تفاوت البشر وتباينهم في الأعمار لا يقاس بمقدار السنين والأعوام، وإنما مسبار ذلك مدى عمق الحياة وثرائها، ومتانة الحس الباطن ورهافته، وتدفُّق الشعور الحي وحيويته، وسعة الفكر وتنوعه، وامتداد الخيال وخصوبته، فإن ساعة من “الحس” و “الفكر” و “الخيال” ـ كما يقوله العقاد ـ ” تساوي مائة سنة أو مئات من السنين، ليس فيها إلا أنها شريط تسجيلٍ لطائفة من الأخبار وطائفة من الأرقام “
قل للذي أحصى السنين مفاخرًا
يا صاح ليس السّرُّ في السنواتِ
لكنّه في المرء كيف يعيشها
في يقظةٍ أم في عمق سباتِ
تالله، لا تستوي حياة ضرب على آذانها سبات لا يقظة منه، فيها تخلو الحياة من نسائمها، وتجف المشاعر من نبضها، حتى يضحي صاحبها محايدًا في كل شيء، في مواقفه وعيشه وجميع أنشطة حياته، وحياة مشرقة يتدفق منها ماء الحياة وتتفتح فيها أزهارها، وتعمها أنوارها، (أومن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها…).
يتفجر ينبوع "الحياة" من رافدين:
أحدهما: يشهد الحياة ويعرفها، والآخر: يعيشها ويجرّبها، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، وكلاهما يمدان “الحياة” عمقًا، وقوة، ومتدادًا، إنهما “عالم القراءة والكتابة”، و”عالم التجربة والوقائع”.
وتقع مأساة “الحياة” ويتعرَّى فقرها حينما يتدابر هذان الجدولان ولا يلتقيان، “قراءة بلا تجربة، وتجربة بلا قراءة” أو “شهادة بلا عيش، وتجربة بلا معرفة”!.
تشريح تلك المأساة هي لبُّ رواية الأديب “كازنتزاكي” المشهورة ببطلها “زوربا”، التي لم تكن إلا ساحة للصراع بين الفكرة المجردة الباردة، وبين الحياة الراعفة المفعمة.
فـ “زوربا” ابن “التجربة” قد خسر المعرفة من أجل حياة عنيفة بالآلام، مترعة باللذائذ، وصاحبه ومحاوره المثقف “ابن الكتب” قد غبن في التجربة الحية للحصول على المعرفة المجردة!!.
رغبتان عارمتان تجسدتا في تلكما الشخصيتين، وتصارعتا في نفس الراوي، رغبة الغرائز والعيش في الحياة حلوها ومرها، ورغبة الفكر والشهادة والمعرفة، وسيظل كل كاتب وقارئ ومثقف محكومًا بهذه الثنائية، ولكن ما من مفرّ ! لن ندرك عمق “الحياة” وغزارتها حتى نعيش قرونًا متطاولة ! ولا غنى لنا أن نعيش قليلًا ونشهد ونقرأ كثيرًا!.