضها . فلا غروَ أن صارت الكتابةُ في العصر العبّاسيّ طريقًا إلى الوزارة ، وظهرت طبقةُ الوزراء الكتّاب ؛ الذين جمعوا الإدارة وفنّ الكتابة .

ولكي يُسدّدَ عملُ الكاتب ، ولكي يكونَ له مرجعٌ يرجع إليه في شؤون صنعته ؛ وُضِعت كتبٌ في هذا الباب ؛ من أشهرها وأهمّها كتابُ ابنِ قُتيبة ” أدب الكاتب ” ، وكتاب الصُّولي ” أدب الكُتّاب ” .

إنّ الكتابة الديوانيّة وجهُ الدولة ، ولسانُها الناطق ؛ فكلّما كانت فصيحةً مبينةً اندفع اللبسُ ، واتضح المراد …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى