أدب

وطن وحكاية! (ج1)

رحلة: بداية النهاية، ونهاية البداية!

أنَا بَرَاعِمُ العُمُرِ، وزُهُورُ الوَطَنِ، أَتَلَمَّسُ أَطرَافَ الحُلُمِ بَينَ حَنَايَا اليَومِ وآمَالِ الغَدِ؛ مُتَشَبِّثًا بِبَقَايَا الرَّجَاءِ، وبَصِيصِ الأَمَل، وضَوءِ الطَّرِيقِ الطَّوِيل، أَجُرُّ خُطَايَ الثَّقِيلَةَ والدُّرُوبُ مُلْتَوِيَةٌ مُعْوَجَّةٌ، يَتَثَاءَبُ المَسَاءُ على كَتِفِي كُلَّ يومٍ، ثُمَّ يَدخُلُ عَلَيَّ اللَّيلُ ثَمِلًا بِأَفْكارِيَ المُتْعَبَةِ، المُثْخَنَةِ بِإحْبَاطَاتِ المُجْتَمَعِ المُثْقَلِ بِتَخَاذُلِ الأُسْرَةِ، ثُمَّ أَسِيرُ بِشُجُونِي المُنْطَوِيَةِ فِي صَدرِي وكُلُّ صَبَاحَاتِي تَتَرَنَّحُ سَكْرَى، أُحَاوِلُ بِكلِّ ما أَمْلِكُ مِن قُوَّةٍ أنْ أُوقِظَ في رُوحِيَ الإصْرارَ، وأُوقِدَ فِيهَا عزَائِمَ الرِّجَالِ، حتَّى تَقُومَ بِي على مَعَالِي الأُمورِ، ولكنْ…. هَيهاتَ هيهَاتَ!

أَخرُجُ إلى ظلِّ الشَّجَرَةِ كُلَّ صَبَاحٍ، أَجلِسُ تَحتَها أُرَقِّعُ أَوْجَاعِي بِخُيُوطٍ مِن أَضْوَاءِ القَرْيَةِ الخَافِتَةِ الباهِتَة؛ وكُلِّي آهاتٌ وجِرَاحٌ، صُرَاخٌ واسْتِصْراخٌ، كُلُومٌ وأَتْرَاحٌ، لَكَأَنِّي مَنْزُوعُ المَعنَى والوُجُودِ في هذَا الكَونِ، غَيرَ أنِّي أُسِرُّ كُلَّ ذلك في نَفسِي، ولا أُبْدِيهِ لأحَدٍ.

لَحظةً…

كان لي أَصدِقَاء أَقِفُ مَعَهُمْ على أَعْتَابِ الوَطَنِ والبرَاءَةُ تَمْلَؤُنَا وكَأَنَّنا مَلائِكَةٌ هَبَطَتْ على الأَرْضِ مِنَ السَّمَاء، أَسْلُكُ مَعَهُمُ الدُّرُوبَ المَهجُورَةَ وكَأنَّنا أَطفالٌ تائِهُونَ، ضَلُّوا طَرِيقَ العَودَةِ إلى الدِّيَارِ، نَرْسُمُ خَرِيطَةَ السَّيرِ إلى الغَدِ؛ لِأَنَّنَا القادِمُونَ مِن الوَرَاء؛ الهارِبُونَ مِنَ الأَمْس، السَّائِرُونَ إلى الله بِفِطْرَتِنا… هَكَذَا كانَتِ البِدَايَاتُ الخَجْلَى؛ لا نَعرفُ لِمُرِّ العَيشِ مَذَاقًا، ثُمَّ دَارَتِ الأيَّامُ، وتَجَبَّرتِ الحَياةُ، واتَّسَعَتْ مَتَاهَاتُها، فإِذَا أَنَا بِهِمْ وقَدْ تَلَاشَوا كَغَيْمَةٍ عابِرَةٍ، لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ، اللهُ أكبَرُ!

تَرَكُونِي أَمْضَغُ مَرَارَةَ الحَياةِ وأُقَاسِي شِتَاءَهَا القارِسَ؛ غَيرَ أنِّي أَصْطَلِي حِينًا بِجَذْوَةِ الذِّكْرَى، وإنْ كانَتِ الذِّكْرَى مُؤَرِّقَةً، غَيرَ أنِّي أَتَسَلَّى حِينًا آخَرَ بالنِّسْيَانِ، وإنْ كان النِّسيَانُ صَعبًا على ذِي لَوْعَةٍ وشَوقٍ.

تَحَوَّلَتِ الحياةُ إلى مَنْفًى أَعِيشُ في داخَلِه، وأَحْتَسِي فيه كَأسَاتِ البُؤْسِ والشَّقَاءِ وَحِيدًا؛ ولَكنِّي…. لَمْ أُفَكِّرْ -ولَو لِثَانِيَةٍ واحِدَةٍ- في مُفَارَقَةِ قَرْيَتِي الَّتِي أَلْبَسَتْنِي قُبْلَةَ الحُبِّ، وَعَلَّمَتْني مَعنَى الحَياةِ، والرُّجُولَةِ والكِفَاحِ، وَعَلَّمَتْني كَيفَ أُحِبُّ هذه الأرضَ الَّتي هِيَ كُلُّ أَجْزاءِ رُوحِي وكِيَانِي وجُذُورِي.

ذهبَ أصحابِي…!

وجِرَابُ السَّفَرِ على كَتِفِي مَثْقُوبٌ، وضَوءُ الفَجْرِ بَاتَ قَرِيبًا جِدًّا، ورِوايَةُ الرَّحِيلِ مُكْتَمِلَةُ الفُصُولِ؛ لكِنَّ الرَّاويَ لَمْ يَزَلْ بَعدُ هارِبًا مِن ذاتِه إلى ذاتِه؛ حَيثَ لا مَهْرَبَ مِن الواقِعِ البَئِيسِ، ولكنْ… لَيتَ القَومَ لَمْ يَرْحَلُوا، ولَيتَ جَوَّ الوَطَنِ يَصْفُو مِن ضَبَابِ غِيَابِهِم!

تَرَكُونِي هُنَا والطُّرُقَاتُ كُلُّها مُوحِشَةٌ، والأَحْيَاءُ يَتَقاسَمُها الأَسَى والصَّمْتُ، وتَتَخَلَّلُها حِكَايَاتُ الهُرُوبِ والرَّحِيلِ، وأَصْواتٌ تَقُولُ: خَلُّوا سَبِيلَهُم؛ فإنَّمَا اخْتَارُوا طُهْرَ الحَيَاةِ، وطُهرَ المَمَاتِ، خَلُّوا سَبِيلَهُم؛ فَمُبْتَغَاهُمُ العُلَا، خَلُّوا سَبِيلَهُم؛ فإنَّما مَلَؤُوا حَقَائِبَ السَّفَرِ آمَالَ النُّفُوسِ الكِبَارِ، ثُمَّ انْطَفَأَ القَمَرُ في نِصفِ الطَّرِيقِ… وكانَتِ النَّهاياتُ!

هذا أَنَا، وهذا وَطَني، كُلَّمَا حاوَلتُ أَنْ أَحْضُنَهُ، فَتَحَ لِي بَوَّابَةً إلى المَنْفَى، وغُربَةً في الرُّوحِ، وَوَحْشَةً في الطَّريقِ. وهذه حِكَايَتي؛ أنَا الفَتَى الغامبِيُّ الكادِحُ.

وهذه رحلةُ: بِدايةِ النهايةِ، ونهايةِ البدايةِ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى