آثار

حركة الأسود العنسي في ميزان التاريخ (ج5)

هل الأسود ثائر؟ وضد من؟

يزعم د/ حمود العودي أن الأسود العنسي قاد ثورة. والسؤال ضد من قامت هذه الثورة؟

جاء في كتابه: ” المدخل الاجتماعي في دراسة التاريخ والتراث العربي”: (ثورة اليمنيين بقيادة عبهلة العنسي)… مثلت (أول رد فعل سلبي تجاه بعض المتغيرات السلبية لسياسة الخلافة في المدينة، التي خيبت بعض آمالهم في الطموح إلى تأكيد استقلالهم الوطني، من بقايا حكم الأحفاد الفارسيين، أو حكم الأبناء – كما عرف في التاريخ، حيث ذهبت سياسة الخلافة في المدينة على تثبيتهم وتوطيد سلطتهم، وإعطائها صبغة شرعية باسم الإسلام…).

الأسود العنسي أعلن ردته وتمرده في آخر أيام النبي نفسه، بعد منصرفه من حجة الوداع. فثورته إذن ضد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه. وهي موجهة ضد سياسة النبي في المدينة بتعبيره. فكيف تكون ثورة ضد نفوذ الفرس؟ وكيف تكون ثورة وطنية؟ الخروج على النبي ردة وليس ثورة.

ويستغرب الدغشي (في كتابه: ظاهرة القومية اليمنية – أقيال) أن يطلق الدكتور العودي لقب “سياسة الخلافة في المدينة” مع أن الخلافة لقب لم يأت إلا مع أبي بكر، في حين أن تمرد العنسي كان في عهد النبي نفسه!! ويضيف الدغشي: إذا كان النبي هو من ولى باذان أو أعطاه السلطة؛ فانتقاد العودي إذن يتوجه إلى النبي نفسه.

ويقول العودي في مكان آخر: إن ثورة الأسود والأشعث ليست بتلك السذاجة، بل العلم اليوم يعيد قراءتها.. فقد كانت تلك الانتفاضة سببها الواقعي: سوء تقدير القيادة السياسية في المدينة للخلفيات السياسية والتاريخية والاجتماعية والحضارية، التي كانت تكمن خلف استجابة اليمنيين للدخول في الإسلام….).

ويرد عليه الدغشي: سوء تقدير من بالضبط، يا دكتور؟؟

وكيف يصح دعوى العودي في مكان آخر أن اليمن نعمت بالاستقرار في عهد النبي وصاحبيه أبي بكر وعمر، وبدأت الأوضاع تسوء فيها أواخر خلافة عثمان….

في حين أنه يورد النصوص التي تجمع كلها على أن ردة الأسود كانت أواخر عهد النبي نفسه!! فأي تناقض هذا؟!

هل الأسود ثائر ضد نفوذ الفرس؟

زعم بعض الباحثين المعاصرين أن حركة الأسود العنسي تمثل (يقظة وطنية، ورد فعل للوجود الأجنبي الفارسي في اليمن، الذي كان يمثله الأبناء في ذلك الوقت، وأن أصحاب هذا الشعور من بعض سادات اليمن وقبائلها وجدوا في شخصية الأسود العنسي، الزعيم اليمني القادر على تحقيق ذلك الهدف الوطني، وبخاصة بعد احتلاله صنعاء وإذلاله طبقة الأبناء الارستقراطية فيها وقد أكمل هذا الدور من بعد العنسي، قيس بن مكشوح المرادي، حين أجلى معظم الأبناء عن اليمن. وممن يشايع هذا الرأي جواد علي، وعبد الحي شعبان، ونزار الحديثي وإبراهيم بيضون، وغيرهم) [نقلا عن: إحسان صدقي في بحثه: حركة الأسود العنسي في صدر الإسلام].

مناقشة هذه الدعاوى:

بداية لا بد أن نذكر بنقطة سياقية مهمة تغفلها هذه الدعوى، وهي أن نفوذ الفرس في اليمن كان ضعيفا، ولم تعد لهم سوى صنعاء والمناطق المحيطة بها فقط، ويقول بعضهم: وعدن. وقال نزار الحديثي أن نفوذهم كان اسميا فقط، وكانت سلطتهم المركزية لا تتعدى صنعاء وعدن وذمار والرضراض. وكان لأذواء اليمن سلطاتهم المحلية… وأما حضرموت وما حولها فلم يكن هناك أي سلطة عليها، وكذلك نجران.

كما أن اليمن ل تكن موحدة سياسيا، ولم تكن هناك سلطة عليا يتعامل معها الرسول، وينعكس ذلك في مراسلات النبي إلى مختلف الأذواء…وكثرة تعدد الوفود. وقد شهدت اليمن قبيل ظهور الإسلام وأثناء ظهوره صراعات مستمرة بين القبائل ومراكز القوى الكبرى مثل حمير وكندة، وكذلك همدان ومذحج، ومنها يوم الرزم بينهما الذي صادف زمن غزوة بدر.

ونحن هنا نضع خمسة تساؤلات، كل منها يفند هذه الدعوى:

الأول: هل الأبناء يتبعون الفرس أم الدولة الإسلامية؟ والثاني: ما مدى نفوذ الأبناء؟ والثالث: هل فعلا كان الوالي على صنعاء من الأبناء؟ والرابع: هل فعلا قاتل الأسود الأبناء لأنهم فرس؟ والخامس: حين استولى الأسود على صنعاء هل أخرج الأبناء؟

السؤال الأول: هل الأبناء يتبعون الفرس أم الدولة الإسلامية؟

بالنظر إلى السياق التاريخي، فإن إعلان الأبناء ولاءهم للدولة الإسلامية وتعيين النبي ﷺ لباذان واليًا على اليمن يمثّل تحولًا جذريًا ينهي بشكل قاطع النفوذ الفارسي في المنطقة. هذا الحدث ليس مجرد تفصيل عابر، بل هو دلالة واضحة على انصهار اليمن تحت راية الدولة الإسلامية الجديدة، وقطع أي روابط سياسية أو إدارية مع الإمبراطورية الفارسية. وليس كما زعم بعضهم أن هذا التعيين لم يرض النزع الاستقلالية لدى القبائل اليمنية. فكون النبي عين هذا الوالي أو ذاك يجعله ممثلا للدولة الإسلامية، وليس ممثلا لأي قوة أخرى.

وبالتالي، فإن الادعاء بأن مهاجمة الأبناء كانت ثورة ضد النفوذ الفارسي هو طرح غير دقيق، بل وساذج من الناحية التاريخية، لأنه يتجاهل الحقائق السياسية الراسخة والمبادئ الإدارية التي حكمت تلك المرحلة. إن ولاء الأبناء للدولة الإسلامية ينفي بشكل قاطع أي ارتباط لهم بفارس، ما يجعل هذا الادعاء قفزًا على المسلمات التاريخية وتجاهلًا للواقع السياسي الواضح في تلك الحقبة.

وبذلك فالأبناء أصبحوا جزءا من القوى اليمنية الخاضعة للدولة الإسلامية، وعليه فمعاداة الأسود للأبناء إنما كان بسبب دورهم في دعم الإسلام أكثر من كونهم قوة محلية منافسة.

ومن ناحية ثانية فلو كان الأسود العنسي يهدف إلى الإطاحة بالنفوذ الفارسي، فإن هذا الهدف كان قد تحقق فعلياً مع دخول الإسلام، لأن الإسلام ألغى الهيمنة الفارسية، وبذلك فإن النفوذ الفارسي كان قد انتهى فعلا، وأصبحت اليمن خاضعة للنفوذ الإسلامي. وتولي باذان (الفارسي) للإدارة في اليمن تحت راية الإسلام جعل وجود الأبناء تابعاً للنظام الإسلامي.

