الأصل الأول: التوحيد- صفات الله تعالى
لقد كان خطأ فاحشا في نهج الجهمية والمعتزلة وأمثالهم التعاطي مع صفات الله تعالى (الواردة في القرآن والسنة الصحيحة) بتلك الطريقة الجلفة إن جاز التعبير، ومحاولة نفي ظاهرها وتعطيلها تماما حتى أصبحت الذات المقدسة شيئا غامضا في كلامهم، ودون مراعاة لعجز العقل البشري عن التجريد، وميله دائما لتجسيد ما يسمعه! ومثل هذه الحقيقة أقر بها رمز كبير من رموز المعتزلة هو الشيخ أبي علي الجبائي الذي أقر أن عامة الناس يميلون للتشبيه بطبيعتهم أو كما قال: ( فأما التشبيه فإنما كان سبب حدوثه في هذه الأمة أن قلوب العامة لا تسبق إلا إلى ما تصوروه فتركوا النظر وركبوا طريقة التقليد أداهم ذلك إلى ما قلنا..) (1).. ولن نكون متجاوزين إن قلنا إن الأمر لا يقتصر على العامة فقط؛ فحتى الخاصة في القديم والحديث كذلك لا ينجون من خطرات النفوس ووساوس الشيطان في تخيل صفات الله وغيرها من مسائل الغيب، وتجسيدها في أفكارهم فهي شيء مما يغلب على تفكير الإنسان غصبا عنه!
وفي المقابل كان منهج أهل السنة أكثر واقعية في مراعاة قدرات العقول، وأعمق حكمة في التوفيق بين الآيات التي يبدو فيها اختلاف بين التنزيه والتشبيه؛ فقرروا ( كما يقول الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر) أولا إثبات الصفات كما جاءت في النصوص المقدسة دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه أو تمثيل، وغرس معانيها القدسية في نفوس الناس حتى إذا علموا أن الله تعالى حي عالم قادر حي سميع بصير متكلم إلخ الصفات علّموا الناس أن الله ليس كمثله شيء. والخطأ الذي وقع فيه الجهمية والمعتزلة في تناولهم لصفات الله تعالى هو قياس عالم الغيب على عالم الشهادة المادي الذي يعيش فيها الإنسان، أو قياس صفات الخالق على صفات المخلوقين، وفي المقابل هو الخطأ ذاته الذي فيه المشبهة الذين شبهوا صفات الله تعالى بصفات الإنسان حرفيا، وكان رد فعل المعتزلة وأمثالهم أنهم حاججوا خصومهم بالمنطق نفسه، وهو الخطأ نفسه الذي وقع فيه الفلاسفة الذين وجدوا أن لا شيء يخلق من العدم في كوكبنا فقاسوا على ذلك وقالوا إن العالم أو الكون قديم لا بداية له! (2)
وعلى سبيل المثال؛ فإن نفي صفة (الكلام) عن الله تعالى مع كل هذا العدد الوفير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنسب الكلام لله تعالى في مناسبات لا تحصى، ومع مخلوقاته كالملائكة والأنبياء؛ بل تصف القرآن ذاته بأنه (كلام الله)، ووصول المبالغة عند أوائل القدرية في ذلك إلى درجة الصراخ أمام العامة أن (الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا أو أن الله لا يسمع ولا يبصر).. كل ذلك يمكن القول إنه لا يتسق مع العقل قديما وحديثا، ولا مع الاكتشافات العلمية حديثا وإلى ما شاء الله.
ومن الغريب ألا يكتفي أصحاب مذهب التعطيل (أو نفي الصفات) بما جاء في صريح القرآن من آيات واضحة في مدلولها اللغوي تنسب لمخلوقات غير الإنسان – ليس لديها فم ولسان مثله- صفة الكلام مثل الملائكة، والسموات والأرض، والأيدي والأرجل والجلود (يوم القيامة).. إلخ.. واستنتاج أن الكلام ممكن بطريقة ما لا نعلم كنهها، فلجأوا إلى تأويلها تأويلا يخلو من التواضع أمام قدرة رب العالمين، وأشهروا سيف الشرك في وجوه المخالفين!
وها هي الاكتشافات العلمية الحديثة قد حسمت هذا الجدل تماما لغير مذهب المعتزلة ومن تابعهم؛ فكل الكائنات الحية – كالحيوان والأسماك والطيور- تتخاطب فيما بينها بوسائل مناسبة خاصة بها خلقها الله لها، وإلا كيف يمكن أن نفهم كيف تعيش هذه المخلوقات حياة جماعية دون تفاهم فيما بينها، وبعضها يعيش في جماعات أعدادها بالعشرات والمئات والآلاف والملايين!
وبأي وسيلة تخاطب وتتفاهم آلاف الطيور وهي تهاجر مجتمعة منتظمة طائرة في الفضاء البعيد عن علامات الأرض، وتقطع آلاف الأميال من شمال الأرض إلى جنوبها طلبا للدفء.. وبأي وسيلة تتفاهم ملايين الأسماك وتنتظم في أعماق البحار المظلمة وهي تهاجر من مناطق عيشها إلى مناطق بعيدة بآلاف الأميال؟
نتيجة واحدة نستنتجها عقلا وعلما: إنه لا يمكن إلا أن تكون كل هذه الكائنات وغيرها تمتلك وسائل ما للتخاطب والتفاهم فيما بينها!
والحق أنه من عجائب الأمور أن يظن مسلم أن كلام الله تعالى في كنهه وظاهره يمكن أن يكون مثل كلام البشر، وكيف يظن أنه يمكن أن تفهم مثل هذه الصفة الغيبية لله وهو شديد المحال، ويقارنها بكلام البشر، أو يحاول أن يغوص في معناها كما يخيل له عقله! وهؤلاء حالهم كمثل إنسان يعيش في القرن الأول الميلادي وسمع عن التلفاز أو المذياع أنه تصدر منه أصوات فكان حتما إما أن يتخيل أن الأصوات لا تصدر إلا عن فم ولسان.. أو ينكر المعنى نهائيا ويبحث عن تأويل آخر لمعنى الصوت طالما أن هذه الأجهزة مصنوعة من معادن وليس لديها فم ولسان!
وصفة الكلام بالذات يحدثنا الله في القرآن عنها أنها ليست صفة على مقياس البشر والمخلوقين بدليل قوله تعالى: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: 109]. ويقول في آية أخرى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [لقمان: 27]، وهذا يعني ببساطة أنها صفة أو شيء لا نهاية له ومن ثم فلا بداية له، ومن لا بداية له ولا نهاية له لا يكون كلاما على مقتضى طبيعة البشر كما يقول المشبهة، ولا يكون مخلوقا كما يقول المعتزلة والهادوية وأمثالهم، ولا تجوز عليه قوانين البشر والطبيعة التي نعرفها المحكومة بالكوكب الذي نعيش فيه، فهو لا يكون إلا صفة إلهية تليق بجلال الله وعظمته، ولها كل ما له من صفات القداسة، ولا يمكن للعقل البشري أن يفهمها على حقيقتها، ويكفي المسلم أن يقدس كلام الله ويعمل به أمرا ونهيا!
وحتى لو قيل إن تأويل صفة الكلام الإلهية بالعلم – على غير ما هو مفهوم عند الناس من معنى كلمة (الكلام)- كان غرضه نبيلا؛ بحجة أن النصارى يستخدمونها حجة لتشكيك عامة المسلمين بعقيدتهم في بشرية المسيح عليه السلام، وأنه عبد لله، وليس إلها بالقول: بأنه طالما أن المسيح كما جاء في القرآن: كلمة الله، وكلام الله صفة من صفاته فهو إذن إله أو جزء منه.. حتى لو كان هذا هو السبب فقد كان يكفي التركيز على فكرة أن المسيح كلمة الله أي أنه خلقه بكلمة منه كما خلق آدم بكلمة عليهما السلام ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]، في حالة الضرورة ما كان ضروريا تحويل الأمر إلى مسألة كفر وإيمان وشرك، وانقلاب الأمر إلى حروب بين المسلمين أنفسهم.
ولعله من نافلة القول إن طريقة المعتزلة في نفي صفة الكلام عن الله تعالى تنزيها له، ودحضا لشبهات النصارى، لم تنجح في إقناع النصارى – قديما وحديثا- بخطأ استدلالهم ومن ثم الكفر بأن المسيح هو الله؟ ولا جعلت الرافضين لها من أمة الإسلام ينصاعون لشبهات النصارى ويؤمنون أن المسيح هو ابن الله!
والملفت للنظر أنه صح في كتب الهادوية ما يمكن أن يفيد أن كلام الله ليس مخلوقا أو محدثا كما يقولون! فقد ورد في كتاب/ المختار من صحيح الأحاديث والآثار من كتب الأئمة الأطهار ومحبيهم الأبرار هذه الآثار التي تستحق تأملا في معناها، ففي حديث رواه الهادي في الأحكام: (3)
[ بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يرقي نفسه إذا مرض بالمعوذات، وينفث، وقال لبعض أصحابه وكان وجعا: المس بيمينك على موضع وجعك سبع مرات، وقل: أعوذ بعزة الله وقدرته من ما أجد…… وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من نزل منزلا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل].
ومثله حديث عن الإمام الناصر أبي الفتح الديلمي في تفسير البرهان عند تفسير سورة الناس، قال: وروينا عن آبائنا عليهم السلام إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعوذ الحسن والحسين عليهما السلام فيقول: (أعيذكما بكلمات الله التامات من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة).
ومن الواضح هنا أنه لا يمكن أن تصح الاستعاذة من المخلوقين بمخلوق آخر إن كانت كلمات الله والقرآن مخلوقة بدورها؛ إذ كيف يستعاذ بمخلوق من مخلوق؟ ولاحظوا كيف استعاذ بعزة الله وقدرته.. فهل عزة الله وقدرته مخلوقة؟
وكذلك يمكن القول في نفي المعتزلة لبقية (الصفات) التي وصف الله نفسه بها في القرآن أو وردت في السنة الصحيحة مثلما قيل في صفة الكلام؛ فهو أولا من قبيل السلوك الذي نهى عنه الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه كثيرون ومنهم الإمام علي كما جاء في (خطبة الأشباح) المنسوبة إليه في نهج البلاغة.
وعلى سبيل الأمثلة الإضافية؛ فإن نفي صفة (البصر) بحجة أنها تثبت لله العين أو الحدقة، أو نفي صفة (السمع) لأنها تثبت لله الأذن أو الصماخ، أو نفي صفة (الكلام) لأنها تثبت لله الفم واللسان.. كل هذه الحجج – التي ما يزال البعض يحاجج بها، ويكفر باسم مباديء التوحيد الاعتزالية وبسببها أمة الإسلام ويتهم المسلمين في دينهم وعقيدتهم – لا تتصادم فقط مع آيات القرآن الصريحة التي وصفت الله تعالى بأنه سميع وبصير، ونسبت له الكلام في عشرات الآيات، وعابت على المشركين أنهم يعبدون أصناما لا تسمع ولا تبصر، بل تتصادم مع أدلة قوية كشفها تقدم العلوم على إمكانية حدوث الكلام والسمع والبصر دون الحاجة إلى حواس مثل الأذن والعين واللسان والفم البشرية!
وقد صار من الشائع علميا– ويعد من مفاخر الاكتشافات العلمية- أن الأشجار والنباتات مثلا تتأثر بالموسيقى وهذا يعني (السمع) بالضرورة طالما أن الموسيقى: صوت وقد حدث السمع بطريقة ما، وأنها تحزن وتسعد، وهذا يعني (الإحساس) بطريقة ما. وكذلك صار ثابتا علميا أن مختلف فصائل الحيوانات والطيور والأسماك والحشرات وغيرها مما يعلمه ولا يعلمه الإنسان تمتلك القدرة على التخاطب والتفاهم فيما بينها بأساليب أودعها الله تعالى فيها لا توصف بأنها كلام على طبيعة البشر، وكثير منها ليس لديه ألسنة وأفواه بالمعنى البشري.
وها نحن أولاء نستمع ل(الكلام) يصدر بأصوات واضحة من أجهزة التلفاز، والمذياع، والتسجيل، والأقراص المدمجة (وغيرها مما ابتكرها الإنسان ومما سيبتكر غيرها مستقبلا) دون أن يكون لهذه الأجهزة أفواه وألسنة!
ونحن نعرف أن هناك أجهزة بأشكال متنوعة – ومن ضمنها الصحون العملاقة التي يستخدمها العلماء للاستماع إلى أي إشارات من مجاهل الكون البعيدة- تنقل لنا الأصوات من كل مكان دون أن يكون لها آذان أو صماخ مثل الإنسان!
وها هي أجهزة الهواتف الحديثة تمكننا من الاستماع لأصوات قريبة وبعيدة عنا بآلاف الأميال بسهولة ويسر.. ومن قبل كان الإنسان يتمكن من الاستماع للأصوات بواسطة هواتف بأريالات أو أسلاك! وما تزال أجهزة المذياع تقوم مقام الآذان وتنقل لنا الأصوات وتمكننا من سماعها.. وفي كل ذلك ليس هناك أفواه ولا ألسنة!
وفي مجال الرؤية تقوم الأقمار الصناعية وغيرها من الأجهزة- باستخدام الأشعة فوق البنفسجية أو دون الحمراء أو الموجات الصوتية أو أجهزة الرادارات- مقام العين في الرؤية إلى أبعد مجال يمكن للإنسان أن يصل إليه حتى الآن سواء أكان ذلك في الكون الكبير أو في الظلمات في البر والبحر، وفي أجساد البشر في المجال الطبي.. وتمكِّن الإنسان من الرؤية دون وجود عيون بشرية وحدقات من لحم ودم!
وفي دنيا الحيوان هناك حيوان الخلد لا يرى لأنه يعيش تحت الأرض فأعطاه الله شوارب حساسة تقوم مقام العيون يدرك بها الأشياء!
وحيوان مثل الخفاش (الوطواط) يتحرك في الظلام وفي أعقد الطرق اعتمادا على حاسة بصر ليس لها علاقة بالعين بل بالذبذبات فوق الصوتية التي تصدر من فمه، ويمكِّنه رجع صداها من التعرف أو رؤية كل شيء أمامه وتجنبه الاصطدام به.. أي أنه يتمتع بالقدرة على الإبصار بوسيلة غير العين!
وهناك مخلوقات أخرى لم يعد هناك شك في أنها تمتلك القدرة على السمع ولكن بوسائل ليس من بينها الأذن والصماخ، ومما يتعلمه الناشئة في المدارس أن حاسة السمع لدى الأسماك هي خطوط مخلوقة على جانبيها وليست آذان! والنحل لا يستجيب للضوء الأحمر لكنه يرى الأشعة فوق البنفسجية التي لا يستطيع الإنسان رؤيتها!
وهل تعيش مليارات الكائنات الدقيقة جدا مثل البكتريا والفيروسات – وما لا يعلمه إلا الله – في بيئات ليس فيها ذرة ضوء إلا بحواس تسمع بها وترى بها وتتفاهم بها ولكنها بالتأكيد ليست عيونا ولا آذانا ولا ألسنة مما يتميز به البشر؟
وعلى هذا القياس فإن الإيمان بأن الله تعالى يسمع ويبصر ويتكلم، والإيمان بكل صفات الله وأفعاله التي وردت في القرآن والسنة الصحيحة دون تشبيه أو تمثيل أو تكييف أو تعطيل لا تعني أنه إيمان بأنها مثل صفات البشر المتنافي مع قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، فهي مثل القول إن جهاز التلفاز يتكلم، أو جهاز الرادار يستمع أو يبصر فلا يقتضي الأمر أن تكون هذه الصفات المنسوبة لأجهزة من المعادن مشابهة لصفات البشر، ولا تقتضي أن يلازمها وجود الأعضاء كمثل تلك التي لدى البشر!
رؤية الله تعالى في الآخرة:
اتفق المسلمون على عدم جواز رؤية الله تعالى في الدنيا لكنهم اختلفوا في جواز حدوث الرؤية في الجنة، والمعتزلة وأتباعهم كالهادوية يمنعون ذلك ويعدونها من الفظائع لأن الرؤية في هذا المقام تعني عندهم التجسيم والتحيز في مكان وإثبات الجهة، وكل من يجيز الرؤية فهو في ميزانهم مشبه ومجسم لله تعالى كما حال المخلوقات.
وبغض النظر عن حسن نيتهم في أنهم يقصدون تنزيه الله، وبغض النظر عن الآيات التي يتأولونها تعسفا ليمنعوا حدوث الرؤية مثل قوله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 23،22]، وبغض النظر عما أوردناه من أحاديث الإمام زيد بن علي وغيره من أئمة أهل البيت التي تتحدث بوضوح عن حدوث الرؤية في الجنة بكيفية تليق بجلال الله وعظمته كإحدى النعم العظمى التي يمنّ الله بها على عباده.. بصرف النظر عن كل ذلك فإن عدم رؤية الشيء – كما قيل- ليس مدحا له فحتى المعدوم لا يرى!
وهناك – كما يقول المؤمنون بجواز الرؤية في الجنة- فرق بين الرؤية والنظرة من جهة وبين الإحاطة والإدراك كما في قوله تعالى: ﴿ لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [ الأنعام: 103]، فالرؤية لا تعني الإحاطة بكل تفاصيل المرئيات، ولا إدراك كل شيء عنها، وها هو الإنسان بإمكانه رؤية مخلوقات كثيرة لكنه لا يحيط بها ولا يدركها إدراكا كليا، والمثال الأوضح: الشمس والأجرام والمجرات، فمع أن الإنسان يراها عيانا أو بواسطة الأجهزة المقربة والمكبرة إلا أنه لا يحيط بها ولا يدركها إدراكا كاملا، ولا يحيط بها إحاطة تامة. ومن النوع الأصغر هناك من المخلوقات والأشياء المتناهية في الصغر ما لا يستطيع الإنسان رؤيتها مثل نواة الذرة وأجزائها المعروفة ومداراتها إلا افتراضا وتخيلا رغم أنه يحيط بكثير من مواصفاتها ويستفيد من خصائصها في حياته!
وحاسة الرؤية في حد ذاتها ترتبط بوسائل خاصة هيّأها الله تعالى لكل مخلوق بما يناسب بيئته وقدراته، وتختلف قوتها من مخلوق لآخر، فهناك من أصغر المخلوقات ما تستطيع أن ترى – بل وأن تسمع وتشعر- ما لا يستطيعه الإنسان: سواء أكان أبعد مسافة، أو لو كان من وراء حجب، أو في ظلمات البر والبحر بما وهبها الله تعالى من قدرات بصرية مناسبة لبيئتها.. فكيف يجوز القول إن الإنسان لا يستطيع في الجنة أن يرى الله تعالى بقدرة الله ولطفه في تهيئة كيفية للرؤية مناسبة لجلاله وعظمته؟
وهناك من المخترعات الحديثة تلك المناظير الليلية التي تجعل الإنسان يرى في الظلام الموجودات حوله، وهناك أيضا أنواع من أجهزة التصوير الجديدة التي تستطيع التقاط صور لمساحة كبيرة جدا من الأرض، وتمكن الإنسان من (رؤيتها) بسهولة في حيز واحد مما لا يستطيعه بالعين المجردة، ومثلها التلسكوبات المكبرة التي يمكن بواسطتها للإنسان أن (يرى) في الفضاء مجرات خرافية في مساحاتها وتبعد عن الأرض مسافات خيالية، وكل ذلك لا يستطيع الإنسان بعضوه البصري أن يراه لقصور حاسته البصرية.. فكذلك من قدرة الله وعظمته أنه يمكّن أهل الجنة من رؤيته بوسيلة ما!
ولا شك أن عدم رؤية الله تعالى في الجنة سوف تكون نقصا في نعيم الجنة ذاتها، وحاشا لله أن يكون نعيمه ناقصا.. فأي شيء أعظم منة ونعمة من أن يرى أهل الجنة ربهم؟ وإذا كان المؤمنون يشتاقون لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف برؤية المولى عز وجل؟
ولعل الذين لا يقبلون هذا القول يجازفون بوصف قدرة الله تعالى بالنقص إن أصروا على غير ذلك! وبحرمان أنفسهم من هذه النعمة العظيمة؛ فمن الظرائف المنقولة عن علامة اليمن/ محمد بن إسماعيل العمراني في هذه المسألة مما معناه أنه خلص – ربما في نقاش مع أحدهم- أن من لا يريد أن يرى الله تعالى في الجنة فهو حر لكن لا يحرم الآخرين من رؤيته!
والخلاصة أن بين المجيزين للرؤية والمانعين لها بحر كبير من الحجج والردود عليها، وفي أقل الأحوال فإن طنطنة الحرص على الوحدة الإسلامية واحترام المذاهب تستوجب على أصحابها أن يكفوا عن وصف معارضيهم في مسألة الرؤية أنهم مشبهة ومجسمة، وأنهم يعبدون إلها لا يعرفونه!
الهوامش:
- للأسف الشديد لم أجد مصدر كلام الشيخ أبي علي الجبائي هذا مسجلا بجانب العبارة المكتوبة في أوراقي ولعلي سهوت لحظتها لكن وجود نص الكلام يؤكد أن هناك مصدرا للكلام أسأل الله أن يوفقني للعثور عليه. كما أن الكلام مجرد تفسير لظهور التشبيه وليس فيه ما يشين الجبائي.
- صيد الخاطر، أبو الفرج عبدالرحمن ابن الجوزي، ص111و281، تحقيق د. السيد محمد السيد وأ/ سيد إبراهيم، ط2،1999، دار الحديث القاهرة.
- المختار من صحيح الأحاديث والآثار من كتب الأئمة الأطهار ومحبيهم الأبرار، محمد بن حسن العجري، ص816.