5 دقائق
حاولت مرارًا أن أبوحَ بشيءٍ مما عشته في هذه التَّجرِبة، وكلما رأيتُ شخصًا يعاني تملكني شعور كبير بالخوفِ عليه، والرجاء له بالنَّجاة من الهوّة التي وقعَ في شباكها.
حاولتُ أن أقولَ شيئًا من ذلكَ في مناسباتٍ عديدة، ولكن كلما شعرت أني وصلت، وجدتني أعود من أولِ السَّطر، إنَّ الاكتئاب تجرِبة مأساوية، أنتَ بعدها مختلفٌ عمَّا قبلها.
كنتُ أشتري علاجًا من إحدى الصيدليات، كان ورائي شاب يخبره الطبيب أنَّ هذا علاج للاكتئاب، تسمرت مكاني، وترددت كثيرًا للتحدث معه خارج الصيدلية، تخيلتُ حياته كحياتي، ثمَّ قررت الانتظار وتحدثُ معه، تلك الشَّفقة نابعة من تجرِبة لم أعهدها.
أن تفقدَ شغفك في الحياة وتعيش كلّ شيء لا معنى له، لا شيء يلفتُ انتباهك ولا شيء يستدعي منكَ أن تتفاعلَ معه أو تمنحه شيئًا من مشاعرك، فكل شيء لا يعنيك.
إنَّ الشيء الوحيد الذي يعني هو احتقار الآخرين الذين يمارسونَ حياتهم على طريقتهم، إنهم يستفزونك وتود لو أنك تصرخ في وجوههم: “ما أسخف ما تفعلون”.
يتملكك وهمٌ عظيمٌ يشعركَ بالامتلاء والنُّضج والاكتفاء الذاتي، وأنك تعي ما لا يعيه الآخرون. ربما هناك أشياء كثيرة أنت محقٌّ فيها في هذا الوضع، ولكن انتبه فهذا فخٌّ.
إنَّ أول طريق للتَّعافي من الاكتئاب هو معرفة كيفية عمل الاكتئاب، فإن أدركت ذلك يبقى معك أن تبدأ رحلة العلاج، ولكن هذا وحده لا يكفي.
التَّعافي الحقيقي من الاكتئاب يبدأ من اللحظةِ التي انتهى إليها الاكتئاب، أعني الثّقة المفرطة بالنَّفس، حيث إن الاكتئاب – كما سبق – يشعرك بالتَّميز والبصيرة والمعرفة الدقيقة بالأشياء، فأنت تفكر بشكلٍ منطقي، ولكن الخطأ أن تفكر بمنطقية في أشياء غير منطقية كعلاقات الحب بين الجنسين وعلاقات الصَّداقة، بل حتى علاقات الأبوة والبنوة، فالاكتئاب يجعلك تنفر من كل علاقة أو على الأقل صراع مرير في تقبلها ورفضها، وذلك إنها شيء غير مفهوم، وربما سخيف.
أرجع وأقول: إنَّ الثقة المفرطة بالنفس التي يعيشها المكتئب هي وهمٌ وليست ثقة حقيقة نابعة من تجربة عميقة في التَّعامل مع البشر، إذ كيف يكتسب ذلك وهو جل وقته أو كله حبيس نفسه؟ إنه مملوءٌ بالفراغ وفراغه مملوء بأوهامه.
حين تقرر التَّعافي، قرِّر أن تتوقَّف عن الثقة بنفسك، وسلم نفسك لمن تثقُ به وهو أهلٌ للثقة، إذ لو كانت نفسك محل ثقة ما كنت في هذه الحال، وما كنت تعاني من آلامٍ نفسيَّة تدفعك للانتحار، فالثقة بالنفس في هذا الوضع كمن سقط في حفرة، وكل وقته يحفر ويحفر لأجل الخروج. وما هو بخارج!
المكتئِب في وضع غير طبيعي، ولكنه يعتقد أنه يعيش حياته كما يريد؛ إذ لو كان في وضع طبيعي ما كابد ليله أرقًا ولا أسهر عينه الليل كله، ولا ملأ روحه سوداوية وتشاؤمية يسميها وعيًا وعمقًا!
إذا كنتَ تعاني من ضيقٍ بين فترةٍ وأخرى، وحزن بين حينٍ وأخر، فهذا لا يعني أنك مكتئب بالضَّرورة، فهذه حالات تأتي لكلِّ أحد، فالاكتئاب شيءٌ آخر.
إنه يعيش عليك أنت، ويكره غيرك، ويغار عليك من كلِّ أحد، وهذه ليست أحجية! هو يريد أن يستفرد بكَ وحدك؛ ليمارس فيكَ ما يريد، فيسعى للتَّخلص من الآخرين بشتى الوسائل حتى يعزلك عنهم وتعيش منعزلًا، حينها يبدأ الاكتئاب مرحلة جديدة وهي جعل العزلة أمرًا منطقيًّا، وعلى الضِّد تسخيف كل شيء ينافي العزلة، فتكون في مرحلة تفكير عميق في جعل العزلة نظام حياة مثالي، فتنسجُ تلك الأفكار نحو (الآخرون هم الجحيم) (الاكتفاء الذَّاتي هو أعظم اكتفاء)، (وحيد كما يليق بي)، وغير ذلك من الأفكار التي تمجِّد الذَّات وتقلل من شأن الآخرين، والحقيقة المرة أنَّ الآخرين جحيمٌ ونعيم، وأنتَ في تفردكَ بذاتك جحيم، وستدرك لاحقًا كم هي مضحكة.
الاكتئاب هو تلك الرحلة الممتعة إلى الهاوية فأنت تحفر عميقًا في كلِّ مرة، وحين يبدأ المساء فتلك حفلة مثالية يعربد فيها الاكتئاب، ونفسك هي ساحة العربدة العنيفة.
بعد أن تتم عملية توطين العزلة نظامًا منطقياًّ، تأتي مرحلة أخرى كانت قد بدأت منذ وقت، ولكن لم يأت أوانها، وهي المشاعر، فالاكتئاب يكره المشاعر.
دعني أخبرك أنَّ المكتئِب شخص عاطفي، ومن هنا صار مهيأً ليكون مسرحًا للاكتئاب. فالمكتئب يصبح هشًا بعد أن كان رقيق النفس ومرهف المشاعر.
المكتئب في وقت الاكتئاب هو شخص ذو هشاشة نفسية عالية وضعيف بشكل لا يصدق، وهذا الضعف والهشاشة إما أن يكون تكوينه النفسي حسَّاسًا ورقيق المشاعر فأتاه الاكتئاب من هناك، أو يكون غير ذلك، ولكن الاكتئاب هدَّه وطحنه.
يكتشف المكتئب شيئًا ثمينًا على حدِّ زعمه، وهو أنَّ العالم موحشٌ وقاس، ولكنه إذا أراد التَّعافي فسيكتشف كم كان سخيفًا حين اعتقد أن تلك الفكرة كانت قيمة، لأنَّ الذي كان من المفترض أن تكشفه هو أنك أصبحت سخيفًا بالاكتئاب، أما كون العالم قاس وموحش فهذا عادي جدًا، بل وطبيعيٌّ في سياقه، ولكن الاكتئاب دهاليز من الجهل المتبجح.
في رحلة كره المشاعر سيستمرُّ بك الأمر إلى أن تكره حتى مشاعر المقربين منك، تنفر من كلمة لطيفة من صديق قريب ومحبب إليك، بل ويصل الأمر أن تكرهها من ذويك وأهلك.
حظّ المكتئب وكنزه الثَّمين هو الألم الذي يعشه، فالألم هو بقية الذكرى أيام التعافي، وهي الشواهد الكبيرة للرفض العنيف لهذا الوضع المزري.
فالمكتئب يشعر وكأنَّ هناك شخصين، الأول يقوده والآخر يرفض ويقاوم، ولكنه مغلوبٌ أبدًا، هذا المغلوب هو الذي يموتُ لاحقًا فيك، فهو أنت قبل الاكتئاب، هو أنت السوي والمتعافي قبل أن يدهمك هذا الجاهل المغرور، هو أنت بكل ما فيك من عيب وجميل قبل أن يدهمك هذا المعتوه الذي جعلك تكره نفسك ولا تتقبلها بما هي عليه.
إذن بعد أن يتم الاكتئاب مرحلة العزلة ثمَّ مرحلة المشاعر، تأتي لمرحلة العقيدة والعناية الإلهية، وهذه قد لا تحتاج إلى وقتٍ طويل إذ قد تمَّ ترويضك من مدة على كره الحياة وحساب كل شيء منطقيًا؛ وذلك أنَّ العناية الإلهية لا يمكن التحقق منها على الفور فتركها أولى من التفكير فيها.
وفي هذه المرحلة يدخل الاكتئاب جحيمًا لا عهد لك به، بل لا يمكن المقارنة بين أي اكتئاب وبين الاكتئاب الذي دخله سؤال معرفي، فحين تتحول النفس الإنسانية إلى ساحة صراع عنيف بين الإلحاد والإيمان فحينها تصبح الحياة جحيمًا لا يطاق، فالاكتئاب إيمانٌ حزين.
وما دمت لم تصل إلى هذه المرحلة ، فكل أشكال الاكتئاب هيّنٌ.
ومن هنا بعد أن استفردَ بك الاكتئاب فلم يُبقِ لكَ شيئا سوى الموت، تبدأ رحلته نحو الانتحار بشكل هائل، والرغبة في الانتحار ليس ضروريًا أن تكون بعد كل هذه المراحل، ولكن الذي أعنيه أنَّ الانتحار سيكون بين عينيك يومك وليلك.
لنتوقف هنا ولنتحدث عن التَّعافي، فالتعافي له شرطان:
الأول: والأساس هو إنكار نفسك وتسليم زمام أمرك لغيرك ممن تثق به، وهذا أمرٌ عصيٌّ عليك في وضعك الطبيعي فهو أصعب جدًا وقت الاكتئاب، ولكن التعافي يحتاج إلى تمردٍ عنيف، وثورة عارمة عليه.
إنني أقول لك ذلك لأنك إذا قررت أن تثق بنفسك فنفسك مكتئبة فأنت تسلم الأمر للاكتئاب من جديد، وليس من العقل تكرار الخطأ، فكيف بمأساة؟
الثاني: فهم عقلية الاكتئاب وكيف يعمل كما أخبرتك من قبل، وللذكرى فهي كالآتي:
1- الاكتئاب يعشقُ العزلة وكلما راودتك نفسك بالعزلة أكثر كافئها بالضد وكن منتبهًا.
2- الاكتئاب يعشق أن يرد كل شيء إلى العقل والمنطق، فكلما نفرت من شيء ليس منطقيًّا من وجهة نظرك، وخصوصًا تلك الحالات التي ترفضها الآن وكنت من قبل تمارسها بقوة، حينها عليك أن تهدئ من الشطح العقلاني.
3- كره المشاعر، فكلما كرهت، عليك أن تتدارك نفسك، ولا تستعجل كثيرًا، فارفق بنفسكَ في كلِّ أمر.
لعل أحدهم يسأل “أين الإيمان؟ لماذا لم تذكره في الحلول؟
ربما لا أكون مخطئًا إن قلت: إنَّ المكتئب من أشد الناس إيمانًا، ولكن لا سبيل له إلى ذلك، ومعاناته ربما تكون أشد من معاناة الممتحنين في دينهم، إذ هو سجين في داخله، يُقاد رغمًا عنه، والعلاج محاولة فك أغلاله وإعطائه حريته.
نعم الإيمان حرية وهذه يعرفها من عانى من الاكتئاب، بل حرية لا تشبهها حرية.
سينجو المكتئب، ولكن سيبقى الاكتئاب شبحًا يحوم حوله في بادئ الأمر، وسيصيبك الرعب دومًا حين تنفك عن الاكتئاب، الرعب من تلك التَّجرِبة العنيفة، الرعب من تكرار نفس الظروف، الرعب من العيش وحيدًا.
تتمنى لو تظل مع من حولك لوقتٍ أطول حتى لا يفترسك، وهذه مرحلة لن تطول، وستتعافى.
أما أنا فما زلت أراه، أراه مفعمًا بالفضول، يريد أن يشاركني كل تجاربي اليومية، يريد أن يشاركني حزني ومشاكلي وهمومي، هو يمشي معي لفترات، يمد يده للسلام، ولكن لا أقابله إلا بشتيمة وضحكة، سيطرت عليه، وفي أوقات كان حالي كحال “جون ناش” في فيلم “عقل جميل” بعد أن خرج من حفل نوبل، يراه، ولكن لا سبيل.
بيني وبينه قاب قوسين، ولكنا بعيدون بعد المشرقيْن، والسَّلام.
ما وقفت على توصيفٍ للاكتئاب كتوصيفك، أحسنت، أحسنت غاية الإحسان!
كلام جميل جدا وأتمنى أن يصل لكل شخص قد مر بهذه المرحله العنيفة التي كانت شباك عنكبوت لكثير من الشباب
وأدت بهم إلى نهايه مؤلمه ..سلمت يداك ابن العم
لله درك شعرت وانا اقرأ ما دونته خوفا شديدا يسري في جميع مفاصلي ، لا ادري هل انا ذلك الشخص الذي يظن انه بعيد كل البعد عن هذا المرض العضال ، اما اني واقع في شباكه وانا لا اعلم ….
وختمت بقولي دعها لله فهو اعلم بها وارحم
مقال جميل على الجرح والله. شكرا شكرا