أشتات

اختلاف الثقافات: الذئب بين العرب والأتراك!

أ.د.فؤاد البنا

يتميز كل شعب عن غيره من الشعوب بخصوصياتٍ ثقافية، وتنتج المميزات الثقافية عن تفاعل القيم التي يؤمن بها المجتمع مع الاستعدادات الفردية والقابليات الجمعية، والتي تتأثر جميعها ومن غير شك بالجغرافيا التي يعيشون في أكنافها بما فيها من تضاريس متنوعة ومناخات متعددة، ومن المؤكد أنها تنفعل بالتَّاريخ الذي انحدر أبناء ذلك الشعب من أعماقه.

ومن هنا يأتي الاختلاف الطبيعي في نظرة الشعوب لكثير من الأشياء والكائنات بصورة قد تصل في بعض الأحيان إلى حد التَّباين، بما فيها الشعوب التي تنتمي إلى ذات الديانة!

وعلى سبيل المثال فإنَّ العرب والأتراك أشقاء في دين الإسلام العظيم الذي يمتلك قدرة هائلة على توحيد أبنائه في بوتقةِ الثوابت، وهم جيران في الموقع الجغرافي الذي يتوسط العالم القديم، فالأتراك يربطون آسيا بأوروبا بينما يربط العرب آسيا بإفريقيا. وصار العرب والأتراك عبر قرون من التَّفاعل التَّاريخي أهم جناحين لأمة الإسلام، فقد أقام أمجاد أمة الإسلام دولتان عربيتان: الأموية والعباسية، ودولتان تركيتان: السلجوقية والعثمانية!

 ورغم هذا التقارب الشديد بين الشعبين، فإن هناك اختلاف ملحوظ في النَّظر بينهما لكثير من الكائنات والأشياء! 

ولو أخذنا نموذجًا بسيطًا وهو مكانة الذئب في تراث الشعبين؛ لوجدنا أنهما يختلفان إلى حد التناقض. 

فالذئب يرمز عند الأتراك للقوة والشجاعة والإقدام، حتى أصبح رمزًا لهم يتم تمجيده وكيل المديح له في آدابهم وفنونهم، حتى أنهم أطلقوا على مؤسس جمهوريتهم كمال أتاتورك لقب (الذئب)، وذلك في مقام المدح والثناء والفخر، كما يفعل الآباء والأمهات حين يشجعون أولادهم بقولهم: يا ذئبي! ولا تزال المسلسلات التركية تمنح الذئب هالة أسطورية حتى أنك لتظنه كائنًا آخر غير الحيوان الذي يشبه الكلب شكلًا وحجمًا، دون أن يتصف بوداعته ووفائه!

 أما العرب فيرون أنَّ الذئب وحش حقير ويعدّونه رمزًا للظلم والغدر واللؤم، ويضربون الأمثال به في هذه القيم التي يبغضونها بشدة!

ولأنَّ الثقافة منظومة معقدة تؤثر كل حلقة منها في بقية الحلقات وتتأثر بها؛ فيبدو أن ترتيب القيم يدخل في هذه النظرة المتباينة للذئب، فالقوة تتصدر سُلّم القيم التي يمجدها عامة الأتراك، والذئب مثال ممتاز للقوة؛ نظرًا لشدة بطشه وافتراسه مقارنة بحجمه الصغير والذي لا يزيد إلا قليلًا عن حجم الكلب!

أما العرب فإنَّ الحرية تتصدر قائمة قيمهم التي كانوا يقدسونها في جاهليتهم، وبسبب هذه الحرية المتطرفة فإنهم يكرهون كل ما يقيدها، بل لم يقيموا دولة لهم في العصور المتأخرة قبل الإسلام، كراهةً في قيود القوانين والنظم التي يعرفون أنها ستمنعهم من الانطلاق الفردي والقبلي حيث يشاؤون وفق ما جُبلوا عليه، وآثروا البقاء على شكل قبائل متنافسة على الكرامة والعزة والمنعة في بيئات يغلب عليها التصحر وتتسم بفقر مواردها، وظلوا يسيحون في أطراف جزيرة العرب يرعون حيواناتهم من دون موانع أو حدود، ولا يقلقهم إلا قطاع الطرق والذئاب التي كانت تعدو على أغنامهم كلما وجدت من الرعاة غفلة هنا أو هناك.

 ولأنَّ صورة الذئب قبيحة في الوعي العربي فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم حينما أراد تقوية اليقين بالمستقبل قال لأصحابه الذين كانوا يعذَّبون بمكة: “ليُتِمَّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه”، حيث ظل الذئب خطرًا محتملًا حتى في العصر الذهبي الذي يتم التبشير به.

 ولو بحثنا في قواميس أمثال العرب ودواوين أشعارهم؛ فلن نجد الذئب حاضرًا إلا في المخازي والرزايا، وما له واحدة من المزايا التي يسجلها له الأتراك في آدابهم وفنونهم!

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى