يتنفس المرء الهواء عادةً ليعيش، لكن ثمَّة صنفًا من البشر لا يكفيه هواء الطبيعة ليعيش، لأنه يروم الحياة الحقة، ولا يكون السبيل إلى ذاك إلا من خلال الذاكرة الممتدة من زمن الأولين إلى مستقبل القادمين، حياةٌ حقةٌ لا ترى في الهواء مجرد مادةٍ كيميائيةٍ تدخل الرئتين، تقوم بعمليةٍ فيزيائيةٍ من خلال الانقباض والانبساط تمدُّ جسد المرء بالحركة ليعيش، بل تراه مادةً شعريةً تمتزج بالخيال والقدرة، وترتبط بالمحاولة والرغبة، لتصبح حروفًا تمدُّ المرء بحياةٍ حقَّةٍ يعيش من خلالها أزمنةً شتى، يقابل أممًا غابرةً من كتبٍ شتى، ثمَّ يمزجها بوحي خياله، ثمَّ يرسم حيواتٍ جديدةً لمخلوقاتٍ حقيقيةٍ أو خياليةٍ ستعرف طريقها للحياة بعد حين.
علاقةُ المرء بالكتابة يبتدئ ميلادها بعلاقته بالحروف، بذاكرة الشَّغف التي تعلن الكلمات الأولى، لتصبح القراءة ديدنه وسعيه في فهم أصول الحياة وفروع تجاربها، ولتصبح بوصلته في بناء معانٍ لفهمه وفلسفته الخاصة في الحياة. ثم بعد حينٍ تمتد معرفته بالشيء من الحدود المجردة إلى الحدود الواقعية، ذلك أنه عندما يقرأ لا يكتفي بالمستوى الأول، والذي نعني به مستوى الفهم العام، بل يرقى به إلى مستوى أعلى، وهو مستوى التطبيق. ومستوى التطبيق هذا يقتضي أن يبني المرء فهمه الخاص بما يقرأ، لا أن يدّعي الفهم ويلجأ إلى مراكمة المعلومات ليغطي عجز جهله. وإن تمكن من الفهم الحق هذا، استطاع أن يصل ويطوّر علاقته بالحرف من مجرد علاقة عبور وفهم إلى علاقة بناء؛ أي أن بإمكانه في تلك المرحلة أن يطوّع الحروف لينقل من خلالها معانيه وفهمه الخاص لما قرأ وما يرى ويعايش، وبذلك يضم اسمه وجهده إلى سلسلة الأثر والتأثير، بعد أن كان سابقًا في مجال التأثّر وحسب. والفيصل هنا في جهده هو ضرورة أن يكون أثره مما ينفع الناس، لأنه وحده الباقي كونه يمكث في الأرض، وغيره أشبه بالزبد الذي يذهب جفاءً.
عبر تواريخ البشر، كثر من استطاعوا عبور سلسلة البناء هذه، بدءًا من إتقان تجربة القراءة، ومرورًا بتجربة الفهم وبناء المعنى، وانتهاءً ببناء الحرف والولوج إلى عالم تجربة الكتابة، لكن قلةً من أحسنوا السعي واختاروا طريق الأثر والنفع، ولم يقتصر تركيزهم على الأثر وحسب. هؤلاء الصنف من البشر هم وحدهم ممن فهموا حقيقة العلاقة بين البشر والكتابة، إذ رأوا فيها السبيل الأساسي في تجاوز حجب الزمن لربط نفع الأولين بالآخرين، ونقل تجاربهم الممتدة في الذاكرة الإنسانية. وبهذا الفهم تمكنوا من نيل الحياة الحقة، وهي الحياة التي تستوجب الأثر النافع.