مرت ساعة زمن وأنا أحتضن رأسي بكفيّ.. كنت وحيدا في الغرفة بعد أن تركها المحقق الذي سجل معلومات روتينية عني.. أحداث الساعات الأخيرة ما تزال تضرب رأسي وكأنها حديدة ثقيلة، وهأنذا أحاول تجميع أفكاري، واستعادة تفاصيل الحادث المأساوي الذي وقع أمامي.. وكنت أنا المتسبب فيه!
ستظل ذكرى ما حدث تؤرقني سنوات طويلة.. لن أنسى هذا اليوم الذي انقلب فجأة من يوم سرور إلى يوم غم ومصيبة لم أتوقعها ولم تخطر ببالي قط.. ولولا هدوء نزل كدلو ماء على قلبي، وعمر طويل اعتركت فيه بالحياة والناس والمشاكل لكان يمكن أن يكون ما حدث سببا في مصيبة أخرى تنزل بي أنا هذه المرة!
أسندت ظهري إلى الجدار، ورحت أتلفت في أرجاء الغرفة الحارة نوعا ما.. فقد كان الوقت صيفا، وكان اليوم هو يومي الأخير في إدارة الامتحانات التي عملت فيها منذ قدمت إلى اليمن، وأنجزت فيه أوراق الإذن بالسفر والعودة النهائية لبلدي بعد أن انتهت إعارتي، وصار لزاما عليّ أن أغادر دون رجعة هذه المرة.
انتبهت بعد أن وقعت الواقعة إلى أنني كنت منذ الصباح أحس أن نفسي كانت تمور بمشاعر متناقضة ومضطربة لم أفهم كنهها، وفسرتها أنها نتيجة السرور بالعودة إلى الوطن والأهل، والحزن لأن سنوات الإعارة الأربعة قد انتهت وانتهى معها مشواري المهني في مجال التربية والتعليم؛ فليس بعد اليوم إلا الإحالة إلى التقاعد وانتظار الأجل المحتوم، لكن حصيلة عمل الأربع السنوات كانت كافية لتجعل هذا اليوم سعيدا، وخاصة أنني شقيت طويلا، وكابدت المتاعب، وتحملت مالا يتحمله من هو في مثل سني؛ لتكون الحصيلة كافية لقضاء بقية عمري مستورا بعد أن حققت حلمي الكبير في شراء شقة وتزويج ولدي الوحيد! وطارت خواطري إلى بلدي.. هناك حيث ينتظر الأهل والأصحاب يوم عودتي بشوق لا يعرفه إلا من يكابد طويلا فراق الأحباب.. وكنت أعلم حالتهم هذه من خلال الاتصالات العديدة التي أجريتها معهم لمعرفة آخر طلباتهم التي حرصت على شرائها لهم بمناسبة العودة النهائية إليهم، وكانت كلماتهم الحنونة وطلباتهم على كثرتها تزيدني سرورا وتلهفا على الساعة التي نلتقي فيها، ونطفيء ظمأ الشوق والحنين الطويلين.
ومن جديد عاودتني تفاصيل الحادث بل المأساة الذي تسببت بوقوعها برعونة وصبيانية وأنا الشيخ الذي تجاوز الستين من عمره وغزا الشيب رأسه فتحتم أن يدفع ثمن غلطته التي لم تكن تخطر بباله، وأثارت دهشة من يعرفني تربويا قديما وموجها نال احترام الكبير والصغير.. ولكن.. وآه من لكن هذه! هل كنت أظن يوما أن ينتهي عملي هكذا.. يضيع كل شيء في لحظة مرح كنت أظن أنني أداعب فيها صديقي وابن بلدي استجلابا لضحكة؟
لن يصدق أحد ما حدث ولا كيف حدث؟ انتهت عملية إنجاز الأوراق، ولم يعد هناك شيء يقتضي البقاء في الإدارة، وكان لا بد أن أغادر مبنى الوزارة للمرة الأخيرة لإتمام استعداداتي للسفر، وفي اللحظة التي كنت أهمّ فيها بالمغادرة؛ دخل إلى الغرفة التي كنت فيها (إبراهيم) زميلي في العمل وابن بلدي يبحث عن مكتب وكرسي يجلس إليه لكتابة بعض الأوراق، ودون أن ينتبه الصديق قمت بسحب الكرسي الذي أراد الجلوس عليه، ولأن الرجل كان منشغلا ومهموما فقد ألقى بجسده الضخم بقوة على الكرسي وهو يظنه في مكانه.. وحدثت الفاجعة.. هوى الجسد الضخم إلى الأرض وأحدث ضجة مسموعة.. ولأني فعلتها نوعا من الدعابة فقد علا صوتي ضاحكا.. وكان ضحكا من القلب.. لكنه سرعان ما انقلب إلى صمت رهيب فخوف ورعب سيطر على كياني كله وأنا أشاهد جسد زميلي ملقيا دون حراك على الأرض.. وعيناه شاخصتان إلى أعلى.. وشيء من الريق الأبيض يخرج من جانبي فمه!
يا الله ماذا حدث؟ دارت الدنيا برأسي وأنا غير مصدق ما هو أمامي!
هرعت إلى الجسد الممدد على الأرض ومشاعري تموج بين الأمل والرعب.. ولم يستجب زميلي لي وأنا أهزه بقوة صارخا فيه باسمه: إبراهيم.. إبراهيم! وسرعان ما اختفى صوتي، وهرعت خارج الغرفة أستنجد بزملاء لنا جاءوا مسرعين خلفي، وبدأوا يحاولون معرفة حالة الرجل الملقى على الأرض دون حراك!
وفي المستوصف القريب.. كانت الفاجعة التي نزلت على رأسي كالصاعقة:
– يبدو أن صاحبك أصيب بشلل بعد أن تعرض لضربة مباشرة في العمود الفقري! ويحتاج التشخيص النهائي إلى وقت لمعرفة هل هو شلل كامل أو نصفي، ولتقدير إمكانيات العلاج والشفاء!
ضربة في العمود الفقري.. شلل كامل أو نصفي.. علاج سيكون طويلا ومكلفا بطبيعة الحال.. وكل ذلك أنا الذي سيتحمل مسؤوليته!
❃❃❃
قضت الإجراءات الروتينية أن أبقى في غرفة الأمن في المستوصف قبل أن يتم نقلي إلى أحد أقسام الشرطة.. لكن مسؤولين كبارا في وزارة التربية والتعليم؛ ممن يعرفونني جيدا؛ تدخلوا ليكون مقر احتجازي في غرفة الأمن في مبنى الوزارة نفسها، ومتعهدين بأن يحلوا المشكلة بما لا يظلم المصاب العزيز! وعرفت أن المريض تم إسعافه إلى المستشفى الكبير حيث تتوفر إمكانيات طبية جيدة، ووضع في غرفة الإنعاش.. وحتى المساء عندما جاءني أحد المدراء المحليين لم يحدث تغيير إيجابي في صحته.. وفهمت من المدير أن الحالة صعبة جدا، والعلاج يحتاج إلى نقود كثيرة، ودون تصريح فهمت أنني سأتحمل كل ذلك على حسابي.. جزاء عن فعلتي التي فعلتها!
انتهى كل شيء إذن.. ضاعت الأحلام.. وتبخرت الآمال في تقاعد مريح.. وتبدد ما تبقى من شقاء أربع سنوات في الغربة ذقت فيها المر والأكثر مرارة من أجل أن يأتي هذا اليوم الذي أختم فيه حياتي العملية بنجاح وهدوء.. وفي اللحظة التي ظننت أنها ستكون الخاتمة السعيدة حدث ما حدث! الغريب أنها لم تكن المرة الأولى التي نتمازح فيها رغم تقدم أعمارنا وتجاوزنا الستين سنة، وكم دبرنا المقالب والمواقف المحرجة! وكم ضحكنا كالأطفال ونحن نكتشف ما ندبره لبعضنا بعضا! كنا شيوخا في ظاهرنا.. صبيانا في بواطننا.. وكأننا نعوض سنوات طويلة من الكد والشقاء راحت علينا دون أن نلهو فيها ونتمتع بأعمارنا! لكن الحق يقال إنني كنت الأكثر إيذاء له في مزاحي بينما كان مزاحه معي هينا مسليا كشخصيته اللطيفة الوديعة!
❃❃❃
– ينفع هذا يا أستاذ؟ أنت اليوم ضيفنا.. لكن على الحاصل!
كان هذا الجندي المكلف بحراستي في غرفة الأمن في مبنى الوازرة.. وكان يشير إلى فراش متواضع فرشه في جانب من الغرفة لأنام عليه تلك الليلة المظلمة في حياتي. ولم تفتني لهجة الشاب الودية وهو يرحب باستضافتي، فمنذ دخلت الغرفة أبدى لي من الترحيب والود والتعاطف الشيء الكثير، وكلها مشاعر يعجز كثير ممن هم أكثر تعليما منه عن إبداء مثلها، وفعلها هو بعفوية البسطاء من الناس!
شكرت الجندي الشاب على لطفه، وتمددت على الفراش، ووضعت كفيّ تحت رأسي ورحت أتأمل في سقف الغرفة البائسة، وطلائها الباهت، وحالتها الفوضوية في الأسفل.. كانت غرفة جنود في مقتبل العمر جاءوا من الريف الفقير المحروم من التعليم الكافي؛ فلم يكن أمام أبنائه إلا العمل في السلك العسكري! وأخذتني أفكاري إلى الخلف لتجلب لي صورا من الماضي القريب؛ يوم كنا أنا وصديقي المسكين (إبراهيم) نسافر في الأرياف والبوادي، ونطوف الجبال والوديان ونحن نؤدي عملنا، فكم كنا نشاهد من أمثال هذا الجندي في القرى، والوديان، والحقول المنتشرة على جوانب الطرق، وغالبا لم نكن نعرهم اهتماما كثيرا فلا الوقت كان يسعفنا لذلك، ولا العوامل الاجتماعية والمهنية كانت توفر فرصا للقاء والحديث!
وداهمتني من جديد الحادثة المؤسفة التي تسببت بها لزميلي المسكين.. كان صديقا بالغ الطيبة وبسيطا في غاية البساطة التي يسميها كثيرون: سذاجة.. ولطالما بالغت في التنكيت عليه وعلى طبيعته تلك! وكم صنعت له من مقالب محرجة مع الناس ومع ذلك فلم يغضب مني، وكان قصارى ما يواجهني به تكشيرة أعرف أنها مصطنعة وليست صادرة من قلبه الطيب النقي فسرعان ما كانت تتحول إلى ابتسامة ودعوة رقيقة لي: الله يسامحك.. ليه كدا بس!
وبيني وبين نفسي كنت أعترف أحيانا أنني كنت أقسو عليه في مزاحي المتواصل معه، وتصيّدي لبعض أخطائه وهفواته، وقذفه بالنكات والقفشات القاسية وهو يتقبل كل ذلك بابتسامة ودودة وكأنه سعيد أنني سعيد ولو كان ذلك مؤلما له! فلم أكن أراع كبر سنه وطبيعته البسيطة المتسامحة مع الناس كلهم التي لم تكن تفترض فيهم سوءا أبدا! وربما تماديت أحيانا إلى درجة السخرية المريرة منه ومما كنت أصفه ضاحكا بأنه غباء في شخصيته دون مراعاة من قد يكون موجودا معنا من الطلاب أو الزملاء!
مر الوقت بطيئا منذ دخلت الغرفة حتى حل الليل وكأنه ساعات تتمطى من الكسل، وتذكرت بيت الشعر الذي طالما شرحته للطلاب:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
الآن عرفت إحساس الشاعر معرفة المجرب الذي يعاني تطاول الليل البهيم، وما كان يعانيه في دواخل نفسه المتعبة القلقة المترقبة لبزوغ الصباح.. وربما لو سنحت لي فرصة لشرح هذا البيت من جديد لكان الشرح أوفى وأكثر دقة!
عادوني الإحساس بالخجل والألم الشديد من تذكر سوء معاملتي لصديقي (إبراهيم)، والتي اختتمتها بهذه الكارثة التي قد تفقده الحياة، وفي أحسن الظروف سوف تجعله معاقا.. وبذلك خسرنا معا كل شيء.. وإن كانت خسارته هو أسوأ مني، فقد كنت سأخسر المال لكنه سيخسر الحياة والإحساس بها!
وللمرة الأولى في حياتي داهمني الشعور بأنني إنسان تافه، قضيت حياتي لا أرى إلا نفسي وتفوقي، لم أكن أرحم ضعف الناس وكأنني مكلف بتقريعهم وعقابهم على ذلك.. وكنت وما زلت أقضي حياتي في المزاح على حساب كرامة الأشخاص.. لا أراعي فيهم زمالة ولا سنا ولا مقاما! وغرني أنني وجدت كثيرين يضحكون لكلامي ونكاتي! وخامرني لحظتها هاجس أن هذا الذي جرى اليوم هو عقوبة إلهية أستحقها.. وأحسست بوخز في قلبي خوفا أن أكون قد تعرضت لغضبة أكبر مني بكثير جزاء إساءاتي للآخرين!
سمعت من خارج الغرفة صوت الجندي وهو يتحدث مع زميل له عن مناوبة كل منهما في الحراسة، وفهمت أنه سياتي لينام الآن، فنمت على جانبي الأيمن، وجعلت وجهي باتجاه يجعلني أرى ما في الغرفة، وتظاهرت بالنوم مغمضا عينيّ اللتين كنت أعلم أن النوم سيجافيهما هذه الليلة الطويلة! وبعد لحظات دخل الجندي الشاب وهو يبالغ في حرصه على أن يكون هادئا فلا يزعجني.. وبنصف إغماضة رأيته وهو يفرش جريدة كان يحملها على الأرض، ظننت بداية أنه يستعد لتناول طعامه لكنني فوجئت به يجلس عليها ليجرب كيف سيكون النوم عليها، ووضع حذاءه في المكان الذي سيضع رأسه فيه عند النوم، فلم يكن معه في الغرفة إلا فراش واحد ومخدة واحدة أعطاهما لي لأنام عليه؛ فلم يكن من معاني الكرم عند هذا الإنسان البسيط أن ينام على فراش ويترك ضيفه (الأستاذ) ينام على الأرض ولو كان.. سجينا عنده!
هزني هذا الموقف النبيل من إنسان ربما مررت به مرات لا تحصى أثناء دخولي الوزارة وخروجي منها ولم يكن يثير انتباهي، وربما لم أكن ألقي السلام عليه، فهو في الأخير لا يشكل عندي شيئا مهما.. أنا الموجه الجهبذ والمتعلم الكبير!
كان هذا الموقف القدوة في التضحية والإيثار درسا جديدا لي؛ وشعرت أن الله له حكمة أكيدة في كل ما يجري لي منذ الصباح! وقبل أن يلقي الجندي بجسمه على الفراش.. أو صفحات الجريدة التي اتخذها فراشا للنوم؛ شاهدته يتناول شيئا من على طاولة صغيرة متهالكة كانت موضوعة في ركن الغرفة.. عرفت أنه مصحف، ثم قعد وظهره إلى الجدار، وفتح المصحف وراح يقرأ بصوت غير مسموع وهو يحاذر أن يزعج ضيفه الذي ظنه نائما! وبعد دقائق أنهى القراءة، وأخذ قارورة ماء ووضعها بهدوء بجانب فراشي إذا احتجت للشرب في الليل.. وأطفأ النور، وتمدد بهدوء على جنبه الأيمن موليا ظهره لي.. وحل صمت عميق في الغرفة لكن ما كان يدور في رأسي كان أقوى من أصوات الشلالات والمطارق، فهذا شاب في مقتبل عمره لم يحظ بالعلوم التي أفنيت عمري في تحصيلها ومع ذلك يتصرف في هذه الدنيا كمن تعلم الحكمة والآداب الرفيعة.. ينزل لضيف لم يختره بمحض إرادته عن فراشه، ويحرص على راحته أيما حرص، ولا ينام حتى يناجي الله بآيات من القرآن.. وأنا الشيخ الكبير كانت تمر عليّ أيام وأيام لا أفتح فيها المصحف وتشغلني هموم الدنيا عنه!
تبدل الحال بعد كل ما شاهدته.. ونزل شيء من السكينة في نفسي، وبكيت صامتا حتى بللت دموعي وجهي، بكيت صديقي وبكيت نفسي وعمري.. وعرفت أنني كنت أعيش في عالم آخر لا علاقة له بالبساطة والنبل والحقيقة الربانية عن إنسانية الإنسان!
وفعلت تلك الدموع فعلها ورحت في نوم عميق.. عميق!
❃❃❃
استيقظت على صوت شخص يصلي بجواري.. فتحت عيني بصعوبة، كان رأسي ثقيلا نوعا ما، وبعد أن استوعبت الحال الذي أنا عليها، والمكان الذي وجدت نفسي فيه؛ نهضت بعزم وذهبت إلى دورة المياه خارج الغرفة ثم عدت وأديت صلاة لم أشعر بحلاوتها مثل اليوم.. وعندما انتهيت لم يكن صاحبي الجندي موجودا في الغرفة فقدرت أنه ذهب في أمر يتعلق بعمله، وعضني جوع شديد، وندمت أنني رفضت أكل شيء مما جاءني به الجندي بالأمس! وقبل أن أسترد أفكاري دخل الشاب وهو يحمل صينية متواضعة عليها أرغفة خبز وقليل من الجبن والزيتون، فوضعها على الأرض أمامي وهو يحييني بتحية الصباح مزدانة بابتسامة جميلة؛ قبل أن يخرج للحظات ثم يعود وهو يحمل إبريق الشاهي وكأسين، وبلطف كاد يبكيني دعاني للفطور:
– تفضل يا أستاذ.. شرفتنا جدا.. لا تعلم كم أنا سعيد بتشريفك هذه الغرفة.. لا تحزن مما حدث.. كل شيء بأمر الله.. والله وحده يعلم أين الخير!
مددت يدي للطعام فالتهمت ما يسد رمقي فقط.. فلم أرد أن أزاحمه في طعامه البسيط، وكنت في حالة وجد غير معهودة في ضيافة هذا الجندي البسيط الذي ربما لم يحفظ اسمي بعد، والذي كان يمكنه أن يستغل ظرفي ويبتزني نقودا بلا حساب، وهو رغم صغر سنه وتواضع منبته إلا أنه علمني أنا (الأستاذ الكبير) دروسا في معنى أن يكون الإنسان.. إنسانا!
انتهينا من طعام الفطور، وأخبرني الجندي وهو يخرج ببقايا الطعام أنه سيغلق الباب لكيلا يراني أحد من زملائي الموظفين عند دخولهم الوزارة.. فشعرت بالامتنان لهذا التدبير فهززت رأسي مرحبا وموافقا، وقد كانت لفتة ذكية منه فاتتني في غمرة الحالة التي كنت فيها.
قضيت ساعات مملة جديدة ما بين النوم والتأمل في شريط حياتي الماضية.. وقبيل الظهر سمعت صوتا يسأل عني.. كان أحد زملائي قدم لزيارتي، وانفتح باب الغرفة، وظهر الجندي واستأذن بأدب للقادم الزائر وكأنني في بيتي وليس موضوعا تحت حراسته! ودخل زميل من كبار موظفي الوزارة المحليين ومعه رئيس البعثة التعليمية لبلدي.. وبعد أسئلة سريعة عن الحال سألت عن حال زميلي (إبراهيم) فتبادل الرجلان النظرات، وارتعب قلبي من الجواب المتوقع وبادرني ابن بلدي بصوت عميق:
– الحمد لله على كل حال.. البقية في حياتك وعظم الله أجر الجميع!
انهرت باكيا بصوت عال حتى اندفع الجندي الشاب إلى داخل الغرفة منزعجا لكن الرجلين أشارا إليه بالخروج.. وتركاني أبكي حتى استنفذت شحنة الحزن والفجيعة، وراح كل واحد منهما يواسيني بما يظنانه ملهما لي على الصبر والسلوان:
– نحن نعلم أنك كنت صديقا له.. وأن فجيعتك به أعظم من فجيعة الجميع! وما حدث قد حدث، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وكلنا تألمنا لما حدث لكننا نؤمن أنك لم تكن قاصدا أذيته!
– على فكرة يا أستاذ (وصفي)؛ المرحوم استعاد وعيه قبل أن يلفظ أنفاسه، وأوصانا بعدة أشياء منها أنه يغفر لك كل ما تسببت به له، ويعفيك من أي مسؤولية قانونية!
كانت الكلمات الأخيرة لصديقي مفاجأة جديدة، ودرسا في الأخلاق لم أستغربه من زميلي (إبراهيم) جعلني أبكي من جديد، وأزداد لوما لنفسي!
– البعثة رتبت كل شيء للسفر بالجثمان إلى بلده وأهله ليدفن هناك., واتصلنا بأسرة المرحوم وتفهم أبناؤه الوضع، وأخبرناهم بعفوه عنك فأقروا الأمر، ووكلوا أمرهم لله.. وطبعا ستكون أنت مرافقا للجثمان إن لم يكن عندك مانع!
هززت رأسي بما يفيد موافقتي.. ونهضت أجهز نفسي لمغادرة الغرفة استعدادا للسفر، وأعلنت لهم أنني سأضع مبلغا من المال ضمن مال المرحوم.. فاستحسنوا الفكرة مضيفين أن الوزارة والبعثة أيضا فعلوا مثل ذلك!
سبقني الرجلان إلى الخارج، وقبل أن أغادر الغرفة وضعت مبلغا من المال تحت مصحف مضيفي الجندي الشاب.. وخارج الغرفة هرع إلي الجندي عندما رآني خارجا وهو يقول بأسف حقيقي:
– والضيافة التي أعددناها لك على الغذاء.. ماذا سنعمل بها يا أستاذ؟
صافحته بحرارة وأنا أقول له بصوت واهن:
– تهنأ بها نفوسكم الطيبة!
وقبل أن أنصرف تذكرت شيئا؛ فأخرجت قلمي الفاخر -الذي أهداني إياه وكيل الوزارة بمناسبة توديعي وتكريمي في حفل خاص- ووضعته في جيب الشاب وأنا أودعه بصمت أبلغ من أي كلام.. وانصرفت والدهشة تغمر زميليّ، والحياء يقطر من وجه الجندي الشاب!