السؤال الثاني: ما مدى نفوذ الأبناء؟

حين خرج الأسود لم تكن اليمن موحدة تحت الأبناء. بل كانت متناثرة بين قبائل اليمن. وكانت هناك أحلاف عديدة، ومنها: تحالف الأبناء مع قبائل همدان – وضدهم تحالفات من قبائل مذحج. وكانت بينهم نزاعات مستمرة. يردها بعض المؤرخين كالحديثي إلى أسباب اقتصادية، كالفقر النسبي لمناطق مذحج مقارنةً بمناطق همدان والأبناء، خاصة بعد تحول طرق التجارة من شرق اليمن إلى غربه.

ومع ذلك، فإن جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام يوضح أن النفوذ الفارسي في اليمن كان ضعيفًا في الأصل، حيث اقتصر حكم الفرس على صنعاء ومحيطها، بينما كانت المناطق الأخرى تحت سيطرة زعماء محليين من بقايا الممالك الحميرية القديمة أو “ملوك الطوائف”. هذه الحقيقة تُضعف أي ادعاء بأن تمرد الأسود كان ضد النفوذ الفارسي، لأن هذا النفوذ كان قد تلاشى فعليًا مع دخول الإسلام وتأسيس ولاية إسلامية في صنعاء.

والروايات التاريخية كالطبري وغيره تشير على أن ولاية الأبناء كانت في صنعاء فقط، وبقية أعمال اليمن موزعة على عمال النبي. في الطبري: (واستعمل عمرو بن حزم على نجران، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران ورِمَع وزَبِيد، وعامر بن شهر على هَمْدان، وعلى صنعاء ابن باذام، وعلى عَكّ والأشعريّين الطَّاهر بن أبي هالة، وعلى مأرب أبا موسى الأشعري، وعلى الجنَد يعلَى بن أميّة. وكان معاذ معلِّمًا يتنقّل في عمالة كلّ عامل باليمن وحضرموت؛ واستعمل على أعمال حضرموت؛ على السَّكاسك والسَّكون عُكّاشة بن ثور، وعلي بني معاوية بن كندة عبد الله -أو المهاجر- فاشتكى فلم يذهب حتى وجَّهه أبو بكر. وعلى حضرموت زياد بن لبيد البياضيّ، وكان زياد يقوم على عمل المهاجر؛ فمات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهؤلاء عمّاله على اليمن وحضرموت؛ إلَّا مَنْ قُتِل في قتالة الأسود أو مات؛ وهو باذام).

وقد ادعى مونتجمري وات أن تحالف الأسود كان ضد تحالف الأبناء وهمدان والقبائل التي أعلنت إسلامها. أي أن حركة الأسود كانت حركة محلية ضد قوى محلية منافسة لها. ثم ادعى الأسود النبوة لتعزيز مركزه كقائد لهذا التحالف.

وهذا الادعاء لا يخلو من التبسيط الذي يتجاهل أبعادًا دينية واستراتيجية أعمق. ويبطل هذه الدعوى حجج عديدة، منها:

استهداف الدولة الإسلامية:

الأسود لم يستهدف همدان أو الأبناء فقط، بل هاجم القبائل المسلمة التي أعلنت ولاءها للدولة الإسلامية، وأصبحت جزءا من نظامها، فعلى فرض أن حركة الأسود موجهة ضد همدان، فإن هذا يعني أن الأسود لم يكن فقط يعادي قوى محلية، بل كان يعارض النظام الإسلامي ذاته.

كما أن مراسلة الأسود لولاة النبي ﷺ في الجند وغيرها، مثل رسالته الشهيرة: “أيها المتوردون”، تشير إلى أنه رأى في الإسلام سلطة مركزية يجب تحديها. واستهداف الأسود لوالي صنعاء شهر بن باذان وقتله يعكس توجهه لمناهضة الإسلام كدين ونظام سياسي، وليس فقط منافسة محلية.

فحركة الأسود لو كانت ضد نفوذ الأبناء – أو تحالف الأبناء مع همدان، كما زعم مونتجمري – ؛ فلماذا أعلن الأسود معارضته للإسلام بوصفه نظامًا دينيًا وسياسيًا قادمًا من الحجاز؟ ولماذا راسل أمراء النبي صلى الله عليه وسلم في المناطق الخارجة عن سيطرة الأبناء؟!

ادعاء النبوة:

ما علاقة الثورة على النفوذ الفارسي بقيام الأسود بادعاء النبوة!! هل ادعاؤه النبوة يعني أنه يقف في وجه كسرى؟ أو يعني أنه يقف في وجه النبي نفسه؟!

إن ادعاءه النبوة كان وسيلة لتحقيق شرعية سياسية يستطيع من خلالها السيطرة على القبائل، مما يعكس إدراكه لأهمية الدين كأداة للهيمنة في تلك المرحلة.

توقيت التمرد:

إن ظهور حركة الأسود في أواخر حياة النبي ﷺ يعكس استغلالًا سياسيًا واضحًا لمرحلة حساسة كانت تشهد ترسيخ الدولة الإسلامية لسلطتها، وإعلانا منه لرفض سلطتها. فلو كان هدفه الثورة ضد الفرس، لكان الأجدر أن يتحرك قبل ذلك بسنوات، عندما كان النفوذ الفارسي في اليمن أضعف بكثير.

حركة الأسود جاءت في وقت بدأ الإسلام يرسخ وجوده في اليمن، بعد إسلام زعماء القبائل واستقرار الأوضاع نسبيًا. واستغلاله لهذا التوقيت يُظهر بوضوح أنه كان يحاول استعادة نفوذ سياسي مفقود في مواجهة قوة جديدة وليس فقط مواجهة قبائل محلية.

رفض واسع من قبائل اليمن:

برغم حصول الأسود على دعم محدود من بعض القبائل اليمنية، فإن العديد من القبائل الأخرى في اليمن تصدت لحركته، وهو ما يعكس إدراكها لطبيعة مشروعه التخريبي، وإدراكها لخطورة حركته على النظام الإسلامي الذي جمع بين الدين والسياسة، خاصة بعد دخولها الإسلام وإعلان ولائها للنبي ﷺ.

السؤال الثالث: هل فعلا كان الوالي على صنعاء من الأبناء؟

المشهور أن ولاية صنعاء بعد وفاة باذام كانت تحت ولاية شهر بن باذام. ومع ذلك، تشير روايات أخرى إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم عيَّن خالد بن سعيد بن العاص واليًا على صنعاء. ففي “تاريخ خليفة بن خياط”، يُذكر أن النبي، بعد وفاة باذام، ولى خالد بن سعيد على صنعاء. كما يرد في “فتوح البلدان” للبلاذري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولى خالد بن سعيد بن العاص صنعاء، فأخرجه العنسي الكذاب عنها.

فلو صحت رواية ولاية خالد لصنعاء فإن هذا يعني أنه لم تعد للأبناء أثناء حركة الأسود العنسي أي سلطة على صنعاء، وأنه حركته هاجم أحد ولاة النبي صلى الله عليه وسلم، الذين بعثهم إلى اليمن.

السؤال الرابع: هل فعلاً قاتل الأسود الأبناء؛ لأنهم فرس؟

يرى الكلاعي الحميري أن قتال الأسود للأبناء في صنعاء ليس لأجل أنهم فرس، بل لأنهم أبوا أن يصدقوه في ادعائه النبوة. وهذا نصه في كتابه “الاكتفاء بما تضمنه مغازي الرسول والثلاثة الخلفاء”، فيقول: (وأقام الأسود بنجران يسيرا، ثم رأى أن صنعاء خير له من نجران، فسار إليها في ستمائة راكب من بنى الحارث، فنزل صنعاء، فأبت الأبناء أن يصدقوه، فغلب على صنعاء واستذل الأبناء بها، وقهرهم وأساء جوارهم لتكذيبهم إياه).

السؤال الخامس: حين استولى الأسود على صنعاء فهل أخرج الأبناء؟

حين استولى الأسود العنسي على صنعاء، لم يقم بإجلاء الأبناء (الفُرْس) منها، بل سعى لإبقائهم تحت سيطرته لضمان استمرار النفوذ والسيطرة الإدارية. تشير المصادر التاريخية إلى أنه تزوج زوجة شهر بن باذام بعد أن قتله، وأوكل إدارة الأبناء إلى فيروز وداذويه، كما ذكر الطبري. وهذا يدل على أنه لم يكن يهدف إلى القضاء على وجود الأبناء أو إجلائهم من اليمن، بل كان يسعى لاستثمار خبرتهم الإدارية.

وقد زعم د نزار الحديثي أن قيس بن مكشوح قام بإجلاء الأبناء من اليمن، مستندا إلى بعض الروايات التاريخية التي تنص على أن قيس بعد قتل الأسود خاف من تغلب الأبناء على سلطة صنعاء، فقام بالثورة ضدهم، وأخرجهم من صنعاء فلم يبق أحد منهم إلا في جوار. بل ينقل الكلاعي أن الشعبى كان يقول فيما ذكر عنه: باليمن رجلان لو انبغى لأحد أن يسجد لشىء دون الله لانبغى لأهل اليمن أن يسجدوا لهما: سيف بن ذى يزن فى الحبشة، وقيس بن مكشوح في الأبناء الذين بصنعاء، يعنى إخراج سيف الحبشة وإخراج قيس الأبناء.

وهذا الادعاء باطل؛ لأسباب عدة، منها:

1. لا تؤيدها المصادر التاريخية المعتبرة: إذا كان قيس قد أقدم على إجلاء الأبناء من اليمن، فإن هذا الحدث الكبير كان من المتوقع أن يُذكر في مصادر تاريخية عديدة، لكننا نجد غياب هذا الحدث في أغلب النصوص الموثوقة. على العكس، تشير المصادر إلى استمرار وجود الأبناء في اليمن بعد خلاف قيس معهم، بل وذكرت لهم أدوارًا بارزة في الأحداث السياسية والعسكرية.

2. استمرار دور الأبناء بعد مقتل الأسود: الأبناء كان لهم دور محوري في القضاء على الأسود العنسي، وهو ما يعكس علاقتهم القوية بالقبائل اليمنية المسلمة. فضلًا عن ذلك، واصلوا الاضطلاع بأدوار بارزة لاحقًا، مثل دور فيروز في رفض التعاون مع عبيد الله بن عباس على اليمن حين قدم بسر بن أرطاة، كما يذكر ابن سمرة في طبقات فقهاء اليمن، ودورهم في أحداث أخرى ذكرتها كتب التاريخ.

3. دور الأبناء في مقتل الأسود: كما ان الأبناء كان لهم دور في القضاء على الأسود العنسي، ومن المستحيل أن قبائل اليمن المسلمة ستسكت على قرار يتخذه قيس بإنهاء وجودهم، دون وجود أي معارضة لقيس في ذلك، أو حتى قبولهم كلاجئين لديهم!!

4. تناقض مع قوة قيس المحدودة: فرضية إجلاء قيس للأبناء تتناقض مع حقيقة ضعف نفوذه، خصوصًا أن ردته الثانية لم تدم طويلًا. انتهت حركته سريعًا بقدوم عكرمة بن أبي جهل، حيث استسلم قيس وطلب الأمان، مما يعكس محدودية قوته في اتخاذ قرارات استراتيجية كبرى مثل إجلاء الأبناء.

5. مقتل داذويه كحادثة فردية: تشير بعض المصادر إلى أن قيس قتل داذويه غيلة، لكن يبدو أن الحادثة كانت بدافع شخصي أو ثأر جاهلي، لا ضمن إطار خطة لإجلاء الأبناء. أرسل أبو بكر الصديق أبان بن سعيد بن العاص للتحقيق في القضية، الذي انتهى إلى أنها حادثة ثأرية، مما يؤكد الطابع الفردي للقضية، وجاء في خطبة أبان لهم: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع كل دم كان في الجاهلية .. وأنه من أحدث في الإسلام حدثاً أخذناه به.

هل حركة الأسود ضد نفوذ قريش؟

مع ضعف دعوى أن حركة الأسود العنسي موجهة ضد النفوذ الفارسي في اليمن؛ إذ لا وجود لهذا النفوذ، فقد ادعى بعضهم أن حركة الأسود كانت موجهة ضد نفوذ قريش، وادعوا أن سكان اليمن – وغيرهم من المرتدين – شعروا بتهديد هيمنة قريش ونفوذها المتزايد بعد انتشار الإسلام. فالدولة الإسلامية الوليدة، برئاسة النبي محمد ﷺ في المدينة، اعتُبرت استمرارًا لنفوذ قريش السياسي والديني، وهو ما أثار حفيظة زعماء القبائل الجنوبية الذين خشوا من تهميش نفوذهم.

وهذه الدعوى ينقصها الدليل التاريخي. ونحن لا نخفي وجود تبرير ادعاه بعض مدعي النبوة، مثلا: مسيلمة قال لقومه بني حنيفة: أخبروني بم صارت قريش أحق منكم بالنبوة والإمامة؟ والله ما هم بأكثر منكم ولا أنجد. وإن بلادكم لأوسع من بلادهم. وأموالكم أكثر من أموالهم؟!

ومسيلمة كذاب في دعواه؛ فلم يكن لقريش نفوذ على الدولة الإسلامية، وهو يعلم محاربة قريش للإسلام، ولكنه حاول تثوير العاطفة والحمية القبلية عند قومه، ليصور لهم الأمر كأنه خضوع لقريش.. لا خضوع للإسلام. ومعلوم أنه جاء إلى النبي وطلب منه أن يشاركه في الملك، فرفض النبي ذلك، وقال له:  (لو سألتني هذه القطعة [قطعة جريد] ما أعطيتكها، ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله).

ولذلك أظهر مسيلمة أنه لا ينقص قومه شيء؛ حتى النبي القرشي بزعمه، فبنو حنيفة لديهم نبي يوحى إليه من السماء. ولكن هذا لم ينقل مثله عن الأسود، وحتى لو نقل كما نقل عن مسيلمة فلا حجة فيه أصلا.

فدعوى أن الأسود ثار ضد نفوذ قريش يدحضه أمران – كما يقول د/ الشجاع، وهما: الأول: أن قريشاً نفسها حاربت الإسلام. ولا سلطة لها على الدولة الإسلامية؛ فكيف ستفرض نظامها القبلي على اليمن؟ والثاني: أن الولاة الموجودين في اليمن ليسوا من قريش، بل هم قحطانيون يمنيون (الأنصار وغيرهم).

وهل كون النبي صلى الله عليه وسلم قرشيا يقتضي أن الدولة الإسلامية قرشية؟! العرب خضعوا للنبي بوصفه رسولا من عند الله، وليس بوصفه رجلا من قريش، وهو الذي كان يسيطر على الدولة الإسلامية. ولذلك فالتمرد هو تمرد على الدولة الإسلامية وليس على قريش.

وقريش بعد فتح مكة فقدت سلطتها حتى على مكة، وأصبحت مكة ولاية إسلامية، وولى عليها عتاب بن أسيد الأموي، وهو من شباب قريش، وليس من سادتها، الذين فقدوا نفوذهم على مكة. فنفوذ قريش انتهى حتى في مكة التي هي معقل قريش.

ثم ما علاقة ادعاء النبوة بالتمرد ضد نفوذ قريش؟

والقبائل اليمنية وقفت ضد حركة الأسود، ولو كانت حركته تمردا ضد نفوذ قريش – المفقود أصلا – لوقفت معه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى