لم يعرف اليمن، في تاريخه الحديث، أزمةً أشدّ قسوة من غياب الرجل الذي يستطيع أن يتقدم الصف، فيتراجع الجميع خطوة للوراء. ليس لضعف الرجال فيه، ولا لفراغ أرضه من الشخصيات الثقيلة، بل لأن هذه البلاد ــ على تعاقب جراحها ــ لم تُمنح الفرصة لإنتاج زعامة تُشبهها حقًا، وتخرج من قلبها لا من هامشها، وتعبّر عنها لا عن أجزائها المتناحرة.
ليس كل من تصدّر هنا كان يفتقر للكاريزما الفردية، ولا كل من ظهر في المشهد كان خالي الوفاض من مواصفات القيادة، لكنّ الزعامة، في التحليل الاجتماعي والسياسي، ليست مجرّد مهارات شخصية ولا حضورًا عابرًا في لحظة إعلامية لامعة، بل هي ــ في جذورها ــ لحظة اجتماعية كاملة، لحظة تنكسر فيها الانقسامات، وتذوب فيها الهويات الجزئية، ويبحث فيها الناس عن رمز يختصر أحلامهم بدل أن يختصر جغرافيتهم.
لم يعرف اليمن، منذ أكثر من نصف قرن، مثل هذه اللحظة. بل كان يمضي من نكبة إلى نكبة، وهو يراكم فوق أكتافه انقسامات أعمق، ويضيف إلى ذاكرته أوزارًا جديدة، ويورّث أجياله جراحًا تجعل كل محاولة لإنتاج زعامة وطنية، أشبه بمحاولة بناء بيت جامع على أرض ملغّمة.
ولعلّ ما يجعل سؤال الزعامة في اليمن سؤالًا ملحًّا ومختلفًا، ليس فقط لأنّ البلد يعيش واحدة من أطول مراحله التشظي والانقسام، بل لأن اليمن ظلّ ساحة نادرة لا تسمح للزعامة الوطنية بالاكتمال أصلًا، ليس بسبب المجتمع وحده، بل بفعل بنية الدولة، وطبيعة النظام السياسي، وبفعل تدخلات الخارج التي لا تترك لزعيم أن يكبر، ولا تسمح لمركز أن يستقر.
في هذا المقال، لن يكون السؤال عن الأشخاص ولا عن أخطائهم ولا حتى عن فضائلهم. بل السؤال الأهمّ: لماذا يعجز اليمن ــ كبلد ومجتمع وبنية ــ عن إنتاج الزعيم الوطني الجامع؟ ولماذا، كلما ظهر رجل يمتلك شرط القيادة، أُجبر على أن يعود مجرّد شيخ قبيلة، أو زعيم منطقة، أو رأس طائفة؟ ولماذا تتحول الكاريزما هنا إلى لعنة شخصية لا إلى طاقة جمعية؟ هذا المقال محاولة لفهم هذه الظاهرة، من جذورها الاجتماعية، لا من سطحها السياسي؛ من البنية التي تنتج الرجال وتلتهمهم، لا من الأفراد الذين يجيئون ويمضون. محاولة لقراءة اليمن كمعمل طويل لتفتيت الزعامة، لا لإنتاجها.
متى يولد الزعيم؟ وما الشروط التي تمنحه شرعيته؟
الزعيم، كما يخبرنا منطق الاجتماع السياسي وتاريخ الأمم على حدّ سواء، ليس مجرد فرد خرج من الناس، ولا مجرّد شخصيّة لامعة قرّرت أن تتقدّم الصفوف. الزعيم لا يصعد بإرادته وحدها، بل تصعد به الحاجة، وتصنعه اللحظة، ويؤهّله السياق، ويطلبه الناس كأنهم يدعونه من مكان غامض في ذاكرتهم الجمعية. حين تنهار القواعد القديمة، وتفقد المؤسسات التقليدية معناها، ويتراجع الشعور العام بالأمان، يظهر الفراغ الكبير. والفراغ في السياسة لا يبقى فراغًا. لا بد أن يملأه أحد. في مثل هذه اللحظات، تتطلّع المجتمعات نحو رجل يملك القدرة لا فقط على ملء الفراغ، بل على تأطيره، وصياغة معناه، وتحويله إلى مشروع جديد.
لكنّ الزعامة ليست مجرّد نتيجة للأزمة، ولا ردّ فعل عفوي على الفوضى. لا كل من وُلد في الحرب، زعيم. ولا كل من تقدّم عند غياب الدولة، يستحق أن يُقال له قائد. لأن الزعامة، مثل أي ظاهرة اجتماعية حيّة، لا تولد من فراغ، ولا تنبت بلا شروط.هناك شروط خمسة، إذا لم تجتمع، تظلّ الزعامة ناقصة، تبقى السلطة سلطة، والقائد مجرد اسم، لكنّ صورة الزعيم لا تكتمل، ولا تُصدّق.
أول هذه الشروط أن يخرج الزعيم من قلب الحاجة الجمعية للناس، لا من حسابات الأطراف، ولا من دعم الخارج، ولا من فجوة القوة المؤقتة. أن يُطلب قبل أن يعرض نفسه، ويصعد لأن الناس تطلّعوا إليه، لا لأنه نجح في أن يفرض نفسه على الطاولة.
ثم لا يكفي أن يخرج من الناس، بل أن يكون ابنًا لبنيتهم العميقة، يتحدث بلغتهم الرمزية، يحمل ملامحهم، ويجسّد صورتهم التقليدية عن القيادة، أن يكون مفهومًا ضمن خيالهم السياسي، قابلاً للتصديق، قريبًا من وجدانهم، يتكلم من داخل العالم الذي يعيشون فيه، لا من فوقه. لا أحد يتبع رجلاً لا يفهمه.
ثم يأتي الشرط الثالث: أن يمتلك الزعيم قدرة على تجاوز هذه البنية دون أن ينكرها. ألا يبقى زعيم قبيلة، أو مذهب، أو منطقة، بل أن يُطل بلغة تتسع لهم جميعًا، خطاب يتجاوز التفاصيل دون أن يحتقرها، ويصوغ مشروعية فوقية لا تُقصي أحدًا، لكنها تتجاوزهم جميعًا.
ويليه الشرط الرابع: أن يحمل مشروعًا واضحًا، لا مجرد رغبة في السيطرة. المشروع ليس برنامجًا انتخابيًا، بل رؤية داخلية يراها الزعيم في نفسه، ويتحرك بها بثبات، تنعكس في اختياراته، في تحالفاته، في بوصلة خطواته. غياب المشروع يُحوّل الزعيم إلى مدير أزمة، أو وسيط تنازعات، لكنه لا يرتقي إلى رجل المستقبل.
وأخيرًا، لا يُكتب للزعامة أن تكتمل إن لم تُمنح استقلالها السياسي. الزعيم الذي يُصنع بمال الخارج، أو برضا السفراء، أو بدعوة من العواصم، قد يملك سلاحًا ورجالاً، لكنه لا يملك هالة الزعامة، لأنه لا يملك قراره. لا أحد يحترم رجلاً تُدار مشورته من خارج بلده.
هذه الشروط الخمسة، حين تجتمع، تخرج لنا الرجل الذي إذا تكلّم صدّقوه، وإذا دعا لبّوه، وإذا أخطأ غفروا له، لا لأنهم مغفلون، بل لأنهم يشعرون أنه منهم، وأن مشروعه لهم، وأن كلمته تُعبّر عنهم، لا عن لحظة سلطته فقط.
حين ننظر إلى اليمن، لا نجد نقصًا في الأزمات التي تستدعي زعامة، ولا في الرجال الذين يحملون بعض شروطها، لكن البنية الاجتماعية والسياسية فيه تشوّهت على نحو جعل اجتماع هذه الشروط في رجل واحد أمرًا بالغ الصعوبة. فمن يظهر، إما أن يأتي من فوق لا من الناس، أو يتحدث بلغة لا تُقنعهم، أو يفتقر إلى المشروع، أو يخضع لولاء خارجي ظاهر. ولهذا، لم تنتج البلاد سوى زعامات جزئية: زعامة قبيلة، أو طائفة، أو منطقة، أو جهاز. ولم يظهر حتى اليوم رجل اجتمعت فيه شروط الزعامة الوطنية الكاملة، فصار صوتًا لليمن كلّه، لا لطرفٍ فيه.
الدولة التي دخلت اليمن ولم تدخل قلوب وعقول اليمنيين
لم تكن الحرب الأخيرة في اليمن سوى الخاتمة المنطقية لمسار طويل من كسر شروط الزعامة الوطنية، لا مجرّد انفجار دموي عابر على خطوط السياسة. ما نراه اليوم من تعدد الرؤوس، وغياب القطب الجامع، وتنازع الولاءات، ليس حادثاً حديثاً، بل خلاصة بنية تاريخية بدأت مع دخول الدولة الحديثة إلى اليمن، وانتهت إلى شيء لا هو دولة ولا مجتمع، لا هو جمهورية ولا زعامة تقليدية.
البداية تعود إلى لحظة تأسيس الجمهورية عام 1962، حين فُرضت على اليمن من خارج شروطه الطبيعية. لم تكن ولادة الجمهورية اليمنية وليدة حراك اجتماعي مكتمل، ولا نتاجًا لتطور داخلي طويل، بل جاءت كعملية قيصرية منقولة عبر ضباط تدربوا في القاهرة، وعادوا ليجربوا نموذج الدولة المركزية، كما تخيّلوه في زمن ناصر.
ومع أن لحظة الثورة حملت معها وعداً كبيراً بتجاوز بنية الانقسام اليمني التقليدية، إلا أن ما حدث فعلاً هو أنها حطمت الشروط الاجتماعية التي كانت تنتج الزعامة، ولم تضع مكانها بنية حديثة حقيقية. قطعت الجمهورية الوليدة الطريق على الزعامة التقليدية، دون أن تُنتج زعامة جديدة تستند إلى مشروع جامع.
الشرط الأول للزعامة — أن تأتي من قلب الحاجة الجمعية للناس، لا كمنتج فوقي مستورد — تم اغتياله مبكرًا.
فالجمهورية لم تأتِ استجابة لرغبة شعبية شاملة، بل كنسخة جاهزة، مكتملة الشكل، منقولة بخطابها وصورها من القاهرة إلى صنعاء. لم يخترها اليمنيون، بل فُرضت فوقهم. ولذلك، لم يتشكل حولها إجماع، ولم تُنتج في الناس شعورًا بأنها منهم. وبقيت الزعامة الجمهورية منذ لحظتها الأولى زعامة عالقة: لا تنتمي للناس الذين تحكمهم، ولا تُقنعهم بأنها صوتهم.
الرجل الذي تولّى الأمر في بادئه كان الضابط عبدالله السلال، رجل اللحظة العسكرية بامتياز، لكنه لم يكن الرجل الذي جمع شروط الزعامة. جاء من المؤسسة، لا من المجتمع. ابن جيش حديث التكوين، لا ابن قبيلة كبرى ولا سلالة مشيخية. اسمه كان جديدًا على الوعي السياسي اليمني، وصورته لم تكن مألوفة كوجه زعامة داخل وجدان الناس. فُرض السلال بوصفه أول رئيس للجمهورية، لكنه لم يخرج من مطلب شعبي، ولا التفّ الناس حوله برغبة حقيقية. لم يكن يُرى على أنه امتداد للعرف، ولا تجسيدًا للرغبة العميقة في التغيير، بل مجرد رأس للانقلاب، وجزء من الخطة التي كتبها ضباط القاهرة، الذين كانوا عمليًا هم الزعامة الحقيقية خلف الكواليس.
السلال افتقد أول شرطين معًا: لم يكن ابنًا للبنية اليمنية العميقة، ولم يتحدث بلغتها. الرجل الذي يتحدث بلغة ناصرية مدجّجة بالمصطلحات الثورية، بدا غريبًا في مجالس القبائل، وباردًا في الوجدان الشعبي الذي لم ير فيه صورة الأب أو الشيخ أو القائد الحميم. لم يكن مفهوماً في خيال الناس، ولا مقبولًا في لغتهم. ثم إنه لم يحمل مشروعًا حقيقيًا، بل ظل أسير الشعارات الجاهزة التي وصلت مع النسخة المصرية للثورة. وحين بدأ يحاول فهم الداخل اليمني، ومحاورته، كان الخارج قد قرر استبداله، لأن القيادة الحقيقية لم تكن تُدار من صنعاء، بل من غرف القاهرة ودوائر القرار الإقليمي.
ثم جاء الحمدي. الرجل الذي كثيرًا ما يُشار إليه بوصفه فرصة ضائعة، أو زعامة وُئدت قبل أن تكتمل. لكن الحقيقة ـ حين تُقاس بمعايير الاجتماع اليمني ـ أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير.
إبراهيم الحمدي، على خلاف ما تُروّجه الذاكرة العاطفية عنه، لم يكن زعيمًا يمنيًا بالمعنى الجذري للكلمة. لم يكن ابن قبيلة مركزية ، ولم يكن متجذرًا في البنية التقليدية التي تمنح الشرعية في مجتمع لا تزال فيه القبيلة، حتى اليوم، هي الفضاء الرمزي الأوسع للثقة والتمثيل. لم يكن لغته لغتها، ولا إيقاعه من إيقاعها، ولا مرجعياته من داخلها. كان الرجل، في جوهره، ضابطًا يساريًا، متأثرًا بالأفكار البعثية والتنظيمات القومية العربية، أقرب في رؤيته إلى الدولة الحديثة المركزية كما صيغت في عقل القاهرة أو بغداد، منه إلى المزاج الاجتماعي اليمني. ولهذا، لم يكن مشروعه في الأصل أن يصالح القبيلة، بل أن يكسر نفوذها، أو يطوي صفحتها نهائيًا، ويبني فوق أنقاضها دولة جمهورية نظيفة، صارمة، عصرية.
وفي بلد أكثر من نصفه قبائل، وأكثر من تاريخه أعراف لا دساتير، وأكثر من سلطته رمزية لا مؤسسات، بدا هذا الطموح بمثابة صدام مباشر مع المنظومة التي يُفترض أن تمنح الزعيم جذوره قبل أن تمنحه موقعه. لا أحد يُنكر أن الحمدي امتلك كاريزما شخصية نادرة في المشهد اليمني: الحضور، البساطة، الخطاب النظيف، محاربة الفساد، محاولة تأسيس مشروع إداري واضح، ضبط الجهاز الحكومي، وبناء ثقة الناس بالدولة.
لكنه، في ذات الوقت، لم يكن يتحدث بلغة اليمن التقليدية. لم يكن رمزًا مفهوماً ضمن الخيال القبلي، ولا امتدادًا لزمن الزعامة الشعبية المعروفة. كان ـ ببساطة ـ مشروع تحديثي فوقي، استورد مفاهيم الدولة الحديثة من كتب الخارج، وحاول زرعها دفعة واحدة في أرضٍ لا تزال تتحرك بلغة العرف، وموازين القبائل، وخطوط النسب، وأعراف الوساطة. وهذا ما جعله، رغم محبة بعض الناس له، غريبًا عن البنية التي كان يحكمها. لم تلتفّ حوله القبائل، ولم يكن بإمكانه مخاطبة مراكز الثقل التقليدية بلغة تفاهم، بل بلغة قطيعة. أراد إعادة تشكيل المجتمع من الأعلى، ولم ينتبه أن المجتمع لا يقبل أن يُعاد تشكيله من خارج لغته.
والأخطر أن الحمدي لم يكن يتحرك بصفته زعيمًا يمنيًا مستقلًا، بل بصفته ابنًا لنظام جمهوري مأزوم، وفكر سياسي خارجي قادم من المدرسة البعثية، وأجهزة الدولة التي تحكمها صراعات خفية بين مراكز القوة في الشمال والجنوب، وبين البيروقراطية العسكرية. ولذلك، لم يكن سقوط الحمدي مجرد نتيجة لتآمر شخصي ضده، بل لأنه اقترب كثيرًا من جدار المسافة بين المشروع والفهم الاجتماعي له. مشروعه كان جادًا، لكنه لم يكن متصالحًا مع الشروط اللازمة لتحويله إلى زعامة وطنية.
كان مشروع دولة… لا مشروع زعيم. وكان صوته مرتفعًا، لكن أذُن القبائل كانت مغلقة أمامه. ولهذا، حين سقط، لم تبكه القبائل ، بل بكاه سكان المدن الذي لم يمثلوا حينها ١٥٪ من سكان اليمن. بقي في الذاكرة بوصفه رجلاً نزيهًا، محبوبًا، واضحًا… لكنه لم يكن يومًا زعيمًا مكتملًا.
لماذا حاولت الجمهورية أن تنبت الزعيم من خارج تربته
ما جعل اليمن، فجأة، تنتج رجالًا مثل عبدالله السلال، ثم لاحقًا إبراهيم الحمدي، لم يكن مسارًا اجتماعيًا طبيعيًا، بل تلك القطيعة التي أحدثها دخول الجمهورية إلى البلد، قطيعة هزّت قواعد إنتاج القيادة من جذورها. فجأة، لم يعد الشيخ هو المرشّح الطبيعي للزعامة، ولا النسب، ولا رصيد القبيلة، بل الكلمة الآن للدبابة، والخطاب الجديد، والشرعية الثورية التي تسقط على رجل مهما كان غريبًا عن أعراف الناس، يكفي أن يكون ابن المعسكر لا ابن المجالس.
هكذا بدأت اليمن تنتج رجالًا سياسيين بلا نسب، ولا ذاكرة اجتماعية، ولا خيال رمزي سابق. قادة بالقرار لا بالامتداد، رؤساء بالحظ أو بالتحالف، لا بحجم المكانة. وهذه ليست إدانة أخلاقية لهؤلاء الرجال، بل تشخيص حقيقي لطبيعة اللحظة: لحظة قفزت فيها الزعامة من فوق الواقع، لا من داخله، وقُطعت فيها السلسلة التي طالما كانت تصل بين الأرض ورجالها. والمفارقة أن هذه اللحظة ـ التي أرادت أن تؤسس للزعامة الحديثة ـ نشأت على أنقاض البنية الوحيدة التي كانت قادرة على إنتاج القيادة الطبيعية في اليمن: القبيلة.
في اليمن، لم تكن القبيلة مجرد رابطة اجتماعية. بل كانت نظامًا سياسيًا مصغّرًا، مؤسسة عُرفية تحكم وتفصل وتحمي وتُنتج من داخلها شيوخًا تتراكم حولهم المكانة، لا تُمنح لهم. كان الشيخ يتكوّن ببطء: من حضوره، ومن عدالته، ومن إنفاقه، ومن نسبه، ومن سلوكه، ومن رصيده في الوساطة، ومن احترامه للأعراف. لم تكن الزعامة قرارًا فيها، بل نتيجة.
لكن الجمهورية، حين جاءت، لم تُدخل القبيلة في مشروع الدولة، بل أدخلت عليها الدولة كمشروع نقضٍ وتجاوز. لم يكن همّ الدولة أن تستوعب القبيلة، بل أن تقضي عليها أو تهمّشها، لا لشيء، إلا لأن النموذج المستورد من الخارج كان يرى في القبيلة نقيض التحديث، وعائقًا أمام التقدم، وبقايا زمن لا يُبنى عليه شيء. فكان أول ما فعلته الدولة، هو أن نزعت من القبيلة وظيفتها السياسية، ثم حاولت أن تنتج بديلًا من داخل مؤسساتها. أسقطت عن الشيخ مكانته، لكنها لم تمنح المواطن شيئًا ملموسًا بدلًا عنها. وبذلك، لم تفكك القبيلة لتُحرر الفرد، بل فكت القبيلة وأبقت الفرد معلقًا بين دولة لا تملك شرعية الأرض، وأرض لا تعترف بشرعية الغريب.
وفي هذا التوتر، انفجرت شروط الزعامة كلها. الزعيم الذي يولد طبيعيًا من بنية محلية وشرعية عرفية، تم استبداله برجل يهبط بقرار. والشيخ الذي كان يتحدث بلغة القبائل، أصبح يتلقى نصوصه من وزارة، أو يردد خطابًا لا يستوعبه أهل بيته. ومن جهة أخرى، لم يكن رجل الدولة الجديد مقبولًا كزعيم، لأنه لم يتشكّل من داخل هذه البنية، ولا نال احترامها، ولا فهم مفرداتها. وبهذا، سقطت قدرة البنية الاجتماعية على إنتاج زعيم من داخلها، كما فشلت الدولة في إنبات زعيم من خارجها.
مع الزمن، أدركت الدولة أنها لا تستطيع الاستغناء عن القبيلة، لكنها لم تعد قادرة على استيعابها أيضًا. فبدأت تشتري ولاء المشايخ. لا تحاورهم ولا تحترمهم، بل تشتريهم. صارت الزعامة تُمنح براتب، وبمنصب، وبصفقة، لا بتراكم رمزي. فتحوّلت القبيلة من بنية منتجة للقيادة، إلى شبكة مصالح تدور في فلك السلطة. ولم يعد الشيخ يجلس في قلب قبيلته، بل في ردهات الوزارات، ينتظر توقيعًا أو “مكرمة” أو ترقية. وهكذا، تآكلت القبيلة دون أن تسقط. بقيت صامدة كجسد، لكنها فقدت عقلها السياسي. والدولة، بدل أن تنمو معها، نمت ضدها ثم عجزت عن الاستغناء عنها. فصار المشهد اليمني تحكمه سلطة بلا شرعية، ومجتمع بلا رأس.
النتيجة؟ أنه في اللحظة التي يبحث فيها اليمن عن زعيم، لا يستطيع أن يراه في رجل الدولة، لأنه غريب. ولا يستطيع أن يراه في شيخ القبيلة، لأنه مشوه ومستهلك. في ظل ذلك الصراع بين التصور التقليدي والمستورد للزعامة، فقد اليمن الممرات الطبيعية التي كان يُنتج من خلالها زعاماته. فلا عاد الشيخ هو الطريق، ولا استطاعت الدولة إفراز ما يستحق أن يُسمى رجل الجميع.
طريقان ناقصان… بين شيخٍ لم يُترك ليحكم، ورئيسٍ لم يُسمح له أن ينتمي
في هذا الفراغ الواسع الذي خلّفته الدولة الجمهورية، بعد أن أجهزت على القبيلة دون أن تنجب زعيمها، برز في اليمن طريقان متوازيان نحو الزعامة، كلاهما كان ناقصًا، وكلاهما لم يكتمل. الطريق الأول: القبيلة، ويمثّله عبدالله بن حسين الأحمر، شيخ حاشد، وسليل واحدة من أقوى العصبيات اليمنية وأعمقها رسوخًا. الرجل الذي كان، في لحظة ما، قادراً أن يُصبح أكثر من شيخ قبيلة، وأقلّ من رئيس دولة، لكنه لم يُمنح الفرصة ليجسر الهوة بين العالمين. والطريق الثاني: الدولة، ويمثّله علي عبدالله صالح، الرجل الذي تسلّق من سنحان إلى القصر الجمهوري، لا مدفوعًا بنسب عريق، ولا محمولًا على أعراف قبيلة كبرى، بل مدفوعًا بالبراعة، والخفة السياسية، وقُدرته على المناورة بين الجميع.
كلا الرجلين سكنَ الموقع، لكن أحدهما كان يمتلك الأرض، ولم يُترك ليمتلك الدولة، والآخر امتلك الدولة، وظلّ غريبًا عن الأرض.
عبدالله بن حسين الأحمر، في سياق الاجتماع اليمني، كان أقرب ما يكون إلى الزعامة الكلاسيكية المكتملة: الشيخ الذي لا يُملي، بل يتوسط. لا يقود بجهاز، بل بالهيبة. رجل تتقاطع عنده القبائل، وتُسند إليه المهمات الحرجة، ويُنظر إليه في لحظات الأزمات بوصفه قاضيًا أعرافياً أكثر منه فاعلًا سياسيًا. كان في لحظة ما يُمكن أن يكون — لو جرى التعامل معه كرأسٍ وطني لا كأداة نفوذ — نواةً طبيعية لزعامة قبليّة وطنية، تنطلق من عمق الأرض، وتخاطب الناس بلغتهم، وتجمع شمال اليمن على الأقل في هيئة متماسكة.
لكن الأحمر، رغم مكانته، لم يُترك ليخرج من عباءة المشيخة إلى فضاء الزعامة الوطنية. لم يُسمح له بأن يُصبح رمزًا يتجاوز قبيلته، لأن النظام الجمهوري يرفض أن يمنح الزعامة القبلية شرعية الدولة، فتمّ استخدام الأحمر، لا تمكينه. قُرّب حين احتاجته الدولة، وقُزّم حين طمح أن يتمدّد. عاش في موقع “الشيخ الكبير”، لكن لم يُمنح يومًا فرصة أن يكون “الرجل الكبير” على المقاس الوطني. امتلك الشرط الأول والثاني: خرج من بيئته، وكان مفهومًا داخلها، لكنّه لم يُسمح له أن يحمل مشروعًا يتجاوزها، ولم يُترك له هامش الاستقلال الذي يُنتج الزعامة.
أما علي عبدالله صالح، فكان نقيضه تمامًا. رجل من خارج مشيخيات حاشد وبكيل، من قبيلة سنحان الصغيرة التي لم تكن تُصنّف تاريخيًا ضمن القبائل المركزية في ميزان اليمن السياسي. لم يمتلك الشرعية الاجتماعية، ولا الموقع الرمزي، لكنه امتلك شيئًا مختلفًا: السيطرة على مفاصل الدولة في لحظة كانت البلاد تبحث عمن يُديرها، لا من يُلهمها.
تسلّق صالح السلطة، لا من باب الزعامة، بل من باب الفراغ وسُلم الزعامة الموازي الذي خلقه نظام الجمهورية الدخيل: الجيش. ثم بدأ يصنع صورته بالتدريج: تحالفات، شراء ولاءات، توازنات دقيقة بين المشايخ والضباط، وبراعة في اللعب على تناقضات الداخل والخارج. لكنه، طوال عقوده، لم ينجح في ملء الفراغ الرمزي الذي يجعل من الحاكم زعيمًا. ظلّ في أعين الناس رئيسًا قويًا، لكن ليس “الرجل الجامع”. كان بارعًا في الإمساك، لكنه لم يكن مؤهلًا للالتفاف الجمعي، لأن شرط النشأة كان غائبًا. لم يخرج من بنية ذات جذور، ولا تحدث بلغة القبائل، ولا امتلك مشروعًا غير البقاء. والأهم: لم يكن يُرى داخل الخيال الاجتماعي اليمني كرمز أصيل، بل كفاعل سياسي ناجٍ بالحيلة و وإتقانه “الرقص على رؤوس الأفاعي”.
أدرك صالح بنفسه هذه الأزمة البنيوية التي تحرمه من الشرعية الرمزية، فحاول معالجتها بوسائل أخرى. اقترب باكرًا من بيت الأحمر، وحرص على تقديم نفسه كـ”حليف لحاشد”، بل كممثل لامتدادها السياسي. وفي الوقت ذاته تجنّب ذكر نسبه الكامل “عفاش”، حتى صار الاسم نفسه مجهولًا لغالبية اليمنيين حتى لحظة مغادرته السلطة. كان يعرف أنه لا يُنسب إلى سلسلة الزعامة الطبيعية، فحاول صناعة النسب السياسي عبر تحالفات رمزية. لم يُعلن انتماءه الصريح، بل موّه أصله، فالزعامة في اليمن لا تُكتسب فقط بالسلطة، بل تبدأ ـ قبل ذلك ـ من النَسب، والانتماء، والاعتراف الاجتماعي العميق.
وهكذا، وقف اليمن بين رجلين، كلاهما يحمل نصف الزعامة: الأول، شيخٌ يملك الجذور ولم يُمنح السلطة. والثاني، رئيسٌ يملك السلطة، ولا جذور له. وكلاهما، حين اقترب من لحظة التوسّع الرمزي — أن يتحوّل من رجل طرف إلى رجل مركز — قُطع الطريق. الزعامة القبلية تمّ تطويقها داخل إطارها، والزعامة الجمهورية تمّ بناؤها على التنافر مع المجتمع. وفي النهاية، لم يصعد من أحدهما “رجل الجميع”. لا الأحمر استطاع تجاوز قبيلته ليتحدث باسم الوطن، ولا صالح أقنع القبائل بأنه أحدها أو أنه يتحدث بلغتها.
وهكذا، حين سقط الأول، خسر اليمن آخر رموزه الاجتماعية القابلة للتجميع. وحين قُتل الثاني، لم تنقسم البلاد عليه، بل انقسمت بسببه.
لم تتوقف المشكلة عند تشوه التصور الجمعي للزعامة. فما إن أصبح الداخل هشًّا، حتى دخل الخارج بثقله.
الخارج الذي يوزّع الزعامة كي لا يكبر أحد
في اليمن، لم تعد الزعامة تحمل صورة واحدة، ولا ظلًّا مألوفًا، ولا سيرة يُجمع الناس حولها. انكسرت ملامح القائد في وعي اليمنيين، لا لأنهم تخلّوا عن حاجتهم لزعيم، بل لأن التحولات العنيفة في البنية السياسية والاجتماعية شوّهت خيالهم الجمعي، وقطعت الصلة بين القائد والناس. لم تعد الزعامة تُفهم بوصفها امتدادًا لمكانة، أو تعبيرًا عن شرعية، بل باتت تُرى كموقع مفروض، أو وظيفة تتغير بقرارات من فوق. الزعيم في الخيال الجمهوري الجديد لم يكن امتدادًا طبيعيًا للناس، بل صورة مصنّعة في سياق السلطة، محمولة غالبًا على تحالف خارجي أو جهاز داخلي، بلا جذر اجتماعي، ولا ذاكرة حقيقية في المجتمع. ولهذا، حين رفعته الدولة، لم يرفعه الناس. وحين وضعته على رأس البلاد، ظلّ الجمهور ينظر إليه من مسافة: لا يراه أبًا، ولا شيخًا، ولا قائدًا، بل موظفًا في بنية سلطوية غريبة، تُحكم ولا تُقنع، تتكلم ولا تُفهم. وفي المقابل، لم تستطع القبيلة أن تستعيد دورها التقليدي في تقديم الشيخ بوصفه رمزًا، لأنها ـ هي الأخرى ـ أصبحت مرتبكة، مرتهنة، تُمارس سلطتها بخجل، وتحاول تمويهها بلغة وطنية مشوشة، لا تصدّقها هي نفسها. لم يعد الشيخ قادرًا على أن ينهض بالصورة الكاملة للزعيم القبلي، ولا قادرًا على أن يتحوّل إلى رجل دولة. وقف في المنتصف: يتلقى، يفاوض، يبرر، لكنه لا يُقنع أحدًا.
هكذا بدأ الانكشاف الكبير. التنافر العميق بين شروط الزعامة المحلية، وصورة القائد كما فرضها النظام الجمهوري الجديد، خلق فراغًا في الخيال السياسي اليمني لم يُملأ حتى اليوم. الزعيم، كما عرفه اليمنيون تاريخيًا، لم يعد له ملامح ثابتة. سقطت صورة الشيخ الجامع، ولم تولد صورة جديدة قابلة للتصديق. اختلطت وظيفة القيادة بمواقع النفوذ، وتحوّلت السلطة إلى موقع إداري بلا رمزية، أو إلى سلطة أمر واقع بلا مشروعية.
ومع سقوط السلطة، وسقوط صورتها، انفتح الباب أمام الخارج — لا لأن الخارج كان يملك خطة للهيمنة، بل لأن الداخل لم يعد يملك بنية تحميه. ما إن غاب التصور الواضح والجامع للزعامة، حتى أصبح من الممكن لأي طرف خارجي، قريبًا كان أو بعيدًا، أن يُنتج “زعامات” بمواصفات دقيقة، لا تستدعي توافقًا شعبيًا، ولا تراعي معايير تاريخية، ولا تنطلق من حاجة اجتماعية. في بلد فقد شروط إنتاج زعامته من الداخل، لم يعد الخارج بحاجة إلى كثير من الجهد لصناعة رجال قابلين للاستخدام. وهكذا، تحوّل التدخل الخارجي إلى نمط توزيع مُحكم للزعامة: هذا له شيخ قبيلة، وذاك له متحدث سياسي، وآخر له قائد عسكري، وآخر شيخ دين، ورابع واجهة إعلامية. وكل هؤلاء يتحركون ضمن هوامش مرسومة، لا يتجاوزون مناطقهم، ولا يتحدثون باسم غيرهم، ولا يُتركون لينموا خارج أدوارهم الوظيفية.
وفي بلد كان الناس فيه يعرفون زعيمهم بالفطرة، حتى قبل أن يُعلَن، أصبحوا اليوم لا يعرفون كيف يقيّمون شرعية أحد الزعماء. ليس لأنهم تخلوا عن حاجتهم للقيادة، بل لأن شروط الزعامة نفسها نُسفت من داخلهم، ولم تُمنح فرصة لإعادة البناء. النتيجة أن الزعامة، في اليمن، لم تَعُد مسارًا طبيعيًا يولد من الأرض، بل قرارًا سياسيًا يُصاغ في الخارج، ثم يُوزّع على الداخل كمحاصصة.
رجال اللحظة المكسورة... حين لا تكتمل الزعامة في أحد
حين ننظر إلى الخارطة اليمنية اليوم، لا نرى زعيماً واحداً في منتصفها، بل عدة رجال يدعون الزعامة ومن هؤلاء ثلاثة رجال يقفون عند تخوم الزعامة، لكنهم جميعًا لا يدخلونها. لا لأنهم ضعفاء، بل لأن كل واحد منهم هو صورة مكتملة لغياب أحد شروط الزعامة الكبرى. الثلاثة، في واقع الأمر، ليسوا استثناءات، بل تجسيدا دقيقا لمرحلة ما بعد الجمهورية، ما بعد الفوضى، ما بعد التشوه. كلٌ منهم يحمل سيرة هوية لم تكتمل، وأزمة مجتمع لم تُحل، وخريطة شُقّت في منتصفها ثم تُركت دون رجل يجمع أطرافها.
أولهم، وأكثرهم حضورًا في الواقع العسكري والسياسي، هو عبدالملك الحوثي. رجل لا يملك فقط تنظيمًا مسلحًا، بل شبكة متماسكة: خطاب ديني صلب، جماعة أيديولوجية منظمة، امتداد مذهبي عابر للحدود، ودعم خارجي ثابت. يقف في صنعاء اليوم بوصفه “القائد” الوحيد الذي لم ينازعه أحد في موقعه منذ سنوات. لكنّ هذا الحضور التنظيمي لا يخفي الحقيقة الأساسية: أنه الأقل أهلية للتحوّل إلى زعيم وطني جامع.
عبدالملك، لا يملك كاريزما القيادة، لا في حضوره الشخصي، ولا في خطابه، ولا في علاقته بالناس خارج جماعته. صعوده لم يكن ناتجًا عن جاذبية فردية، ولا عن انتماء اجتماعي واسع، بل كان نتيجة فراغ سياسي قاتل تركه سقوط الدولة وتفكك السلطة، وصعود جماعة كانت تفتقر إلى بديل من داخلها بعد مقتل مؤسسها حسين الحوثي.
لقد جاء عبدالملك امتدادًا اضطراريًا لإرث حسين، لا امتدادًا طبيعيًا لمسار زعامة متكاملة. أخوه كان يملك نبرة ثورية، وخطابًا تعبويًا، وحضورًا رمزيًا أكثر التصاقًا بالمشروع، بينما عبدالملك حافظ على الموقع، لكنه لم يصنع صورته الخاصة، بل استند إلى تماسك الجماعة، وانضباطها العقائدي، والدعم الخارجي الذي احتضنه سياسيًا وعسكريًا.
خطابه يظل أسيرًا للرؤية المذهبية المغلقة، لا يتجاوزها، ولا يملك أدوات كسرها. لا يتوجه إلى اليمنيين كافة، بل إلى جماعته وحدها. يتعامل مع من سواها بوصفهم خصومًا أو مشاريع هداية. وحتى حين يتحدث عن “الدولة”، فإن حديثه يظل محصورًا ضمن حدود سلطته العقائدية، لا ضمن رؤية سياسية شاملة يمكن أن تُقنع جمهورًا خارج منطقته أو مرجعيته. له تأثير داخل جماعته، لكنه يفتقر إلى الحضور الرمزي خارجها. لا يملك لغة سياسية جامعة، ولا مفردات وطنية مفتوحة، ولا كاريزما من النوع الذي يولّد الالتفاف الجماعي. هو رجل سلطة في مساحة ضيقة، لا زعيم وطن في لحظة انفراج.
ولهذا، يمكن القول إن عبدالملك الحوثي، رغم امتلاكه أدوات السيطرة، يفتقر إلى أهم مكونات الزعامة: القبول المجتمعي العابر، والكاريزما الشخصية، واللغة الجامعة. إنه زعيم أمر واقع، لا رمز أمل.
ثم هناك سلطان العرادة، الوجه الأكثر قبولًا في المعسكر الآخر، الرجل الذي بدا، في لحظة ما، وكأنه الإجماع الممكن. شيخ قبيلة، وسطي، محافظ، له جذور اجتماعية عميقة، لم يتورط في مشاريع قمع أو فساد كبير، وظل على مسافة محسوبة من الأحزاب والقوى المتنازعة. يجمع في صورته بين شخصية القائد الإداري، والشيخ القَبلي، والسياسي الذي يعرف كيف يحفظ التوازنات دون أن يصطدم مباشرة مع أحد.
لكنّ العرادة، رغم كل ما توفر له، لم يخرج من مأرب إلى اليمن الأوسع، لا بالخطاب، ولا بالحضور، ولا بالمشروع. بقي داخل صورته كممثل نزيه لمنطقة ناجية، لا كقائد ممكن لوطن جريح.
ولأنه لم يمتلك الطموح الكافي للانتقال إلى موقع الزعامة الجامعة، ربط نفسه بمشروع سياسي متهالك، اسمه “الشرعية”، وتحديدًا تحت مظلة “المجلس الرئاسي”، وهو الكيان الذي لم يُنتج رؤية ولا قرارًا مستقلًا، بل اكتفى بإعادة تدوير الخسارات القديمة في شكل جديد. وبذلك، قزّم العرادة نفسه سياسيًا، وربط مكانته برصيد مؤسسة منهارة شرعيًا وأخلاقيًا في نظر جمهور واسع من اليمنيين.
هو ابن مأرب، ويُحترم فيها. لكن هذا الاحترام لم يتحول إلى حضور وطني حقيقي. لم يتحدث بلغة تُقنع اليمني في تعز، ولا في عدن، ولا في الحديدة. لم يطرح نفسه كصوتٍ بديل، بل كمجتهد في إدارة ما تبقّى من موقعه داخل كيان سياسي لا يحظى بثقة الداخل، ولا بسيطرة كاملة على الأرض.
امتلك العرادة الشرطين الأولين من شروط الزعامة: خرج من الناس، ويتحدث بلغة مقبولة، لكنّه لم يحمل مشروعًا يتجاوز ذلك، ولا تقدم كرجل يجمع، بل كسياسي يُحسن البقاء.
أما ثالث الثلاثة، فهو طارق محمد عبدالله صالح. أكثرهم التباسًا، وأكثرهم إشكالًا. الرجل الذي خرج من قلب النظام السابق، بعلاقات عائلية، وخلفية عسكرية، وتاريخ ثقيل، ورغبة معلنة في الثأر السياسي، لكن بلا شرعية اجتماعية واضحة، ولا جذر قبلي، ولا لغة تُقنع الناس بأنه يمثل مشروع جديد.
طارق ليس ابن لحظة يمنية، بل ابن انهيار النظام. لم يصعد من قبيلة، ولا من مشروع اجتماعي، ولا من حاجة عامة، بل من فجوة قُتِل فيها عمّه، وتفككت فيها صنعاء، فظهر فجأة، بوجه قديم، في لحظة تبحث عن جديد. حاول أن يُقنع الداخل بأنه ابن الجمهورية، لكنه ابن بيت صالح. وحاول أن يتمايز عن الحوثي، لكنه لم يقدّم مشروعًا بديلاً. لا يتحدث عن مشروع دولة، ولا عن عقد اجتماعي جديد، ولا عن مصالحة، بل يدور في خطاب غائم: عودة الجمهورية، استعادة صنعاء، بناء جيش وطني… لكن من أين؟ ولماذا؟ وكيف؟ لا أحد يعرف.
والأهم: أن الرجل حتى الآن، يُنظر إليه باعتباره “واجهة خارجية”، لا صوتًا داخليًا. ليس في كلماته ما يوحي بأنه خرج من حاجة الناس، ولا في تحركاته ما يشير إلى أدنى استقلال عن الدعم الخارجي. ولذلك، لا يُرَى كزعيم قادم، بل كضابط سابق في مهمة مُتأخرة.
وهكذا، في خريطة اليمن اليوم، يقف هؤلاء الثلاثة:
رجلٌ محاصر في طائفته، ورجلٌ مقيم في قبيلته، ورجلٌ يقف على تمويل الخارج، عالقٌ في ماضيه.
لا خلاص إلا برجل جريء… يعيد وصل ما قطعته الجمهورية
اليمن، بعد هذه الحرب الطويلة، لا يحتاج زعيمًا يُطمئن الناس فقط، ولا مجرد شخصية وسطية تجيد المناورة، بل بحاجة إلى رجل جريء بمشروع جريء، يواجه الأزمة لا بوصفها لحظة عابرة، بل بوصفها إعلان إفلاس لكل ما سبق. رجل لا يخجل من كونه ابنًا لبنية محلية، بل يعتز بها. لا يطمس انتماءه كي يرضي الخطاب الحديث، بل يستثمر في انتمائه ليقدّم مشروعًا يتجاوزه. رجل يستغل ما تبقّى من لغة القبيلة، ومنطق الشرف، وتقاليد المشيخة، ليعيد بها رسم خريطة سياسية جديدة، تردم ما قطعته الجمهورية من صلات، وتستعيد ما خسرته الدولة من رمزية.
لا نحتاج لرجل يموّه تاريخه كي يبدو مدنيًا. ولا لرجل يرفع شعارات عابرة لا تمسّ أحدًا. ولا لرجل يتحدث كأنه مترجم لخطاب دولي مكتوب خارج بلاده. نحتاج لرجل لا يخجل من صورة الزعامة كما يعرفها اليمني: أن تكون من الناس، ولهم، ومفهومة ضمن خيالهم، لكنها لا تتوقف عندهم. بل تأخذهم إلى ما بعدهم، وتقول لهم: هذه هو حُلم الدولة الذي لم يتحقق، وهذه هي القيادة التي لم تُجرّب بعد. رجل لا يُطمئن القوى التقليدية، بل يعيد تعريفها. لا يُدير الحرب، بل ينقض منطقها. لا يرث السلطة، بل يعلن القطيعة الجريئة مع ما قبلها، دون أن يُكفّر المجتمع أو يحتقر ذاكرته.
الزعامة اليوم لا تحتاج وصفة قديمة. تحتاج رجلاً يرى بوضوح ما الذي سقط، ويعرف بدقة ما الذي يمكن إنقاذه. وما سقط هو: الدولة الجمهورية. وما يمكن إنقاذه، هو: الزعامة التي تُخرج من البلد من هذا الانقسام، شرط أن تكون ذات جذرٍ اجتماعي محلي أصيل.
لكن لا يمكن لمثل هذه الشخصية ـ حتى لو وُجدت ـ أن تنجح وحدها. رجلٌ بمشروع جريء، متصالح مع محيطه، ومنسجم مع بنيته، يحتاج إلى دعم خارجي سخي، لا يضعه في جيب أحد، بل ينهي حالة الأقطاب المتزاحمة، ويفتح الطريق لحالة القطب الواحد. ولن يكون هذا ممكنًا إلا إذا جاء الدعم من الجهة الوحيدة التي تملك المصلحة والقدرة معًا: الشقيقة الكُبرى.
الزعامة الوطنية ليست تهديدًا… بل ضمانة للمصالح
لم تكن المملكة العربية السعودية، يومًا، بعيدة عن اليمن. الجغرافيا حكمت، والمصالح فرضت، والتاريخ ربط بين البلدين أكثر مما فرّق. لكن هذا القرب، مع كل ما فيه من تشابك، لم يكن دائمًا نعمة، ولا دائمًا نقمة. بل كان، كما كل علاقة غير متكافئة، عرضة للتأويل، وساحة مفتوحة لحسابات الأمن أكثر من حسابات السياسة.
منذ دخول الجمهورية إلى اليمن، والسعودية تنظر إلى الجنوب بشيء من الحذر، وبكثير من الريبة. جمهورية مدعومة من القاهرة، ثم دولة موالية لبغداد، ثم دولة هشة تلعب على الحبال الخليجية، ثم بلد تمزّقه الحروب، ويتناسل فيه الفشل، وتتنازع أطرافه قوى دولية وإقليمية، بعضها يناصب المملكة العداء، وبعضها لا يفهم ولا يحترم وزنها.
ولذلك، ظلّت السعودية تتعامل مع اليمن ليس بوصفه دولة، بل بوصفه ملفًا أمنيًا طويل الأمد، لا تريده قويًا فيخاصم، ولا مفككًا فيفيض. ولفترة طويلة، بدا أن إدارة التناقضات داخل اليمن أكثر نفعًا من دعم مركز واحد. كلما ضعفت جهة، رُفعت أخرى. كلما كبر طرف، جُرّت رجله. سياسة التوازنات هذه، لم تكن عبثية، بل مدروسة، ومفهومة ضمن بيئة الخليج الحذرة من أي مشروع زعامة غير مضبوطة.
لكن بعد كل هذه السنوات، وبعد كل هذه الكلفة — من الحرب، والتدخل، والدعم، والفوضى — بدا أن اليمن المفكك لا يعود على المملكة بشيء سوى المزيد من الاستنزاف، والمزيد من المفاجآت غير السارة. لهذا، لم يعد الرهان على تعدد الشركاء مجديًا. بل العكس: اليمن بحاجة إلى رجل واحد، واضح، يمكن أن يُبنى عليه، داخليًا وخارجيًا.
ليس رجلًا تابعًا، بل رجلًا يفهم التوازن، ويحترم الجوار، وله امتداد قبلي واجتماعي محلي وإقليمي، ويملك الحد الأدنى من الاستقلال عن مشاريع الخارج. رجل يمكن أن يجمع القبائل حوله، ويعيد هندسة السلطة بطريقة تتماشى مع الواقع اليمني، وتخدم استقرار المملكة، بدل أن تخلق مزيدًا من الفوضى على حدودها.
الرهان على زعامة يمنية محلية، لها شرعية حقيقية، ومقبولة شعبيًا، أفضل بكثير من إدارة شبكة متداخلة من الفصائل، والمجالس، والقيادات المتصارعة، التي تستهلك الوقت والموارد، ولا تضمن شيئًا على المدى البعيد. زعيم واحد، ذو خطاب وطني، مستقل القرار، مفهوم في بيئته، وقادر على فرض الاستقرار، يخدم المملكة أكثر من عشرات الولاءات المبعثرة.
استمرار المشهد كما هو عليه اليوم، يعني أن اليمن سيبقى ساحة اضطراب مزمن. أما التفاهم مع قيادة وطنية متماسكة، صاعدة من الداخل، وقادرة على إعادة بناء الدولة من قاعدة اجتماعية حقيقية، فهو الخيار الأجدى، والأقل كلفة على المدى الطويل.
الزعامة الوطنية المستقلة، في الحالة اليمنية، ليست خطرًا على الجارة الكبرى، بل هي استثمار سياسي وأمني عقلاني. والسؤال اليوم لم يعد: من يمكن السيطرة عليه؟ فلو سيطرت على الفاعل، لا ضامن من سيطرة الفاعل على الأرض، بل: من يمكن الوثوق به لبناء يمن مستقر يمكن التفاهم معه؟ والإجابة تبدأ من: دعم شروط الزعامة، لا إجهاضها.
ألف شكر على هذا الإلمام المفصل لمعضلة بلادنا الشائكة..
وفقكم الله وزادكم علما وفضلا
لما حصر رجل اللحظة في ثلاثة رغم أنهم لا يصلحون كما ذكر الكاتب ولم يكملوا الموصفات المطلوبة ؟؟!!
ألا يوجد رجل خارج الصندوق؟؟!!
ألا توجد موصفات ومؤهلات وقدرات يمكن أن يتصف بها قوم خرون ورجال منسيون ومغيبون فقط يحتاجون من يكتشفهم ؟؟!
هل عقمت اليمن أن تلد قيادات حقيقية ؟
ووواحر قلباه
لماذا حصرتم البديل في ثلاثة فقط
عبد الملك – العرادة – طارق
قد يكون البديل الانسب حضرميا
لعاملين رئيسين : القبول الشعبي شمالا وجنوبا والسمعة الحسنة – النظافة الإدارية والخبرة المالية