أدب

الشعر الجاهلي مهْد الكينونة

منذ الاستشراق الكلاسيكي (كتاب دراسات المستشرقين حول صحَّة الشِّعر الجاهلي). جمع وترجمة: عبد الرحمن بدوي، مرورًا بطه حسين (كتاب في الشِّعر الجاهلي) وصولًا إلى النَّقد الأكاديمي؛ وأشعارُ العرب قبل الإسلام تتعرض للريبة والنَّفي. وحين يشكِّك هؤلاء في صحة المعلقات فقد تم، بالنسبة لعامة المثقفين، البراءةُ منها ووجب اِطّراحها.

ثمَّ يأتي النَّقد الأكاديمي المضاد أو المحقق أو المنافح، فلا يدخر جهدًا في إثبات الشِّعر الجاهلي (كتاب ناصر الدين الأسد: مصادر الشِّعر الجاهلي وقيمتها التَّاريخية)، وهو بذلك يعيد معايير الأوائل في معرفة الصَّحيح من المنحول. وطرق القدامى أوفق من أساليب المُحدَثين حين يعمدون إلى فحصِ المرويات: فهم أشد اِلتحامًا بالشِّعر ومزاج العرب منّا نحن الآخِرين، وهم يتثبَّتون ليبنوا بناءً متينًا ونحن نرتاب لنمحو ولا نثبت.

إنَّ «لاميَّة العرب» للشنفرى (توفي نحو 70 ق هـ )؛ هي للشنفرى، حتى لو تجمَّعت أقوالٌ على نكرانها، إنها قطعة صميمة من الشِّعر الجاهلي؛ فهي تعج بأجواء البداوة؛ بحياة الأعرابي وطباعه ورؤاه، هي فِلذَة كبده.

لنربأ بالنَّفس عن خوض ما لا غَناء فيه. لنتّجه إلى الشِّعر الجاهلي، لنرد النَّبع الأول للكينونة العربيَّة بماهي وجودٌ حر متنصل عن أنانيته، راسخٌ ومنبث، متعمق وممتد، منطوٍ ومُشْرَع.

نقرأه لنلتقي بالأسلاف، “لنشم فيه رائحة الشيح والقيصوم”، كما عبَّر التَّوحيدي على لسان الوزير ابن العارض. لنتعرف على مجاهيل أعماقنا، على بدويتنا التي تُصاعِد فينا المروءةَ والطيش.

بالأحرى: نحن لا نقرأ الشعر الجاهلي، فالقراءة مسافة، إنما نتداخل معه لَحْمِيًّا: نحس عروقَنا تتلوه، نسمع أجدادنا يترنمون به في دمائنا.

ما علينا ممن أزهقوا أرواح آبائهم وسفحوا دماءهم. هؤلاء لا خلاقَ لهم؛ فهم لا يقدرون على تملّك أنفسهم إلا حين يبرزون أنيابهم ويغرزونها في صدور أمهاتهم.

النقد الأكاديمي، في جملته، لا يفكِّر. لا يحس. لا يحلم. لا يتعمق. لا يقرأ. إنه، إذا ما استعرنا لغة قديمة، علمُ رسوم وقشور؛ علمُ ضحالة وضلالة.

يشبه النَّاقد الأدبي، ذلك المنصرف إلى الأسانيد دون الاتعاظ بالفحوى. حدّث الحسن البصري بحديث، فقيل له: يا أبا سعيد عمّن؟ قال: وما تصنع بعمّن يا بن أخي؟ أمّا أنت فنالتك موعظتُه، وقامت عليك حُجَّتُه.

لا زالت جامعاتنا تخوضُ وتماري في صحة الشِّعر الجاهلي؛ فالمُثْبت “مخلص” والمنكر “جاحد”.

هذا الإخلاص شكلٌ من أشكال الدِّفاع عن الهوية؛ فالشِّعر، بحد ذاته، غير مهم وإنما بوصفه رُكنًا هوويًا.

ما إن يتم إثبات الشِّعر الجاهلي حتى يتم الانصراف عنه!

نعم، هناك دراسات توسّلت أحدث المناهج النَّقدية، لكن ما إن نطالعها حتى يصيبنا تلفٌ ما؛ لأنها لا تفضي بنا إلى روح النَّص ولا تستطيع أن تقدمه كطريقة في توسيع نطاق الكينونة.

هذا النَّقد نقد تقني غلبت عليه الحذلقة، ولا يجود إلا بالسأم. يماثل مَن يسمع نهج البردة، ثم يحدثنا عن السلّم الموسيقي والمقامات ويميز، في ابتهاجٍ قميءٍ، بين أصوات الآلات.. ويضحّي بالوجْد.

من ينكر الشِّعر الجاهلي فقد نصّب نفسه “عقلانيًّا” لا تنطلي عليه ألاعيب الماضي. وهذا تتنامى “عقلانيته” حتى يسكنها الفزع من التراث. وإنْ أهديناه كتابًا قديما مسَّه الرُّهاب. كيف يفرح، كيف يُعجَب بأحاديث القديم وهو “الليبرالي”؟!

التراث يخيفه، يجعله منكمشًا، متقبّضًا، مذعورًا. ثقافتنا العميقة أفعوان بالنسبة لهذه الكائنات الرقيقة، المسايِرة للإنسانوية الحديثة؛ الخانعة للموضة والبهرج.

أين يتوجه هذا الرقيق؟ إنه هناك يعالج روايات وقصائدَ حديثة لا لأنها تتجاوب مع حاجة وجودية لديه، بل ليعزز حداثته البلاستيكية. ظمآنٌ لتعميد نفسه حداثيًّا. وهو يستعمل مع هذه الألوان الأدبية الرائعة (الشِّعر والرواية) ذات التقنية، ذات العقم.

ركيك، ضعيف، هش، مدّع، لا ينطوي إلا على الفراغ المزعج.

سوف يقرأ الأخوة كارامازوف ليحدثنا عن طريقة السرد، وحسب!

النَّاقد يفسد ألذ الكتب وأعظمها.

به دومًا قَمَه. تُوضع مائدة عامرة فلا يأكل؛ يظل يحدّث عن أصل كل طبق وممَّا أعدّ، حتى يبرد الطعام ويتلف، فيقوم النَّاس وهم يلعنون هذا المهذار الذي أفسد شهيتهم.

بهِ فضول غريب. غنيٌّ بانحطاطه.

يتذرع باستعمال المناهج المعاصرة، ولا يأخذ منها إلا شكلانيتها فلا تُبين العظمة المنطوية داخل النُّصوص التراثية، يقدّم الشِّعر باهتًا سمْجًا لا حياة فيه.

هذه الأدوات النَّقدية سيئة إذا لم نُفْض بها إلى عمق النَّص الشَّعري، وحين نصطحبها إلى روحية الشعر فإنها تفقد تحجّرها وتلين فنصرّفها كيف نشاء (وَفْق نداءات الأغوار: أغوارنا) ليتدفَّق الغنى الوجودي للنَّص.

المعلقات تتطلّب إنصاتًا عميقًا لتهب نفسها. لا يشغلنا جدلُ الحقيقي والكاذب؛ فهو صادٌّ عن الهناءة التي توفرها القصيدة الجاهلية.

قال الأصمعي (ت: 216)، وقد سُئِلَ عن إسناد خبر رواه: هو من الآيات المُحكمات التي لا تحتاج إلى دليلٍ وحجة.

ما ضرّ الأساطير أنها خيالات الأولين الأسطورة تؤسِّس الوجود، تُغذِّيه، تُلهمه، وتعمل، عند إيذانه بالانهيار، على إسناده وتثبيته.

عالم من البدو ينفتح حين نطرق إحدى قصائد الجاهليين، هذا العالم يسكن أعماقنا، وإنه ليتجلى مضيئا، مُروِيًّا، مُثْرِيًا الذاتَ يزيد سعةَ الكينونة المُعذَّبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى