لفترة طويلة في تاريخنا الإسلامي ظلَّ العلماء سندًا وظهيرًا للحاكم المسلم، يجالسونه معلمين، ويزورونه محتسبين، أو شافعين، ويرسلون له الرُّسل منبهين، ومحذرين، ويجمعون له الوفود من وَجَاهات النَّاس مساندين له ومؤازرين ومحتسبين ومنكرين.
وفي المقابل كان الحاكم، أو الأمير، أو السلطان، أو الوالي يعرف للعالمِ قدره، ويعلم منزلته وما يحمله من العلم والدِّين والخير والحق _ الذي هو ميراث الأنبياء_ لشخصه ودولته وأمته.
ولذلك فهو لا يستغني عن مشورته في حال السِّلم والحرب وربما كان سفيره الخاص لجموع الناس، أو القبائل، أو الأمراء المتمردين، أو الحكام المناوئين، وفي حالات كثيرة جدًّا كان العالم هو رئيس الدِّيوان السلطاني وهو المعني بإرسال الرسائل للولاة ثقة بأمانته وتقواه وحرصه على وحدة الكلمة والسَّمع والطَّاعة من النَّاس في المنشطِ والمكره.
بل وصل الأمر إلى تولي بعض العلماء وظائف القضاء والولاة والقادة العسكريين في الجيوش الفاتحة والجيوش المدافعة، وليس هذا بمستغرب ما دام الطرفين يعملان بمقتضى التوجيه الربَّاني في قولِ الله عزَّ وجل: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه …) آل عمران :187 . وقوله عزَّ وجل: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل : 43 .
إنَّ هذه العلاقة المتوازنة بين الطرفيْن كانت صمام أمان للدولة والمجتمع المسلم من الانحراف خاصة في مجال السِّياسة والحكم، وكانت صمام أمان من الانحراف العقدي لفتراتٍ ومحطَّات طويلة، وكثيرة، من عهد الخلافة الرَّاشدة وما بعدها (الأموية والعبَّاسية والدول المواكبة والموازية لها المملوكية والسَّلاجقة والمرابطين ودولة الأندلس وممالكها) وفترات من تاريخ الخلافة العثمانية.
وحتى تلك الفترات التي حصل فيها الاختراق المذهبي الغالي كالفكر المعتزلي، أو الرافضي الاثني عشري، أو الاجتياح الخارجي المغولي، أو الصَّليبي، فقد استمرت العلاقة بين أئمة العلم والسلاطين مثل شوكة الميزان التي تتأرجح يمينًا وشمالًا، لكنها لا تلبث أن تستقر لتكون سببًا في جعل كيان الدولة متماسكًا مترابطًا. والعلاقة بينهما متصلة في أحلك الظُّروف لا ينفك أحدها عن الآخر إلا كان سببًا للهلاك وانتشار الفساد.
ولعلك تتذكر _ أيها القارئ الكريم _ في هذه اللحظات أدوار الأئمة من أهل السُّنة وما جرى بينهم وبين الحكام من مواقف مشهودة كانت سببًا في يقظة الأمَّة وتجديد انتمائها لدينها وعقيدتها. وكانت القدوة الأولى في ذلك بعد مدرسة النُّبوة التي لا تضاهى، مواقف الصحابة مع الخلفاءِ الراشدين.
ثم تأتي بعد ذلك مواقف سعيد بن المسيب مع الحجاج الثقفي، والإمام مالك مع الخليفة أبو جعفر المنصور، والإمام أحمد بن حنبل مع الخليفة المأمون، وابن تيمية مع التتار، والعز بن عبد السَّلام مع المماليك، والمنذر بن سعيد البلوطي مع أمير الأندلس، والأئمة الأربعة مع ملوك وأمراء عصرهم، إنها نماذج وفصول من مدرسةٍ جليلة عظيمة ممتدة عبر تاريخنا العظيم.
هذه المدرسة ينبغي أن تقر مناهجها ومقرراتها على أبناء هذا الجيل من الطلاب والطالبات بمختلف مشاربهم وفئاتهم ليدركوا أهمية التكامل والتواصل بين العلماء والحكام في بناء منظومة الدولة القوية والمجتمع الواعي لحقيقة وجوده ومهمته في هذه الحياة فيحصل بذلك العمل للآخرة وعمارة الدنيا بالحق والعدل.
وفي تاريخنا العربي والإسلامي المعاصر استمرَّ العلماء الصادقونَ والأحرار في أداءِ واجبهم وتقديم نموذجهم العلمي والعملي ليكون قدوة ومنارة للنَّاس، فها هم علماء وأئمة الدَّعوات التَّجديدية في العالمِ الإسلاميِّ من شرقه إلى غربه يسيرونَ على ما سارَ عليه سلفهم من أئمةِ أهل السُّنة والسَّلف السَّابقين.
فها هو أبو الحسن الندوي في الهند، ومحمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، ومصطفى السِّباعي وعبد القادر عودة في بلاد الشام، ومحمَّد عبده ومحمد رشيد رضا وحسن البنا في مصر الكنانة، ومحمَّد الخضر حسين والطاهر بن عاشور في تونس، والفاسي في المغرب، وعبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي في الجزائر، ومحمَّد الأمين الشنقيطي والمعلمي في المدينة النبوية والشوكاني وابن الأمير والمقبلي في اليمن.
وهذه نماذج وأمثلة استدعاها السِّياق _ وإلا فالقائمة طويلة جدًّا _ لتأكيد الحضور الفاعل لأهلِ العلم والدَّعوة ودورهم المشهود في معاونة السُّلطة القائمة في القيامِ بحراسة الدِّين وحفظ مصالحه والقيام بمصالح النَّاس في دنياهم في جميع المراحل المعاصرة.
لقد كان ذلك بعد تقسيم أرض الخلافة الإسلامية إلى دول وأقطار بمسميات متفرقة وضعها الاستعمار الغربي الصليبي ولم يكن لحكام المسلمين ولا لعلمائهم ولا لأهل الرئاسة وزعماء القبائل القدرة على رفضها بسبب الضعف والتفرق الاجتماعي والسياسي والعسكري الذي اشتغل عليه الأعداء تجاه أمَّة الإسلام.
وفي الوقت ذاته الذي عمل فيه المشروع الغربي على إدخال العالم الإسلامي في براثين ما سمي بالدولة الوطنية القُطْريَّة وإشغالهم بأوهامها والِّدفاع عنها حسب أهدافه القريبة والبعيدة .
اشتغلَ دعاته ومن اِغترَّ بحضارته الزَّائفة على العلاقةِ بين العلماء والحكام ليجعلوها سببًا للتخلف، وسببًا لإعاقة التَّطور وعدم القدرة على مواكبة المستجدات وعادوا بخيبتهم وإرجافهم بعد ذلك على الدِّين والقرآن وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأسهمَ في هذا الانحراف نفر محسوبون على أهل العلم زورًا وليسوا منهم، تقمصوا لباسهم، وتشدقوا بطريقة كلامهم، وتشبهوا بأشكالهم، ونافسوهم على المناصب والأعمال التي لا تليق إلا بهم فكانوا _ ومازال أمثالهم اليوم _ وبَالًا على أنفسهم وعلى الأمَّة بأسرها.
وفي مراحل متأخرة زاد الطين بِلَّة تصدر أصحاب الفكر العلماني والليبرالي من تلاميذ مدرسة الحداثة (التنوير المزعوم) بدعم من الغرب وأدواته وخبرائه، للعمل وبشكل مطرد ومتواصى به على نقل الأمراض التي عانى الغرب منها في القرون الوسطى والصِّدام بين علماء الدين المحرَّف وأصحاب العلوم التجريبية لتكون حجَّة مستنسخة لبث الفرقة بين العلماء والحكام في العالم الإسلامي مع الفارق الكبير بين الصُّورتين عند أهل البحث، والدراسة تصورًا، وأسبابًا، ونتائج.
ولم يكتفوا بذلك، بل بدأوا بمشاريع الإقصاء الممنهج لعلماء الدين والشَّرع من مفاصل الحياة السِّياسية والتعليمية بالذات، ومواقع ومنابر الخطاب الشَّرعي والديني والفتوى، ليتولاها من ذكرناهم آنفًا ممن هم على صورة العلماء شكلًا وعلى منهج الحداثيين مضمونًا وفكرًا.
وظهرت ملامح ذلك بممارسات ظهر أثرها على الخطابِ الشَّرعي وفي مناهج المدارس والجامعات وفي الفتاوى الشَّرعية وخاصة ما يتعلق منها بالسِّياسة والاقتصاد والعلاقات الخارجية وفي الأحداث والمواقف المهمَّة مع خصومها وأعدائها.
وقد هيَّأ لهم ذلك وساعدهم لتحقيق أهدافهم فيها عوامل عدة، من أخطرها: أخذ الحكام وصناع القرار المشورة من خبراء ومستشاري الأعداء أو من أهل النفاق كما قال الله عنهم: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدأت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) آل عمران : 118 .
ولقد كان الحسن البصري -رحمه الله – صادقًا ومحقًّا وحكيمًا عندما قال قولته المشهورة:
(لا تستضيئوا بنار المشركين). يعني: لا تجعلوهم محل مشورتكم في القضايا التي تخصكم خاصَّة المتعلقة بالدِّين وسياسية الدَّولة ومصالح المسلمين.
ولعلَّ الله أن ييسر الحديث عن بعض النَّماذج التَّفصيلية في هذا الاتجاه لاحقًا – إن شاء الله تعالى-.
والله من وراء القصد وهو يهدي السَّبيل.