آثار

الملكة أروى الصُّليحية – مواقف مِن الدَّهاء السِّياسي

حظيت شخصية الملكة (أروى بنت أحمد الصُّليحي) باهتمام واسع مِن قبل المؤرخين والباحثين لأسباب عديدة أهمها: شخصيتها الكاريزمية ومكانتها السِّياسية وثقافتها المعرفية، وما توفر لها مِن جمال البدن ورجاحة العقل وفصاحة اللسان، ثمَّ همتها الفائقة في إبقاء الدَّولة الصَّليحية قائمة بعد مقتل عمها الملك (علي بن محمد الصُّليحي) في ذي القعدة سنة 459هـ/ 1066م(2)، ومساندتها لزوجها الملك (المكرم بن علي بن محمد الصُّليحي)، والذي فوضها في إدارة شؤون الدَّولة ونقْل العاصمة مِن صنعاء إلى (ذي جبلة)، بينما انصرف هو لنفسه، واستعفت مِن نفسها عنه، وقالت قولتها المشهورة: (إن امرأةً تُراد للفراش لا تصلح لتدبير الأمر، فدعني وما أنا بصدده)، ثم ما كان مِن تفردها بحكم اليمن بعد موت زوجها (المكرم)، والذي استمر لأكثر مِن خمسين عامًا، وما امتاز به حكمها مِن الحكمة والدَّهاء ومدِّ جسور التَّواصل والتَّعايش مع المذاهب الإسلامية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والعقائدية، ومع القبائل والعشائر على تنوع موقعها الجغرافي والاجتماعي وتأثيرها العسكري والسِّياسي، كيف لمرأةٍ نجحت في الحفاظ على كيان الدَّولة وقد قتل الملك المؤسس مع مائة وعشرين  مِن أركان دولته ما بين وزير وقائد ومستشار في مجزرة مروعة؟ والأهم مِن ذلك براعتها اللاحقة في شدِّ خيوط اللعبة السِّياسية إلى يديها بقوة متزنة، وحيازة الأوراق الضَّاغطة بحيث يتيسر لها مكافأة المحسن في الوقت المناسب، ومعاقبة المتمرد في الظَّرف الملائم، مع احتفاظها بعلاقات جماهيرية زاخرة ورضىً تامٍ مِن مركز الدَّولة الفاطمية في القاهرة (3)، وقد صدق فيها تنبؤ عمها الملك حين قال يومًا لزوجته أسماء بنت شهاب: (أكرميها فهي والله كافلة ذرارينا وحافظة هذا الأمر على مَن بقي منا)(4).

لن نطيل في سرد تاريخ تلك الحقبة المهمة مِن تاريخ اليمن؛ وسنقتصر على ذكر مواقف بارزة للملكة (أروى) والتي مثلت دهاءً سياسيًا – أو قل مكرًا سياسيًا – تميزت به عن غيرها، وعُرفت به عند محققي تاريخ الدَّولة الصُّليحية، وأبرز هذه المواقف:

1- قتل سعيد الأحول ابن نجاح

سعيد هذا هو مَن باشر قتل الملك (علي بن محمد الصَّليحي ) كما أسلفنا، ولذلك راسلت الملكة (أروى) الأمير (الحسين التُّبعي) أمير حصن (الشَّعر)، وكان مواليًا لها، وقالت له: اكتب إلى سعيد بن نجاح خطاب استعطاف، أخبره أن دولته أحب إليك مِن دولتنا، وأنَّ (المكرم) مصاب بالفالج وعاكف على الشَّراب والغناء، والدَّولة في يد امرأة ضعيفة؛ فهلمَّ إلينا بجيشك يوم كذا حتى نباغت (ذي جبلة) ونقضي على الصُّليحية؛ فرح (سعيد) وأعدَّ جيشه وخرج مِن (زبيد) وما إن اقترب مِن (الشَّعر) حتى سقطت (زبيد) في يد الجيش الصُّليحي، والأدهى مِن ذلك حصار جيش (سعيد بن نجاح) بجيش (التُّبعي) وجيش (ذي جبلة) وهزيمته ومقتله(5).

2- انتحار المفضل بن أبي البركات

كانت الملكة (أروى ) قد عينت (المفضل بن أبي البركات) أميرًا على حصن التَّعكر المحمي بتضاريس طبيعية يصعب اقتحامه؛ وأصبح الحصن مكانًا آمنًا لذخائر آل الصُّليحي وأموالهم ومقتنياتهم الثَّمينة، وحدث ما لم يكن في الحسبان، فقد شعرت الملكة بحالة جفاء مِن قبل المفضل، سمعت منه ما تكره، بل أحسَّت بمحاولة استقلاله بالتَّعكر وبقطاع واسع مِن الجيش؛ ولكنها لم تنكر عليه ولم تعاتبه، بل أشعرته بأنها لا تعتمد إلَّا عليه في قيادة الجيش وقيادة الحروب، وحدث أن اختلف أبناء (جياش بن نجاح) على إمارة الدَّولة النَّجاحية في (زبيد) فاستعان بعضهم بالملكة (أروى)؛ فاستدعت قائدها (المفضل) وقالت له: أدرك فهي فرصة استعادة (زبيد) وتهامة، فتوجه (المفضل) بجيش جرار إلى (زبيد) وما إن وصلها حتى كان فقهاء مخلاف (جعفر) وما حوله قد احتلوا (التَّعكر) بتدبير مِن الملكة (أروى)؛ فعاد مِن تهامة لا يلوي على شيء وحاصر التَّعكر، ولكن فات الأوان، أخرج المتحصنون جواري المفضل وحضاياه وجعلوهن يضربن الدُّفوف ويُغنين على أسوار الحصن في صورة لم يتحمل رؤيتها (المفضل) وكان أكثر غيرة وأنفة؛ فشعر بالذُّل والمهانة فامتص سمًا ومات مِن ساعته(6).

3- هلاك ابن نجيب الدَّولة

أرسل الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله سنة 513هـ/ 1119م مبعوثًا جديدًا لليمن؛ ليساند الملكة أروى ويقيِّم أوضاع اليمن، وصل المبعوث واسمه (علي بن إبراهيم – ابن نجيب الدَّولة) وفور وصوله أحكم قبضته وظهر تأثيره مِن حيث استتباب الأمن ورخص الأسعار وركود الفتن والقلاقل، وعززت القاهرة مبعوثها بالجند والمال والسِّلاح، وحصل بينه وبين أمراء الحرب اليمنيين جفوة ومشاحنات؛ وفي أوج قوته تنمر حتى على الملكة أروى، ولمزها بعبارة تنُم عن ضعفها فقال عنها: (خَرِفت .. واستحقت عندي أن يُحجر عليها)، فسكتت ولم تُبدي ضيقًا، وصادف أن نزل ابن نجيب الدَّولة إلى بلاد الجند فتجمَّع عليه أمراء الحرب وحاصروه فيها، ولا يُستبعد أن يكون ذلك بإيعاز مِن الملكة، ولما شعر ابن نجيب الدَّولة أنه هالك في الحصار بعث إلى الملكة يستنجد بها، فأرسلت إلى الأُمراء عشرة ألاف دينار مصرية ففكوا الحصار واستدعته إلى ذي جبلة وأمَّنته في قصرها، ثم حِيكت له مكيدة موثقة فأُرسل إلى مقام الخلافة تقريرًا بأن ابن نجيب الدَّولة يدعو (لنزار العبيدي) الذي عُزل عن الخلافة وحل مكانه الآمر بأحكام الله، وضربوا سِكة نزارية قالوا أنَّه وزعها على عساكره؛ فما كان مِن الخليفة إلَّا أن أرسل فرقةً مِن الفرسان للقبض عليه؛ فأرسلته الملكة معززًا بهدايا ثمينة، فلما فارق ذي جبلة لحقه أمراء الملكة وجردوه مِن كل شيء وأرسلوه مكبلًا بالقيود مُهانًا ذليلًا، وأُعدم في القاهرة بتهمة الخيانة العظمى(7).

هذا غيضٌ مِن فيض سياسة الملكة الصُّليحية (أروى)

الهوامش:

  1. اختلفت المصادر التَّاريخية في ضبط اسم الملكة أروى، البعض أورده باسم: (أروى بنت أحمد الصُّليحي)، والبعض أورده باسم: (سيدة بنت أحمد الصُّليحي)، وترجح لدى المحققين المتأخرين (أروى)، انظر: السُّروري: محمد عبده محمد، الحياة السِّياسية ومظاهر الحضارة في اليمن في عهد الدِّويلات المستقلة مِن سنة 429هـ/ 1037م حتى 626هـ/ 1228م، طبعة خاصة بالمؤلف، 1997م، ص 143.
  2. انظر: عُمارة اليمني: نجم الدِّين عُمارة بن علي (ت 569هـ/ 1174م)، المفيد في أخبار صنعاء وزبيد وشعراء ملوكها وأعيانها وأُدبائها، تحقيق: محمد بن علي الأكوع، النَّاشر: مكتبة الإرشاد، صنعاء – اليمن، الطَّبعة الرَّابعة: 1431هـ/ 2010م، ص 104، وانظر: ابن سمرة: عمر بن علي الجعدي، طبقات فقهاء اليمن، تحقيق: فؤاد سيد، النَّاشر: دار القلم، بيروت – لبنان، بدون تاريخ للطبعة، ص 88. 
  3. انظر: السُّروري: الحياة السِّياسية ومظاهر الحضارة، ص 164.
  4. ابن سمرة: طبقات فقهاء اليمن، ص 122، 123، 307، وانظر أيضًا: انظر: عُمارة اليمني، المفيد، ص 137، أيضًا: السُّروري: الحياة السِّياسية ومظاهر الحضارة، ص 148.
  5. انظر: عُمارة اليمني: المفيد، ص 118، أيضًا: السُّروري: الحياة السِّياسية ومظاهر الحضارة، ص 154.
  6. انظر: عُمارة اليمني: المفيد، ص 137 – 138، أيضًا: السُّروري: الحياة السِّياسية ومظاهر الحضارة، ص 178 – 182. 
  7. انظر: عُمارة اليمني: المفيد، ص 140 – 146، أيضًا: السُّروري: الحياة السِّياسية ومظاهر الحضارة، ص 184 – 191.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى