الحقيقة والوهم في الإصلاح الديني (6-8)
إحسان باحارثة
حققت حركة الإصلاح البروتستانتي آثارا كبيرة جمعت بين السلبيات الشنيعة والإيجابيات الكبيرة، وللتذكير هنا فإن حركة الإصلاح الديني محل البحث كانت مقصورة على مناطق المذهب/ الديانة الكاثوليكية في أوربا الغربية فقط، أما مناطق الأرثوذكسية الشرقية فلم تكن محلا للإصلاح البروتستانتي أصلا فظلت على ما كانت عليه من وحدة عقائدية في كنيستها. ويمكن تمييز الآثار التي خلفها الإصلاح الديني إلى عدة مستويات داخلية وخارجية، وعلى المستوى الديني والدنيوي
أولاً: المستوى الديني
1- كان أبرز الآثار الدينية هو انقسام المسيحية من جديد انقساما عميقا، وظهر مذهب/ دين جديد انضم إلى المذهبين/ الدينين القديمين: الكاثوليكية والأرثوذكسية اللذين كانا يتقاسمان النفوذ والولاء الديني لأتباع الديانة المسيحية. وعلى الرغم من تطابق العقائد الأساسية لهذه المذاهب/ الأديان المسيحية إلا أنها تبادلت العداء والتكفير التام وخاصة في مرحلة النشوء والتكوين الأولى.
2- كانت خسارة الكنيسة الكاثوليكية أكثر من خسارة منافستها الكنيسة الأرثوذكسية فقد جرت عميلة الانشقاق في أرضها وضد سلطانها وعقائدها، واضطرت كنيسة روما إلى إجراء بعض الإصلاحات الضرورية في بعض ممارساتها؛ ومنها محاربة الفساد المالي والأخلاقي؛ وإن كانت جماهير المذهب الكاثوليكي وخاصة في إيطاليا لم تكن متحمسة خاصة للإصلاحات الأخلاقية التي كانت تبدو من خلال التجربة البروتستانتية غاية في التزمت مما لم يكن متناسبا مع التغييرات الفكرية والاجتماعية والفنية التي عرفها عصر النهضة الذي كانت ساحته الرئيسية في إيطاليا نفسها.
3- على المستوى الديني؛ نجحت حركة الإصلاح البروتستانتي بفعل الحمية الوطنية وحماس زعماء الإصلاح وإصرارهم على مواقفهم ودعم الحكام والأمراء المحليين التواقين للاستقلال عن سلطان روما وكنيستها في تكوين كنائس وطنية قوية وديناميكية، وفي تأسيس مذهب مسيحي جديد توسع سريعا على أنقاض الكاثوليكية الرومانية في البلدان والمناطق التي سادتها، وانتشرت أفكاره الجديدة وإصلاحاته الدينية في دول أوربية رئيسية مثل بريطانيا وألمانيا وأخرى في شمال أوربا. كما نجحت البروتستانتية بسبب الهجرات إلى ما سمي بالعالم الجديد، وحركة الاستعمار الأوربية، والإرساليات الدينية في الانتشار أيضا في مناطق مهمة في العالم خارج أوربا وخاصة في أمريكا الشمالية وأفريقيا؛ فضلا عن وجود مهم في آسيا وأستراليا والشرق كله حيت تأسست لها كنائس في كل مكان تقريبا.
4- تخلصت البروتستانتية من (بعض) مظاهر الخلل العقائدي التي انتقدت بسببها كنيسة روما وهي: عصمة البابا، واستحالة ارتكابه الإثم أو الخطيئة لأن الروح القدس ينطق من خلاله بوصفه خليفة بطرس الرسول أحد تلاميذ المسيح الذي منحه وفق عقائدهم مفاتيح السماء والأرض فكل ما يربطه أو يحله على الأرض فهو محلول أو مربوط في السماء. كذلك تخلت البروتستانتية عن فكرة الرهبنة وفكرة محورية دور الهيئة الدينية (الأكليروس) ورجال الدين في حياة المسيحيين وممارساتهم الدينية، وصار رجال الدين الذين يقدمون الخدمات الدينية مجرد موظفين ليس لهم أي امتياز ديني أو روحي على الرعية. وكما هو واضح فالإصلاح البروتستانتي لم يعمل على إعادة أسس العقيدة المسيحية إلى نقائها الأول في زمن المسيح عليه السلام بعد إزالة ما شابها من أخطاء لسبب بسيط وهو أنه كان إصلاحا للكنيسة الكاثوليكية وليس نقدا للدين ذاته، أي أنه لم يكن إصلاحا جوهريا يمس الانحرافات في المجال العقائدي والكتاب المقدس بقدر ما كان ثورة على تسلط كنيسة روما وفسادها. وفي هذا الصدد يقول أوليفيه روا (لم يكن إصلاح لوثر على التأكيد قطيعة مع الدين بل قطيعة مع ثقافة دينية كاثوليكية بالأساس). (1)
5- ولأن الكاثوليكية كانت أكثر الخاسرين فقد عرفت الكنيسة محاولات إصلاح حقيقية، كما نشأت حركة للدفاع عنها وفي الوقت نفسه رافضة لمفاسدها اسمها: جماعة الجزويت ومدارسها المعروفة بالاسم ذاته وكان مؤسسوها من اليسوعيين المتطهرين الذين أخذوا على عواتقهم الدفاع عن الكاثوليكية في مواجهة خصومها البروتستانت، وقامت بدور تبشيري كبير في إنجلترا وواجهت صعوبات واضطهادات بسبب ذلك. وكان أبرز إنجازاتها تأسيس مدارس كاثوليكية صارت معروفة باسم مدارس الجوزيت ومدارس الليسية المتفرعة عنها التي ظهرت في بلاد الشرق العربي.
6- تحولت المجتمعات الأوربية بفعل الحمية الدينية للإصلاحيين البروتستانت ودعوتهم للعودة إلى حياة المسيحيين الأوائل وتجسيد التعاليم المسيحية الاخلاقية في حياتهم الشخصية والعامة ثم بفعل التنافس الكاثوليكي البروتستانتي تحولت إلى مجتمعات مسيحية أكثر التزاما بالدين المسيحي وشعائره مقارنة بما سبق بعد أن كانت مسيحيتها الشعبية غارقة في الجهل، ومعتمدة كليا على قيادة رجال الدين الذين كان معظمهم ضعيفي العلم بدينهم فضلا عن ممارسات الفساد التي أبعدت العامة عنهم وأضعفت ثقتهم فيهم وبتعاليم الدين التي يبشرون بها.(2)
ثانياً:المستوى السياسي
1- ظهور الدول البروتستانتية القومية في شمال أوربا على أساس ديني/ مذهبي وعلى أساس تبعية الكنيسة الوطنية للدولة ودعمها لها، وكانت تلك الدول ذات طابع ملكي استبدادي بفعل تنظيرات رواد البروتستانتية لأهمية دور الدولة دينيا وضرورة طاعتها ظالمة أو مظلومة. وشمل الأمر في المقابل ظهور الدول الكاثوليكية القومية في جنوب أوربا وخاصة في فرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا فيما بعد، والتي نشأ فيها تحالف أو اندماج قوي بين الملوك والكنيسة وتقاسم فيها الطرفان النفوذ مع زيادة ملموسة في الصلاحيات الدينية لصالح الملوك. وأسهم التنافس بين هذه الدول في تعزيز حركة الكشوفات الجغرافية، وظهور حركة الاستعمار الحديث خارج أوربا لتعزيز نفوذ هذه الدول المتنافسة، وبحثا عن مصادر جديدة للثروات.
2- شهدت أوربا طوال مائة عام تقريبا عددا من الحروب الدينية الدموية بين الكاثوليك والبروتستانت أثارت الفوضى والاضطرابات المستمرة، والتي استمر بعضها عقودا طويلة، وارتكبت فيها مذابح بشعة في حق الخصوم، كما جرى حرق التماثيل والصور الدينية والأيقونات واللوحات الفنية التي تحمل صور العائلة المقدسة، وأحرقت المسارح في ألمانيا وهولندا وفي مقاطعات فرنسية في القرن السادس عشر. وكانت من أسوأ هذه الحروب الدينية ما جرى في فرنسا للقضاء على البروتستانت والتي بلغت ذروتها في مذبحة القديس بارتيليمي في باريس 1572 ضد البروتستانت، والتي راح ضحيتها قرابة ستين ألف بروتستانتي، وحرب الثلاثين عاما بين الكاثوليك واللوثريين 1618-1648م عندما قرر الإمبراطور فريناند قمع البروتستانت في حرب بدأت بألمانيا وامتدت إلى وسط أوربا وشمالها، والحروب الداخلية في إنجلترا، وقد غيرت تلك الحروب النظام الدولي القديم، وكان أبرز أهداف تلك الحروب هو تحقيق التجانس الديني/ المذهبي. وبلغ قتلى تلك الحروب الدينية 10% من سكان إنكلترا، و15% من سكان فرنسا، و30% من سكان ألمانيا، و50% من سكان بوهيميا. (3)
3- أدت الرابطة المباشرة بين الكنيسة والدولة في الدول الأوربية كلها بعد حركة الإصلاح الديني تحديدا إلى أن تقوم الدولة بموجبه بفرض تجانس ديني في الحالة المذهبية على السكان، وتحرم المنشقين من حقوق أساسية يتمتع بها غيرهم من السكان: فرنسا، إسبانيا، إنكلترا وألمانيا. (4)
4- نجحت الحروب الدينية في تحقيق هذا التجانس المذهبي أو على الأقل تحققت أغلبية ساحقة لمذهب ما في عدة دول وفشلت في أخرى، فقد نجحت فرنسا في تأكيد الكاثوليكية دينا رسميا لها بعد القضاء الدموي على البروتستانت، ولم تتحقق النتيجة نفسها في ألمانيا التي صارت مزدوجة الدين رغم أنها مهد أقوى ثورات الإصلاح الديني. وقد دفعت ألمانيا ثمنا باهضا لتلك الحروب الديني فقد أنزلت بها خسائر هائلة وأخرت ألمانيا عن اللحاق بركب الحضارة قرنين من الزمن وأضعفتها في مواجهة المتربصين بها، وأخرت وحدة ألمانيا حتى القرن التاسع عشر، وحرمتها من الاستفادة من ثمار حركة الاستعمار الحديث. (5)
5- زادت جاذبية فكرة الدولة وظهرت الدعوة إلى تقوية فرض سيادة الدول كوسيلة لتحقيق السلام الديني، وإلى حق الملوك الإلهي في الحكم بسبب الخلافات الدينية التي كانت تنشب بسبب أي مسألة دينية تفصيلية وأدت إلى قتل بشر كثيرين وسادت بسببها حالة من الفوضى وعدم الأمان. (6)
6- رغم انعزال إنجلترا عن أوربا ببحر المانش إلا أنها وإلى عام 1553 لم يظهر فيها من الإصلاح الديني إلا جانبه المرير، فلم يكن تحريرا من المذهبية ومحاكم التفتيش والطغيان ولكن كان تثبيتا لها ولم يكن انتشارا للاستنارة بل كان سلبا للجامعات وإغلاقا لمئات المدارس (أي الأديرة الكاثوليكية التي كانت مدارس للتعليم)، ولم يكن تخفيفا للفقر بل كان سحقا للفقراء بلا رحمة لم تعرفه إنجلترا من قرون ولعلها لم تعرفه قط. (7)
7 – شاركت طوائف من الحركة البروتستانتية (وخاصة الإنجليزية) في انتاج مآس إنسانية حادة خارج أوربا بمشاركتها في حركة الاستعمار الحديث التي عانت منها قارتا آسيا وأفريقيا التي وقعت معظم بلدانها تحت الاحتلال العسكري الأوربي، أو في البلدان التي تم اغتصابها وقتل سكانها الأصليين وتدمير حضارتهم وإفنائها باسم الاكتشافات الجغرافية وإنقاذ الشعوب الكافرة بنشر المسيحية وعقيدة الخلاص في القارة الأمريكية وأستراليا. وفي كل هذه الحالات مارست الكنائس البروتستانتية الوطنية أدوارا خطيرة في دعم الاستعمار وتمكينه، وتنصير الشعوب وتدجينها لمصلحة المستعمر المستغل. وكانت أسوأها قيام المستوطنين البروتستانت بتدمير حضارات السكان الأصليين لأمريكا الشمالية، وقتل الملايين من قبائلهم ونهب أراضيهم وممتلكاتهم، وتشريدهم ووضعهم في محميات مثل الحيوانات، ومحو ثقافاتهم ولغتهم وعاداتهم، وفرض الدين المسيحي البروتستانتي عليهم بالمكر والخداع والإغراءات المادية.
8- تتحمل بعض الطوائف البروتستانتية المسؤولية في رعاية وتبرير جرائم خطف ملايين الأفارقة وتحويلهم إلى عبيد وبيعهم في المستعمرات الأمريكية (البروتستانتية) في غالبها في الجنوب الأمريكي للعمل في ظروف غير إنسانية، وهي الجريمة التي تسببت في إحدى أكبر المآسي الإنسانية في تاريخ البشرية. وكذلك تنصيرهم وتدجينهم وإحلال ثقافة مالكيهم البيض البروتستانت ولغتهم وعاداتهم بدلا من ثقافتهم ولغتهم وعاداتهم الأصلية لضمان طاعتهم ورضوخهم للظلم والاستعباد.
9- كان البروتستانت المهاجرون (البيوريتانيين الإنجليز تحديدا) إلى أمريكا يحملون تقاليد وقناعات توارتية وتفسيرات العهد القديم، وشبهوا أنفسهم بأنهم مثل بني إسرائيل في بحثهم عن أرض المعاد، وجعلوا من العبرية لغة المستعمرات الأمريكية الأولى، وسموا مستعمراتهم الأمريكية ب(إسرائيل) و(أرض المعاد) و( أرض الميعاد) وقد استلهموا بعض ما جاء في التوراة في سفر يشوع في مطاردتهم للسكان الأصليين لأمريكا وسرقة أراضيهم وعمليات الاستئصال المقدسة على غرار ما ورد في التوراة اعتقادا منهم بأنهم شعب الله المختار. (8) وعموما شكلوا نواة حركة المسيحية الصهيونية (أو المحافظون الجدد كما يوصفون الآن) التي تؤمن بأن أرض فلسطين العربية هي أرض المعاد التي وعد بها اليهود وفق زعمهم ومن حقهم إقامة وطن قومي لهم فيها. وكانت عقيدة المسيحية الصهيونية أن قيام دولة لليهود في فلسطين ضرورة لظهور المسيح الثانية فعملوا من أجل عودة اليهود لفلسطين وسيادتهم عليها وروجوا أن من يقف ضد ذلك هو عدو للمسيح. وقد أنتجت هذه العقائد مظالم تاريخية للشعب الفلسطيني والعرب عموما وآلاما ومعاناة لم يعرف مثلها في القرن العشرين وحتى الآن. (9)
10- يشكل البروتستانت الأمريكيون (الأنجلو سكسون) نسبة غالبة من نخبة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، وهم الذين أعطوها هويتها السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية المهيمنة على المجتمع الأمريكي وعلى مجريات السياسة الأمريكية الخارجية بكل ما تعنيه أمريكا: سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا من مظالم واستغلال للشعوب والهيمنة الظالمة عليها، ودعم الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة، ومن تحكم في اقتصاديات العالم لمصلحة الشركات الرأسمالية المتوحشة، ونشر ثقافة العنف والجنس والضياع، وفرض أجندتها الاجتماعية الفاسدة على الثقافات الأخرى. (10)
11- كان العداء البروتستانتي وكتابات مارتن لوثر ضد اليهود أحد أسس الحركة النازية الألمانية في القرن العشرين والتي تسببت في إحدى أكبر الكوارث الإنسانية في الحرب العالمية الثانية والتي راح ضحيتها خمسون مليون قتيل، كما سلف عند الحديث عن مواقفهم من اليهود واليهودية.
هوامش:
- أوليفية روا، الجهل المقدس، ص87، ط1،2002 نقلا عن الأنا وتمثلات الآخر، الأصولية المسيحية البروتستانتية أنموذجا، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد40، العدد3، 2012.
- العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة، ص26، ط1، 1992، مركز دراسات الوحدة العربية.
- عزمي ج2م1ص441.
- بشارة، ج2م2، ص314.
- المختصر في تاريخ أوربا، ص29 وما بعدها.
- بشارة، ص291.
- قصة الحضارة ج3 ص319.
- الولايات المتحدة طليعة الانحطاط، روجيه جارودي، الفصل الثالث ص36، ترجمة مروان حموي، ط1، 1998، دار الكتاب للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، دمشق.، + فصل جذور الصهيونية في التاريخ الأمريكي، ص137 من كتاب البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني، دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية، د. يوسف الحسن، ط1، 1990، مركز دراسات الوحدة العربية.
- منير العكش، أمريكا والإبادات الثقافية، نسخة إلكترونية+ البعد الديني، مصدر سابق، ص21 وما بعدها.
- البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني، ص74