المدونة

فِلقة قمر واستجداء نظر

خفقت تلك النسمة العابرة، داعيةً بإطلاق ساقيَّ للريح، فهذه البلدة شحيحة بالعليل من الأجواء ونداوة الهواء.

وبينَ أزقَّة الحي، ولوهلةٍ صادمة، ارتبكت الخطوات وتعثَّرت؛ ويلي، ما تراه عيني؟! أأتقدم أم أتقهقر؟ زينةٌ باذخة، أوَقد يتزخرف البشر؟!

حار الفكر؛ لا أنكر أنَّ التهاب نيران الصدر أضرمتها مشاعر اللذة بأعواد ثقاب الغريزة. استحكم الفضول على العقل، ملقيًا بي للاكتشاف.

أمشي الهوينى، فأقف فتتوقف…

في الحقيقة، اختفاء صوت فرقعة الأصابع زاد من منسوب التوتر، وكثرة ابتلاع الريق أعطت مؤشرًا واضحًا عن الارتباك الذي وصلت إليه.

ملأتُ الصدر بدفعةٍ واحدةٍ من الهواء، واستجمعت بقايا القوى، وانطلقت.

لا أعلم ما أقول؟ وكيف أبدأ؟!

وهل صحيحٌ ما أقوم به أم خطأٌ أقترفه؟

أم هو موطن شبهةٍ الأجدر تجنبه؟ وااا…

يممت وجهها شطري، وكأني بإحدى حاجبيها قد انتصف ناصيتها، معلنًا النكير. وبعد أن كبّلت يديها، قالت:

“لم أدرك بعدُ ما تريد، ولكن حين تصرف البصر عمّن يقابلك من البشر، فأنت تبتُر عاملًا مهمًّا من عوامل التلقي؛ فأين هو التواصل البصري؟!”

حسنًا يا… آآآ…

“أُدعى ميساء.”

“حسنًا، ميساء. تعليقكِ يجعلني أنعطف قليلًا لأستحث الفكر فيما ذكرتِ فأدلو بدلوي، غير أني أخشى الاسترسال بطريقةٍ تفضي إلى الإملال، وكما يقول أهل الشام: طولي بالك.

والآن، فلنبدأ:

حينما قضى -سبحانه- أن يكون على هذه البسيطةِ خليفة، اشتق من ضلع الجسد الأول نوعًا آخر يتحد في جنسه البشري ويختلف في طبعه الخُلقي. فالاتحاد معروف، أما الاختلاف فإنه يكمن فيما خُصِّصَ كل نوعٍ له، ليكون بذلك التكامل بين النوعين هو الغاية المنشودة. فكان الاتحاد والاختلاف مدعاةً للقرب والائتلاف.

لنسلط الضوء على نقطةٍ يراد هضمها رغم سطوع معالمها:

فلما حُزتم من الجمال براعته، ومن البهاء نضارته، وجبت الحماية للنفيس من نظرةٍ خادشة وربما من عينٍ حاسدة، فزيد في طباعكم الحياء حتى كدتم أن تذهبوا به. فهو باعثٌ قوي لحجب نظارة الجمال.

وهنا لفتةٌ مهمة:

أفلا ترين معي أن تضاريس الأرض قد دفنت أثمن معادنها، ولؤلؤة اليمّ قد ادّرعت الصدف وفي قاع الشط مخبأُها؟ فكان لزامًا لمريدها أن ينقّب الصخر ويغوص في ثبج البحر. فلا جمال يُنال إلا بالكدِّ والنضال، وبعد مشقةٍ وعناءٍ لربما نال البغية، لتنتقل من الحماية الطبيعية إلى الحراسة البشرية. فلا تُعرض للعامة إلا والأنظمة الأمنية قبل الأعين الرقابية قد جُهزت للرصد والتتبع… عمليات معقدة وبروتوكولات تنظيمية طويلة.

إنه ناموس (قانون) الكون، يا ميساء:

“الجمال يُغشى بأستار الجلال.”

بادرت بالاستدراك، معلقةً:

“صحيحٌ ما ذكرت، غير أني أتعجب من محاولة الخلط. فالمواد محمية من السرقة لا من نظر العُجَبَة. فما فائدة الحراسة إذا لم تأنس العين بجمال المعروض؟! فالمقلة لا وِزرَ عليها، فلها المتعة، والأيدي الآثمة دونها القبضة المحكمة.”

وعلى عجالة، دعينا نتأمل معًا هذا النَّص: {يعلمُ خائنة الأعين}.

ألا يقرع ذهنك هاجسٌ مختلفٌ الآن؟!

كأنك تشير بأن النظر يقع تحت طائل الإثم.

“وأيُّ إثمٍ أشد من الخيانة؟! فالآثام لا تختزل في الأطراف، بل تطال جميع الحواس.”

ومن جهةٍ أخرى، يا ميساء:

لا بد من التفريق بين القيمة والثمن.

فالسلعة، وإن علا سوقها، تُباع وتُشترى بالثمن.

أما الأرواح، فمعاييرها القيم، والقيمة ذات بُعدٍ معنوي محسوس، بخلاف السلع ذات الطابع المادي الملموس.

فالأرواح تسمو بالقيم، والسلع تُحصَّل بالثمن.

وبهذا نكون:

إما قيمةً فتعلو أرواحنا، وإما سلعةً يُتفاوض على أثمانها… وللمرء الخيار.

والجدير بالذكر أن القيم لها حُرَم، وأجلى تلك الحُرَم تشريعٌ سماوي يضم بُعدين: انتُخبتم لشقٍ يتناغم مع الفطرة، وكُلفنا بشقٍ يحتدم مع الغريزة. فلكم السهل ولنا الوَعَر.

فما انتُخبتم له، هو ناتج لما قررناه بزيادة الحياء في طباعكم. ولأن اللباس لغةٌ تنطق عن صاحبها، جاء الأمر بما يصون هذه اللغة ويؤكد تلك الزيادة؛ بأن تُسربلوا جمال الجسد بالجليل من الثياب. وقد قيل:

“العفة تُعرف غالبًا بالرداء، وجلال الفضيلة يكمن في الحياء.”

سأنزلق لإيضاح التحامنا مع الغريزة:

فأنتم يا معشر النساء مشتقون من الضلع، فهو أقرب الأعضاء لتلك المضخة الكبرى للمشاعر الإنسانية. فإذا كان القلب هو المضخة، فإن النظر يُعد المشغل الأول لتلك الآلة.

ومن مشغلات المشاعر تلك الغرائزُ المركبةُ في الذوات البشرية. فاستطالة النظر تسيل لعاب الذئب الكامن وتشحذ مخلبه. ولأجل هذا وغيره، فليست كل المشاعر نبيلة، وإن زعم بعض المتملقين ما زعموا.

فكيف يتولد النبل من مشاعر كان المستفز لها غريزةً تشترك فيها جميع الكائنات سعيًا للبقاء؟!

أشد طرفكِ إلى زاويةٍ أخرى:

فكونُنا بشرًا، هذا بحد ذاته مظنة الوقوع في الخطأ، ساهين أو قاصدين.

فحين ترمق عين شابٍ فتاةً تسرب من خلف رداءِ جلالها بعض جمالها، فرحى الاشتباكات العنيفة ستدور في خلده. وطرفاها خضوعٌ وشهوة.

تشدك الثانية للذة النظر، وتمنعك الأولى امتثالًا للأمر.

لينجلي النقع بالظفر مرة، وبالخيبة مرة، وربما مرات.

لا يفوتني أن أنبه إلى ميزةٍ مشعّة:

فمما تفردتم به، يا جموع النساء، أنكم مضافون إلى تلك الكائنات النورانية. فالملائكة تنضوي إلى أجسادكم لكتابة أقدارِ ما قد يتشكل بعد الزواج في دواخلكم. ومعلومٌ شرف تلك المخلوقات، وشرفها يكمن في مهابتها.

فلا يملك صاحب النقاء إلا أن يطأطئ البصر إجلالًا لجلباب الحياء على الصعيد الخارجي، وإكبارًا لشعاع الهيبة على الصعيد الداخلي.

حسنًا…

أرجو أن أكون قد وفقتُ في إلقاء حجر التغيير على الراكد من بحيرة التفكير.

وأختم:

“التاجر يعرض الحسن من البضاعة ليلفت أعين الباعة فتَعظم الثروة، وهذه فنون المتاجرة.

وتحت مسمى آخر الصيحات والموضة وأحدث الموديلات، يتزخرف البشر لجلب النظر. وحكم هذا الاستجداء في مذهب الجمال معلوم:

فحرامٌ استجداء النظر لفلقة قمر.

فيا ميساء… عودي إلى السماء.”

وهنا، تراشق ليل شعرها مع هبوب زوبعةٍ صغرى، معلنًا بذلك نهاية اللقاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى