شَهِدت الإمامة الزّيدِيّة بعد وفاة المنصور الحسين بن المُتوكل القاسم – تَاسع أئمة الدولة القاسمية – تَغيرًا نَوعيًا في مَسارها السياسي، استقرت وراثة في ذرية الأخير، فعملوا على نبذ التعصب المذهبي، والتقرب من علماء السُنة المُجددين، ليس حُبًا في الأخيرين؛ وإنما حِفاظًا على عُروشهم، مُستفيدين من عَدم إجازة هؤلاء للخروج على الحكام.
عَاشت مدينة صنعاء خلال تلك الحقبة حِراكًا فكريًا وثقافيًا مائزًا، بَرز فيه عددٌ من العلماء المُجتهدين، والمُجددين، كان العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، والعلامة محمد بن علي الشوكاني أبرزهما على الإطلاق، وهو – أي ذلك الحراك – لم يكن في الأصل إلا امتداد لجهود العلامة محمد بن إبراهيم الوزير (أ)، والعلامة الحسن بن أحمد الجلال (ب)، والعلامة صالح بن مهدي المُقبلي (ج) التنويرية والإصلاحية في آن.
كانت لجهود العلامة ابن الأمير الصنعاني، ومن بعده العلامة الشوكاني الأثر الأبرز في تنامي حراك صنعاء الفكري، كانا قريبين من الحكام، وأسهما إلى حد ما في تهذيب سلوكياتهم، وصناعة أحداث وصفت بالإيجابية، لم يحدث لها أنْ تكررت خلال تاريخ الإمامة السوداوي الطويل، وأدت بمجملها إلى حرف مسار تلك الدولة عن نهجها الكهنوتي العنصري.
أسوأ احتلال
بخروج الأتراك من اليمن – مُنتصف القرن الحادي عشر الهجري – صار اليمن مِيراثًا سهلًا للدولة القاسمية، لتدخل الزّيدِيّة – دولةً ومذهبًا – مَرحلة اختبار حقيقي في كيفية تعاملها مع الآخر، ظلت فتاوى الفقهاء حول ذلك تراوح مَكانها، حتى تولى الإمامة الفقيه المُتعصب المُتوكل إسماعيل بن القاسم (ثالث أئمة تلك الدولة)، الذي صنع بفتاويه أعداء وهميين، احتوى أقاربه الطامحين، وجيَّش القبائل المُتعطشة للفيد جنوبًا، وغربًا، وشرقًا، مُؤسسًا بذلك أسوأ احتلال عرفته تلك المناطق على مدى تاريخها.
كان المُتوكل إسماعيل شديد التعصب لمذهبه، لديه فتوى شهيرة كفر بها أبناء المناطق الشافعية، أسماها: (إرشاد السامع، في جواز أخذ أموال الشوافع)، أصدرها بعد ثلاث سنوات من توليه الإمامة 1058هـ / 1648م، ألزمهم فيها بدفع الجزية بدل الزكاة، وجعل أرضهم خراجية حكمها كأرض خيبر؛ بحجة أنها انتزعت من الكفار الأتراك، وحين أرسل إليه أحد عماله يسأله: «هل يؤاخذنا الله فيما نفعله بحق هؤلاء..؟»، كان جوابه: «إنني أخشى أن يسألني الله عما أبقيت في أيديهم»!
كما ألزم أبناء المناطق الشافعية بفتوى أخرى أنْ يزيدوا في الأذان (حي على خير العمل)، وأنْ يتركوا الترضي عن الشيخين، وحين راجعه عدد من أقاربه وفقهاء مذهبه، بعد أنْ ساءهم الظلم والاعتساف الذي طال بسبب فتاويه الرعية المسالمين، تعصب لرأيه، ورد عليهم بقوله: «إنَّ هذه الأصول معلومة عندنا بأدلتها القطعية، ومدونة في كتب أئمتنا».
وأضاف: «المجبرة – وهم من يعتقدون أنَّ الله أكرههم على فعل المعاصي – والمشبهة كفار، والكفار إذا استولوا على أرض ملكوها، ولو كانت من أراضي المسلمين، ويدخل في حكمهم من والاهم، واعتزى إليهم، ولو كان مُعتقده يخالف معتقدهم، وأنَّ البلد التي تظهر فيها كلمة الكفر بغير جوار كفرية، ولو سكنها من لا يعتقد الكفر، ولا يقول بها أهله، فإذا استفتح الإمام شيئًا من البلاد التي تحت أيديهم، فله أنْ يضع عليها ما شاء، سواء كان أهلها ممن هو باق على ذلك المذهب أم لا».
العلامة الحسن بن أحمد الجلال كان من أكبر مُعارضي المُتوكل إسماعيل، ألف كتبًا ورسائل كثيرة، ضمنها انتقادات لجملة من تلك المظالم، منها رسالته الشرعية: (براءة الذمة في نصيحة الأئمة)، انتقد فيها غزوات الإمام الفقيه، ومحاربته لسكان إب، وتعز، وتهامة، واستباحته نفوسهم، وأموالهم.
لم يكتفِ العلامة الجلال بذلك؛ بل فند بالحجة الدامغة جميع الشبهات والدعاوى المُضللة التي كان يشيعها المُتوكل إسماعيل للقيام بتلك الجرائم، وقال مُخاطبًا إياه: «لو كانوا كفارًا لما جازت ذبائحهم، وأنتم تجيزونها، ولا نكاح نسائهم، وأنتم تبيحون ذلك، ولا دخول المساجد، ولا البيت الحرام، وقد صليتم معهم، وأديتم فريضة الحج بجوارهم».
وكان من جُملة العلماء الذين توجهوا بالنصح للمُتوكل إسماعيل عز الدين بن دريب، وخاطبه ذات الإمام بالقول: «لا ينبغي من مثلكم وأنتم بمحل من العلم أن تكون بغاة علينا، ومحاربين لنا»، فرد عليه: «الإمامة ظنية اجتهادية». أما القاضي أحمد المسوري فقد كان – حد توصيف صاحب (طبق الحلوى) نافذ الإرادة، كثير المواجهة للإمام بما ينقدح خاطره، وكان العلامة صالح بن مهدي المُقبلي أيضًا من جُملة أولئك الناصحين.
ارتفعت وتيرة مُعارضي المُتوكل إسماعيل، وحججهم الدامغة، إلا أنَّه لم يتراجع عن فتاويه الباطلة قيد أنملة؛ بل جاء بمبررات دينية جديدة تؤكد منهجه، وتحول مُعتنقي المذهب الشافعي – تبعًا لذلك – من كفار إلى مُنافقين؛ لأنَّهم حد وصفه: «لا يمتثلون لأحكام الشرع إلا كرهًا وخوفًا من صولة الإمام بجنده أو بعض جنده»، وصار أصل الجهاد عنده قتالهم، واستباحة دمائهم وأموالهم.
وفي عهده بدأ الاحتفال بـ (يوم الغدير) لأول مرة في اليمن ذي الحجة 1073هـ ، أكد ذلك المُؤرخ يحيى بن الحسين (د)، وعلق عليه بـ «أنَّ من سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». وعن ذلك قال المُؤرخ الإمامي أبو طالب: «والساعي فيه مولانا أحمد بن الحسن بمشاورة الإمام، واستحسانه الرأي، وتلقيه بالإعظام، وكان ابتداء هذا الشعور بحبور، فعمَّ الشيعة بفعله السرور.. وقام بذلك للشيعة الشنار، واتقدت النواصب بسلال النار».
كما قام المُتوكل إسماعيل بتوزيع المنشآت التي كانت بأيدي الأتراك على بعض الأمراء القاسميين، مُخالفًا بذلك تصرف أخيه المُؤيد محمد – الإمام السابق – الذي سبق أنْ حولها إلى بيت المال، والأسوأ أنَّه وزع اليمن كإقطاعيات بين أولئك الأمراء بموجب صك ألزمه بعدم تغيير الولاة، وهو أمر كان له ما بعده.
بوفاة المُتوكل إسماعيل 5 جمادى الآخر 1087هـ / 14 أغسطس 1676م، دخلت الدولة القاسمية نفقًا مُظلمًا، عمَّت الفوضى البلاد، وتفاقمت صراعات الأخوة الأعداء، اختلفوا، وتقاتلوا، وتحالفوا، وانحصر جنونهم شمالًا، والأسوأ من ذلك أنَّ تصرفات ذات الإمام الرعناء صارت سلوكًا مُريعًا لازم غالبية الأئمة المُستبدين من بعده.
رغم أنَّه لم يستوفِ شروطها، حاز ابن أخيه وقائد جيوشه الأمير أحمد بن الحسن الإمامة بالقوة، وتلقب بـ (المهدي)، وقد نقل صاحب (أنباء الزمن) عمن بايعوه قولهم: «ما بايعناه إلا حسبة لا إمامة». وذكر صاحب (بغية المريد) أنَّ عددًا من العلماء انكروا عليه ما بيده من أموال عند بيعته، فأبرز لهم مرقومًا بختم عمه المُتوكل إسماعيل فيه وهب بجميع الأموال التي غنمها من صاحب عدن وأبين الأمير الحسين بن عبدالقادر، وخاطبهم بالقول: «وكل ما ترونه بيدي، وأتقلب فيه من نعمة المال، هي من تلك الغنائم التي غنمناها نحن والمجاهدون من أموال ذلك الأمير وأصحابه، الذين تعتقدونهم عاطلي المذهب، أما أنا فأعتقدهم من كفار التأويل».
قضى المهدي أحمد معظم سنين عمره بين لهيب المعارك، ولأنَّ مُعظم هجماته كانت تتم ليلًا؛ عُرف بـ (سيل الليل)، وكان كثير البطش بخصومه، وقد نقل ابن عمه المُؤرخ يحيى بن الحسين عنه قوله: «وأما قتل النفوس في زمن المُتوكل – يقصد عمه إسماعيل – فهو عندي من أقرب القرب، فإذا أنكر على من قتل علي بين يدي رسول الله في يوم بدر، وأحد، وفتح خيبر، والخندق، ويوم حنين، أنكر علي بمن قتلت يوم أبين، ويوم نجد السلف، ويوم يافع، ويوم بحران بحضرموت»!
وفي عهده أيضًا كما أفاد ذات المُؤرخ: «ارتفع شأن الشيعة، واستظل تحت حمايته من كان على شاكلته في الرفض»، فقد كان جاروديًا مُتعصبًا؛ بل أنَّه ولشدة كرهه للصحابة أمر بكشط أسماء الخلفاء الراشدين من مِحراب الجامع الكبير بصنعاء.
وروي أنَّه كتب ذات مرة لعمه المُتوكل إسماعيل من مدينة تعز مُعترضًا على إمامة فقهاء الشافعية في المساجد؛ كونهم حدَّ وصفه يُعلمون الناس عقائدهم الخبيثة، وأضاف في رسالته: «وأن عذر الأئمة من قبلك واضح لعدم تمكّن الوطأة، فما عذرك عند الله في السكوت عن ذلك، وقد تمكّنت الوطأة» (1)!
حُكم الإقطاع
ما أنْ صفت اليمن للأئمة من آل القاسم، وخلت من مُعارضيهم، حتى طغى حُكم الإقطاع، وُزعت البلاد بين الأمراء الطامِحين، وإذا ما مات أحد أئمتهم، تشبث الواحد منهم بما تحت يديه، الأمير القوي يتمدد، والضعيف ينكمش، تلاشت حينها الاستدلالات التي تُؤكد أحقيتهم في الحكم والولاية، وغُيبت شروط الإمامة التي وضعها الجد المُؤسس، وتحولت الإمامة من دولة دينية ثيوقراطية إلى مملكة إقطاعية يَحكُمها الأكثر طغيانًا.
بعد رحيل المهدي أحمد بن الحسن 22 جمادى الأولى 1092هـ / 10 يوليو 1681م، عاد الضجيج من جديد حول من يَخلفه، ليقع الاختيار للمرة الثانية على حاكم صنعاء محمد بن المُتوكل إسماعيل ذو الـ 48 ربيعًا، الذي سبق أنْ رفضها بعد وفاة أبيه؛ وما قبلها هذه المرة إلا مُكرهًا؛ وذلك بعد إجماع الناس والعلماء عليه.
عمل المُؤيد محمد جاهدًا خلال سنوات حكمه على إصلاح ما أفسده أسلافه، إلا أنَّ جميع مُحاولاته باءت بالفشل؛ لأنَّ الفساد والإقطاع كان قد تمدد واستفحل تمامـًا كالسرطان، ولم يبق تحت سيطرته من البلاد إلا ما كانت له أيام والده، وعنه قال المُؤرخ يحيى بن الحسين: «رفع مَظالم كثيرة من البلاد التي نفذت بها يده وحكمه، كبلاد صنعاء، وبلاد حراز، وضوران»، وأضاف: «وأما اليمن الأسفل فلم يُنفذ فيها كلامة، ولم يُسمع فيها قوله»؛ فقد عاث الأمراء المتنافسون فيه نهبًا وخرابًا، فيما كانت الغلبة لحاكم الحجرية الأمير محمد بن أحمد بن الحسن (صاحب المواهب)، الذي لم يكتفِ بما تحت يديه؛ بل سيطر على بلاد شمير، وبيت الفقيه، وزبيد، والمخا، وتعز، وجبل المقاطرة، وضم تلك المناطق لإقطاعاته.
ظل أمراء آل القاسم الإقطاعيين مُسيطرين على مناطق نفوذهم، مُتصرفين بأمورها، مُستحوذين على أموالها، وكأنَّهم الأئمة الفعليون، رغم اعترافهم بإمامة المُؤيد محمد الشكلية، وذكرهم إياه في خطبتي العيدين والجمعة، صك بعضهم العملة بأسمائهم، وانقسم اليمن الواحد إلى 15 دولة، كما أفاد قريبهم يحيى بن الحسين، وهو مُؤرخ عاصر تلك الأحداث.
امتنع هؤلاء الأمراء عن توريد الأموال إلى المُؤيد محمد، حتى خلت خزائن الأخير، واضطر للاستدانة من التجار، ليموت في حمام علي مسمومًا بمؤامرة دبرها بعضهم 13 جمادى الآخر 1097هـ / 26 أبريل 1686م، وذلك بعد أن تجرع منهم الويلات، وضاقت أحواله، نُقلت جثته إلى ضوران، ودفن بجانب والده، وكان قد أوصى وهو بالنزع الأخير بالإمامة لأخيه يوسف، إلا أنَّ الفوضى كانت سيدة الموقف، وكانت الغلبة كالعادة للأقوى، والأكثر طغيانًا.
بدأ بتولي صاحب المواهب محمد بن أحمد بن الحسن الإمامة – منتصف ذات العام – تنافس الجيل الثالث من آل القاسم على الحُكم، صحيح أنَّ صِراعهم انحصر بصورته الفظيعة شمالًا، إلا أنَّ تبعاته الكارثية تجاوزت الجُغرافيا الزّيدِيّة، والأسوأ أنَّه أسس لانقسامات متتابعة دفع القاسميون، وأنصارهم، ومناوئيهم ثمنها كثيرًا.
ولد العلامة محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد بن علي بن حفظ الدين الأمير (ابن الأمير الصنعاني) في السنوات الأولى لحكم هذا الإمام الطاغية 15 جمادى الآخر 1099هـ / 16 أبريل 1688م، وفي مَنطقة كحلان تحديدًا، وقد تلقى علومه الأولية على يد بعض علمائها، ولم يكد يتجاوز مَرحلة الطفولة، حتى يمم خُطاه – مع والده – صوب مدينة صنعاء 1110هـ، وكانت الأخيرة حينها عاصمة علم لا عاصمة حكم، وفيها بدأت أراء الوزير، والجلال، والمقبلي، وغيرهم، تتسلل إلى عقول الباحثين عن الحقيقة.
من المعروف أنَّ أئمة الزيدية لم يَجعلوا من مَدينة صنعاء عاصمة لحكمهم إلا في مرحلة متأخرة، وقد نَقَل – في الحقبة التي نحن بصدد تناولها – المُتوكل إسماعيل عاصمة الدولة القاسمية من شهارة إلى ضوران، وكذلك فعل خلفه المهدي أحمد بن الحسن الذي نقلها من ضوران إلى الغراس، فيما تنقل ابن الأخير (المهدي محمد بن أحمد) ما بين منصورة الحجرية، وذمار، وخضراء رداع، وصولاً إلى المواهب، والأخيرة بناها ذات الإمام شرق مدينة ذمار، وبها عُرف، وعنها وعنه قال العلامة ابن الأمير الصنعاني:
إنَّ المواهب قـــــــد شـاهدت صاحبها
وكــان في جـــوده كالعــارض الـهتن
سفــاك كـــل دم عاداه صـــــاحــبـــه
مُفـرق منـه بـــيـن الـــرأس والبــدن
هتــــاك كـل حمــى إن لـم يــطـاوعه
كم من مَعـاقل أخـــــــلاها ومن مدن
جعل العلامة ابن الأمير الصنعاني من مدينة صنعاء مَحطة دائمة للاستقرار، نَهل من معين علمائها، ولشدة عطشه وشغفه لتلقي المزيد؛ توجه إلى مكة المكرمة مرة أولى 1122هـ، وثانية 1132هـ، وثالثة 1134هـ، ورابعة 1139هـ، ودرس على يد عددٍ من علمائها، وقد كانت رحلته الثانية إلى تلك المدينة العامرة نقطة تَحول فَارقة في مَسار حَياته، فهو لم يكن خِلالها مُتلقيًا للعلم فقط؛ بل بدأ يناظر، ويناقش، وينتقل بسلاسة من رحلة الشك إلى اليقين.
بعد عودته من رحلته الثانية، بَدأ العلامة ابن الأمير الصنعاني في نشر فكره المُعتدل، المُستمد أصلًا من روح الإسلام الحنيف، والقائم على الإصلاح المُتدرج للمجتمع، ونبذ التعصب، ونقد العنصرية، وذلك من خلال طريقة آسرة، جمعت بين وضوح الحقيقة الشرعية، وحُسن إنزال الحكم الشرعي على الواقع المعاش، فكان بحق رائد مدرسة الإنصاف، وفارس ميدان الاعتدال والوسطية.
ورغم أنَّه علوي النسب (جده يحيى بن حمزة بن سليمان)، إلا أنَّه – أي العلامة ابن الأمير – حارب التفسير العنصري للإسلام وبقوة، وهاجم قدسية الأئمة الزائفة، وحكمهم الإقطاعي، وقال عنهم:
إني ومن بيــت الإمامة عصابة
في العـــد قد زادوا على الآلاف
مستـرزقون من الرعـايا ليتــهم
قنعوا بأكل فــرائض الأصناف
بل يأخذون من الرعايا كل ما
يـحــوونه كــرهًا بلا استنكاف
وقال عن المتفاخرين بأنسابهم بشكل عام:
قـــــوم عـــن العلياء قعـــــــود جُثَّم
ليسوا بـــــأهل صفـــــائح وصحافِ
لا يغضبون على الشريعة إنْ غدت
منهــــــدَّة الأرجــــاء والأكــنــــافِ
أعني بهـــــم من يــــزعمون بأنَّهم
رأس الورى والنـاس كـــــالأخفافِ
ولأنَّه – أي العلامة ابن الأمير – عاش تلك الحقبة بكل سلبياتها، فقد كان من أوائل المفكرين في العالم العربي الذين هاجموا الإقطاع، ونبهوا إلى المفاسد التي تنتج عنه من تفريق البلاد، وتمزيقها، وبث العداوة بين المناطق المختلفة، والقبائل المتعددة، وقد خاطب الأئمة الإقطاعيين من آل القاسم ذات قصيدة قائلًا:
مزقتم شـمـل هـــذا القطر بينكم
كل لـه قــطـعة قفــر وعمــران
وكلكم قـد رقى في ظلم قطعته
مراقي مـا رقــاها قبـــل خوان
انحصرت صراعات القاسميين خلال تلك الحقبة شمالًا، ضاق بعض أبناء القبائل الشمالية من ذلك ذرعًا، وتوجهوا بغزوات انفرادية غربًا، وجنوبًا، خاصة بعد أن ألفوا الحرب، واعتاشوا أثناء مناصرتهم لأئمتهم في الحروب التوسعية السابقة على الفيد والغنائم، إلا أنَّ تحركاتهم هذه المرة كانت بدون رضى أسيادهم، الذين دلوهم على ذلك الطريق العسر، ثم انشغلوا بصراعاتهم البينية.
حدثت أولى الغزوات القبلية المُنفردة في سنة 1123هـ / 1711م، حيث توجه الشيخ ناصر بن جزيلان، والشيخ علي بن قاسم الأحمر بقوات قبلية كبيرة من حاشد وبكيل غربًا، اجتاحوا تهامة، وعاثوا في مناطقها المُسالمة نهبًا وخرابًا، لتقوم بعض تلك القبائل – بعد 11 عامًا – بالتوجه جنوبًا، هجموا على قعطبة، وتصدى لهم حاكمها الأمير عبد الله بن طالب، وأجبرهم على العودة من حيث أتوا.
وعن الغزوة الأولى وما تبعها من غزوات، كتب العلامة ابن الأمير الصنعاني ملحمته الشعرية الـمُحزنة (يا ساكني السفح)، نقتطف منها:
عـــن اللحيــة هــل وافـــاكمُ خبـــرٌ
تفيـــضُ منــهُ مــن الأعيـانِ أعيانُ
تجمعت نحــــوها مـــن كلِ طائفةٍ
طوائـــــفُ حــاشـدٍ منـــها وسفيانُ
وذو حســيــنٍ وقاضيـــها وقائدها
درب الصــفا وقشنـونٌ وجشمانُ
أسـمــــاءُ شــرٍ وأفعـالٌ مـــقبحةٌ
طـــــوائفٌ مالـهـم يـمُن وإيـمـانُ
بوفاة المهدي صاحب المواهب، صفت الإمامة لابن أخيه المُتوكل القاسم بن الحسين 5 رمضان 1130هـ / 1 أغسطس 1718م، جعل الأخير من مدينة صنعاء عاصمة له ولمن بعده من الأبناء، والأحفاد، مُؤسسًا بذلك لحكم أسرته، ولأكثر من 120 عامًا، وقد كان بشهادة كثير من المُؤرخين ظلومًا، غشومًا، عُرف بـ (القاسم الرهيب)، وكان عهده مليئًا بالمجاعات، والتمردات، والأحداث الدموية الصادمة.
كان العلامة ابن الأمير الصنعاني من جُملة معارضي ذلك الإمام الطاغية، وقد كتب فيه قصيدته الشهيرة (سماعًا عباد الله أهل البصائر)، وهي قصيدة طويلة وناقدة لحكمه، وقد توهم القاسم الرهيب أنَّ أستاذ ابن الأمير القاضي علي بن محمد العنسي (هـ) هو قَائلها، كما توهم أنَّه – أي القاضي العنسي – هو الساعي في تمرد قريبه الأمير محمد بن إسحاق الآتي ذكره.
وقد خاطب العلامة ابن الأمير الصنعاني في قصيدته تلك المُتوكل القاسم قائلًا ومُقارنًا بين حكمه وحكم سلفه (صاحب المواهب):
وقـد كنتـم تـرمون مـــن كـان قبلكم
بظلم وجــــور قد جرى في العشائر
وقلتم نرى المهدي قــد بان جــوره
لكــــل سـميــــع في الأنـام ونـاظر
صــدقتم لقــد كان الظلـــوم وإنـما
بظلمكم قــد صـــــار أعــدل جائر
ذات الاتهام الذي طال القاضي العنسي، طال أيضًا تلميذه العلامة ابن الأمير الصنعاني، وإحراجًا للأخير، ولكي يوقع به، عرض عليه المتوكل القاسم أولًا: تولي القضاء في مدينة المخا، وثانيًا: تولي الوزارة، وثالثًا: تولي القضاء العام، والتصدر على الأعلام، إلا أنَّه – أي ابن الأمير – فوت عليه ذلك، واعتذر له بهدوء.
لم يكتفِ المُتوكل القاسم في إقصاء بني عمومته، وتحييدهم؛ بل ذهب أبعد من ذلك، أخذ ما تحت أيديهم من أموال، ومُدخرات، وألزمهم أنْ يدفعوا الزكاة؛ وذلك خَوفًا من أنْ يزيد المال في أيديهم، ويتمردوا عليه، كما عمل على الانتقاص منهم، وأمعن في إذلالهم، وكلف أحد وزرائه المُتجبرين (يدعى الشجني) بتحصيلها منهم 1135هـ، في الوقت الذي أعفى القبائل المساندة له من دفعها، وأغدق على كبراء تلك القبائل من الأموال والهدايا الكثير.
والأسوأ من ذلك، أنَّه سعى لملاحقة المُتذمرين منهم، زج بهم في سجونه المُوحشة، ونكل بالآخرين، ليتهمه بعضهم بالتحريض على قتل الحسين بن طالب، والتستر على الجاني، قريبه الذي لم يكتفِ بقتل الضحية؛ بل قطّع جثته إربًا إربًا، في جريمة اهتزت لها مدينة صنعاء وضواحيها، وعنها قال العلامة ابن الأمير مُخاطبًا ذات الإمام:
لما قـــد رأينا في الحسين بن طالب
وتقــطيــعه مــلـقى بجـنــب المــقابر
وبـان لكـــم من غيــر شك غـريـمه
ولكن طـرحتم فــوقه ثــــوب سـاتر
وحـابــــيـــتم الجـاني لأجـل قـرابة
وخشية أنْ يخـزيكـم في المحـاضر
استاء القاسميون من تلك التصرفات، وكان تذمرهم الأكبر من الوزير الشجني؛ فكيف لواحد من العامة أنْ يتأمر عليهم، وهم – كما يتوهمون – السادة الأقحاح! أرسلوا وفودهم لمراجعة المُتوكل القاسم، وكان غاية مطلبهم أنْ يسلموا له الزكاة دون وسيط، إلا أنَّه لم يلتفت إليهم، ولم يعرهم أي اهتمام؛ الأمر الذي أنعش في نفوسهم الرغبة في التمرد والانتقام، هربوا في العام التالي إلى مدر أرحب، ومعهم الأمير محمد بن الحسين بن عبد القادر، والأمير محمد بن إسحاق، ونصبوا الأخير إمامًا.
تلقب الإمام الجديد بـ (المُؤيد)، ولم يدم بقاؤه في أرحب طويلًا، خاصة بعد أن تخلى عنه بعض أولئك الهاربين، توجه شمالًا، واستقر في بلاد شاطب (حرف سفيان) مدة، ثم توجه قبل أنْ ينتهي عام 1137هـ إلى ظفار ذيبين، مؤثرًا فيها الاستقرار، ومنها وبمساعٍ من العلامة ابن الأمير الصنعاني أعلن تنازله عن الإمامة على عدة شروط، منها أن يُفرج إمام صنعاء عن عدد من أقاربه، وأنْ يقطعه بلاد الروس، ويعطيه 2,000 قرش من عائدات ميناء المخا، وهو ما كان.
اختلف المُتوكل القاسم قبل وفاته مع أقرب الناس له، ولده الأمير الحسين، كان الأخير يتطلع لزيادة نصيبه في الإقطاع أسوة بأخيه الأمير أحمد حاكم تعز، ورغم أنَّ والده أقطعه الحديدة، وحراز، إلا أنَّه لم يقتنع بذلك، استغل سخط القبائل الشمالية، وسعى لتمتين علاقته مع كبرائها، وقاد بنفسه الجموع الغاضبة صوب مدينة صنعاء.
التقى الجمعان، ولم يظفر أحدهما بنصر، فتدخل العلامة ابن الأمير الصنعاني وأصلح ذات البين، ليدخل الأمير الحسين مدينة صنعاء بمجاميعه القبلية 21 رمضان 1139هـ / 11 مايو 1727م، وأبوه طريح الفراش، لم يكترث لمرضه، ولم يقم حتى بزيارته، وقيل أيضًا غير ذلك، ليلفظ المُتوكل القاسم في اليوم التالي أنفاسه الأخيرة.
بوفاة المُتوكل القاسم ارتفعت وتيرة الصراع القاسمي – القاسمي، تنافس ثلاثة من نفس الأسرة على الإمامة، وحظوا بمبايعة أغلب الأنصار، تنحى كبيرهم (يوسف بن المتوكل إسماعيل)، فانحصر الصراع بين اثنين منهم: محمد بن إسحاق، الذي جدد دعوته وتلقب بـ (الناصر)، والحسين بن المتوكل القاسم، الذي أعلن نفسه إمامًا، وتلقب بـ (المنصور)، وكان النصر بعد حروب وخطوب حليف الأخير.
اعتزل العلامة ابن الأمير الصنعاني ذلك الصراع، وتَوجه في أواخر ذات العَام إلى مَكة المكرمة، ثم إلى الطائف، ومَكث فيهما مُدة يسيرة، ثم كانت عودته الى شِهارة، وآثر في الأخيرة البقاء لثمانية أعوام، هروبًا من بطش الإمام المُنتصر، أرسل له الأخير – في مطلع العام 1141هـ – بمكتوب أمان؛ فرد عليه بعدة رسائل، توزعت بين النقد لجوره، والنصح له بإحسان.
كان المنصور الحسين – بشهادة كثير من المُؤرخين – ظالـمًا، غشومًا، مُذلًا لمعارضيه، تمامًا كأبيه، أشار العلامة ابن الأمير الصنعاني إلى ذلك بقصائد ومُكاتبات شهيرة، وهي بشهادة كثيرين ثورة كبرى على تلك الأوضاع، كان لها ما بعدها، ومن أشعار الأخير التي تصور ذلك الوضع، قوله:
في دولـــة الملك المنصــور كــم هلكت
بــــنـــادر ومـــخــالــــيـــف وبـــلــدانُ
الشـرق والغـــرب منــها والتـــهايـم بل
والبحــر قــد خافـــهـم في البحر حيتانُ
لا تنـس قعـــطبـــةَ إنْ كــنـت ذاكــرها
فقـــد أبـــاح حـمـــاها قـــبـل قحـــطانُ
كـــذا المــعــاقــل من دمـت ومن جبنٍ
ولـحــج طـــاف بـهــا للحـرب طـوفان
وهـــل نسي أحـد بيــتُ الفـقـيــه وقـــد
صُكـــت بــأخــبــار يـــام فـيــــه أذانُ
كم مـــن عــزيــزٍ أذلــوه وكــم جحفوا
مـالًا وكـــم سُلــبــت خـودٌ وظـبــيــانُ
كانت في العام 1148هـ / 1735م عودة العلامة ابن الأمير الصنعاني إلى صنعاء، وذلك بعد أنْ صفت الأجواء بينه وبين المنصور الحسين، وقد ولاه الأخير الخطابة في الجامع الكبير ذي القعدة 1151هـ / فبراير 1739م، ومن على منبر ذلك الجامع استمر في نشر فكره المُعتدل، ونجح في استقطاب كثير من المغيبين.
اختلف المنصور الحسين بن المُتوكل القاسم حينها مع أقرب الناس إليه، أخيه حاكم تعز الأمير أحمد، انفصل الأخير بتعز، والحجرية، ومدَّ نفوذه إلى إب، والعدين، والمخا، وشرع في استقبال المتذمرين من حكم إمام صنعاء، وفتح بابه لأصحاب الآراء، وكان بحكم مكوثه بمدينة تعز أقرب إلى مذهب أهل السنة، وعُرف عنه تهجمه على المذهب الزيدي.
وفي العام 1156هـ، وبعد وساطات مُكثفة، توصل عدد من العلماء – كان العلامة ابن الأمير الذي توجه إلى مدينة تعز أبرزهم – لحل الخلاف الدائر بين الأخوين، واشترطوا بقاء مدينة تعز، وجبل صبر، وشرعب تحت نفوذ الأمير أحمد، على أنْ يُعلن ولائه لأخيه. وفي العام 1158هـ جدد ذات الأمير تمرده، طامحًا هذه المرة بضم الحجرية – التي خسرها في الجولة السابقة – لحكمه، مُستعينًا بمجاميع يافعية، وقد قدم حينها الشاعر أحمد بن حسن الرقيحي حلَّه الناجع لذلك الإشكال المُتجدد قائلًا:
صنـوان قـد سقيا بـمـــاء واحد
والفضل خال من كلا الأخوين
جرحا قلـوب العالمين فما لها
مـن مـرهــــم إلا دم الأخوين
شدد المنصور الحسين على أخيه أحمد هذه المرة الخناق، جيَّش له قوات قبلية جلها من بكيل، بقيادة الشيخ هادي بن علي حبيش، كبحت تلك القوات جماح الأمير، واستقرت بتكليف من إمام صنعاء في أطراف مدينة تعز؛ وذلك منعًا لأي حركة تمرد قد يقوم بها حاكمها، وما تواجد بيت السفياني، والبرطي، والبحر، وحبيش في تلك المناطق إلا امتداد لذلك التواجد، ليأتي التواجد البكيلي الثاني – سنأتي على تناوله – بعد مرور 78 عامًا، وشمل هذه المرة عدة مناطق من محافظة إب.
توفي المنصور الحسين صبيحة يوم السبت 23 ربيع الأول 1161هـ / 22 مارس 1748م، والصراع بينه وبين أخيه الأمير أحمد على أوجه، ورث ولده – الإمام الجديد عباس، الذي تلقب بـ (المهدي) – ذلك الصراع، فيما تمادى العم (أحمد) في طموحاته، وأعلن نفسه إمامًا، تلقب الأخير بـ (الهادي)، وصك العملة باسمه، وانفصل بتعز وإب عن الدولة القاسمية، واكتفى بحكمهما.
استمرارًا لمساعيه الإصلاحية، عمل العلامة ابن الأمير الصنعاني على تلطيف الأجواء بين العم وابن أخيه، وقيل أنَّ إمام تعز (الهادي أحمد) تنحى – بعد مرور ستة أشهر من دعوته – بفعل ذلك، وقيل أنَّ الخلاف لم يتبدد إلا بوفاة ذلك الإمام – في العام التالي – بمدينة تعز، تاركًا ذريته هناك، وهم من عُرفوا – فيما بعد – بـ (بيت الباشا)، وكم كان الشاعر الرقيحي مُحقًا في تشبيهه؛ إذا ما اعتبرنا دم الأخوين نهايتهما.
عمل المهدي عباس في العام التالي (1162هـ) على تقريب العَلامة ابن الأمير الصنعاني منه، وكلفه بالإشراف على الأوقاف، وقد باشر الأخير عمله باقتدار، ثم ما لبث أنْ اعتذر، مُبتعدًا عن مُغريات الحكم، مُتفرغًا لإلقاء الدروس، والكتابة، وقد تجاوزت مُؤلفاته الـ 300 كتاب، موزعة ما بين كتب كبيرة، وصغيرة، ورسائل قصيرة، ومن أشهر كتبه: (سبل السلام)، و(عمدة الأحكام)، و(تيسير النقاد إلى تيسير الاجتهاد)، وله – أيضًا – أشعار كثيرة جُمعت في ديوان.
كان للعلامة ابن الأمير الصنعاني حُسادًا ومُغرضين كُثر، ومن الأسرة القاسمية نفسها، استغلوا قيامه باختصار خطبة الجمعة 5 جمادى الأولى 1166هـ / 9 مارس 1753م، وعدم الدعاء لجدهم (المنصور القاسم بن محمد)، واشتكوه للمهدي عباس، وهددوا بقتله في حال لم يقم ذات الإمام بحبسه، فما كان من الأخير إلا أنْ نفذ طلبهم، وزاد على ذلك بأنْ حبس 30 فردًا منهم.
أرخ ابن الأمير العلامة الصنعاني بإسهاب لتفاصيل تلك الحادثة، وقال أنَّه مكث في قصر صنعاء مسجونًا لمدة شهرين، في حال حسن، ومنزل مناسب، ودخول من يحب دخوله إليه، وأضاف أنَّ السبب الحقيقي لتكالب أولئك المغرضين عليه؛ يعود في الأصل لانشغاله بعلم السنة النبوية، والتدريس فيها، والدعاء إليها، ونشرها فوق المنابر، وميل أكثر الناس إليها، وأضاف أنَّ ذات الاتهام طال المهدي عباس أيضًا، وأنَّهم – أي أولئك المتعصبين – أكثروا في هذا الشأن الأشعار والهذيان، وزاد على ذلك شعرًا نقتطف منه:
وما حبســـــوني أننـــي جئت منكــرًا
ولا أنني نافست في الحكم والكرسي
ولكنـــــــني أحييت شـــــــرعة أحمد
وأبرزتها شمسًا على العُرب والفرس
وقال عن مُعارضيه بشكل عام:
وأنكر منهجي قوم حيارى
رموني بالسهام من الملام
أحاط بهم سرادق كل جهـل
فما يمشون إلا في التعـامي
ومن لبس الجهالة وارتداها
رأى منها المناسم كالسهام
كان ابن الأمير الصنعاني علامة عصره، برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرَّد برئاسة العلم، وعمل بالأدلة والاجتهاد، ووهب نفسه لإعلاء كلمة الحق، وناضل في سبيل ذلك في شجاعة نادرة، وجرت له مع مُتعصبي الزّيدِيّة مناظرات كثيرة، وصلت ذروتها خلال العام 1182هـ / 1768م (عام وفاته)، وهي المحنة التي وقف المهدي عباس فيها إلى جانبه.
قال العلامة ابن الأمير الصنعاني عن أولئك المُتعصبين: «جعلوا الحق تبعًا لأهوائهم، ومايزوا بين الناس بأنسابهم لا بأعمالهم»، فاتهموه بهدم المذهب، وعملوا على تشويه سمعته، ثم ناصبوه العداء، وتآمروا عليه، وهموا بقتله، وهنا شكاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا:
فـــــإني قـــد أوذيــت لنصـرتي
لسنــتك الغـراء في البـر والبحر
وكم رام أقــوام وهمـوا بسفكهم
دمي فأبى الرحمـن نيلي بالضر
وحين لم تنجح مُحاولات مُتعصبي الزّيدِيّة في القضاء عليه، عملوا على مُراسلة القبائل الشمالية، واستثارتها لإنقاذ المذهب الزيدي، فيما تولى القضاة من آل العنسي في برط مهمة التحشيد، عُرف الأخيرون بتشيعهم المبالغ فيه للعلويين، وهم في الأصل ليسوا من رجالات الدين المُلمين بالشرع الحنيف؛ بل كانوا من فقهاء القبائل الذين لا يعرفون إلا لغة التكفير، والسيف، والغنيمة، التصق بهم أيضًا لقبا (البرطي)، و(العكام)، وقيل أنَّهم من سُلالة عبهلة بن كعب بن عوف (الأسود العنسي).
طالب آل العنسي صراحة بإخراج ابن الأمير من صنعاء، ثم بدأوا بشن غاراتهم على تلك المدينة، وضواحيها؛ مُتذرعين بذات السبب، وقادوا القبائل الشمالية بغزوات جنونية، وعاثوا في مُعظم المناطق اليمنية نهبًا، وخرابًا، وعنهم قال ابن الأمير:
قد شابهـــوا الكفــــار في أقوالهم
للرسل بالتهـــــديد والــــــترهيبِ
ولنخرجنــك يا شعيــــــب ومثله
قالوا للوط وهـو غير مــــــريب
فلنا برســـل الله أحسن أســــوة
ولهم بأهل الشرك شر نصيب
كانت القبائل الشمالية شبه خاضعة لحكمها الذاتي، ولم يكن للمهدي عباس أي سلطة عليها، شنَّ ابن الأمير هجومًا حادًا عليها، وأرَّخ لغزواتها الجنونية قائلًا: «فإنهم يخرجون مرة أو مرتين من سنة ألف ومئة وثلاثة عشر، ولم تبق جهة من الجهات اليمنية والتهامية إلا هتكوها، ونهبوها، وقتلوا من قاومهم»، وزاد على ذلك شعرًا نقتطف منه:
كم أباحــــوا مــــن كـل ما حرم الله
وكم أيـــتــمــــوا مــن الأطــــفـــال
وكم وكم مــن مـحـارم هــتكــوها
واستــــباحـــوا النفــوس والأمـوال
ولكم يـعبـثــــون بــــالـناس دهــرًا
بــقــبـــيــــــح الأفعـــال والأقــوال
توفي العلامة ابن الأمير الصنعاني في 3 شعبان 1182هـ / 12 ديسمبر 1768م، عن 83 عَامًا، وهو كما أرعب الأئمة السلاليين حيًا، أرعبهم ميتًا، وهذا المنصور محمد حميد الدين (والد الإمام يحيى) قال فيه: «محمد بن إسماعيل الأمير ليس منا أهل البيت»! وظل في المقابل نجمًا مُشعًا في سماء النضال، مُلهمًا لأحرار اليمن التواقين للتحرر من العنصرية السُلالية والكهنوت، وعنه قال المناضل عبد السلام صبرة: «كان النجم الذي أشرق بنوره على سماء اليمن المظلم، والذي أضاء بنوره الطريق لكثير ممن كتب الله لهم الانعتاق من قيود التقليد الأعمى، والتعصب المقيت» (2).
الهوامش:
(أ) لم يقتصر التجديد في الفكر الديني على علماء قحطانين، فهناك علماء عدنانيين كُثر نبذوا التقليد، وانتصروا للعقل، كان العلامة محمد بن إبراهيم الوزير أبرزهم، وقد مثل ظهوره بداية الصحوة الفكرية والعقلية لمنازلة الانحراف الذي بدأ يشوه الفكر المعتزلي. وقد أغضب فكره المُتحرر هوى المُتعصبين، فناله من أذاهم الكثير.
هو إمام زمانه، تتلمذ على يد كبار علماء صعدة، وصنعاء، وتعز، ومكة، وتهامة، وبرع في علوم الكتاب والسنة، واستكمل أدوات الاجتهاد، وارتفع في مُعالجته لمشكلات العقيدة وقضاياها عن المنهج الكلامي الجدلي، وعن العصبية المذهبية المقيتة، وقال عن نفسه:
أصول ديني كتاب الله لا العرض
وليس لي في أصول غيره غرض
ولد العلامة الوزير بداية عام 775هـ / 1373م في شظب بصعدة، وذلك بعد عامين من تولى الطاغية صلاح الدين محمد الإمامة، و كان من أنصار ولده المنصور علي، اتهمه المهدي أحمد بن يحيى بـالمُجون؛ وذلك بعد أن دخل معه في مناظرات فكرية، وقد انتقلت تلك العداوة إلى عدد من علماء الزيدية المُتعصبين، كان حفيد المهدي الإمام يحيى شرف الدين أبرزهم، أوغل الأخير في قدحه، ولقبه بـ (إمام الحشوية)، واتهمه بأنه تزوج بنكاح المتعة 300 امرأة، ووصفه بأنَّه أكثر الناس تخليطًا في امور دينه، وعلمه، وعمله، واعتقاده، وقال فيه: «كان تارة يتمخلع تمخلع الفساق، وتارة يعتكف ويتصوف تصوف العشاق»! قال عنه العلامة الشوكاني مُشيدًا: «هو رجل عرفه الأكابر، وجهله الأصاغر»، وقال عنه ابن ابي الرجال: «كان سبَّاق غايات، وصاحب آيات وعنايات، بلغ من العلوم الأقاصي، واقتادها بالنواصي، وترجم له الطوائف، وأقر له المؤالف والمخالف». وصنف في الرد على مُتعصبي الزّيدِيّة، كتابه الأشهر: (العواصم والقواصم)، وحين ارتفعت وتيرة أذيتهم له، اعتزلهم في الجبال حتى توفي مطلع عام 840هـ بــالطاعون، وقال عن هجرته تلك:
ولا عار أنْ ينجو كريـم بنفــــسه
ولكن عـار عجـزه حيـــن ينصر
فقد هاجر المختار قبلي وصـحبه
وفرَّ إلى أرض النجــاشي جعفر
(ب) تجاوز العلامة الحسن الجلال في اجتهاداته الكثير من القواعد الجامدة في المذهب الزيدي، وكان له رأي جريء في عدم ثبوت الإمامة في العلويين، رغم أنَّه من نسل مؤسسها الأول الهادي يحيى بن الحسين؛ ليدخل – بسبب ذلك – في صراعات مريرة مع مُتعصبي الزّيدِيّة، وصلت لقيام بعضهم بإحراق كتبه، ونعتها بــ «العظام التي لا لحم عليها»، وعنهم قال العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني:
وجــــفـــاه قـــوم مــــا دروا
كيف السميـــــن من الهزال
وكذاك فاضل كــــــل عصر
عرضــة لــذوي الضـــلال
من صار فــــــردًا في الكمال
رموه بالــــداء العـــضال
من ذا تــراه سـالـــمــــــــًا
في النـــــــاس من قيل وقال
وقال أيضًا:
إن جهل القاصرون رتبته
فذاك مما يزيد في عظمه
يا نادر الذهن دع معاتبة
وداو قـــلبًا نشا على ألــــمه
كان العلامة ابن الأمير من جملة المتأثرين بالعلامة الجلال، عكف على تدريس كتابه (ضوء النهار في شرح متن الأزهار)، والذي فيه نقد للإمامة، وتفنيد للكثير من مثالبها، ثار حينها المتعصبون، فرد عليهم في حاشيته بـ (منحة الغفار على ضوء النهار).
العلامة محمد بن علي الشوكاني هو الآخر أثنى على الجلال ثناءً كَبيرًا، وقال فيه: «هو بحر عجاج، متلاطم الأمواج». أما تلميذه إسماعيل بن صلاح الأمير (والد العلامة ابن الأمير الصنعاني) فقد امتدحه ورثاه قائلًا:
لله در الـجــلال مــــــــن عــلــــم
يجرى صـــــواب العلوم عن قلمه
كــأنَّـه فـــي جميـــــعــــــها مـــلك
ممكن والفنـــون مـــــن خـــــــدمه
إن كنت مُستــــرشدًا تـــــريد هدى
فخذ بنــــــور الدليــــــل من كلمه
قد غربل العلم فانتـــــــــقاه فـــما
لصاحب المنتــــــــقى سوى قدمــه
إن ينكــــــروا فضله فـــــلا عجب
أن ينكـــروا حـاتمًا مع كــــــرمه
أينكـــــروا علمــــه وقــــد شهدت
آثـــــاره بـــاـرسوخ من قــــــدمه
من مؤلفات الجلال: (تكملة الكشف على الكشاف، والشمسية، وشرح التهذيب في المنطق، وشرح على الكافية في النحو، وشرح على منتهى السؤل لابن الحاجب)، وله في أصول الدين: (شرح الفصول، وشرح مختصر المنتهى)، وله أيضًا شعر بديع، اقتطفنا منه:
فالمشكلات شــــــــواهد لي أنني
أشرقــــت كل مـحـقــــق بلعـــابه
لــولا مـحـبــة قـدوتي بمحـمـــد
زاحمت رسطــــــاليس في أبوابه
وحين عين المتوكل إسماعيل ولده الأصغر الأمير الحسن قائدًا على أحد الجيوش، وأقطعه اللحية، ومور، والزيدية، والضحي، وما إليها من جهات تهامة، قال الجلال مُستشهدًا بأبيات الوزير المهلبي:
طــــفـــل يـــرق الـمــــــــاء في
وجنـــــــــاته ويــرق عـــــــــوده
ويكــــاد من شبه العـــــــــذارى
فيـــــــــــــه أن تبــــدو نـهـــــوده
ناطوا بمنطـــــــــق خصره سيفًا
ومــــنــــطــقـــــــه يــــــــــؤوده
جعـــلـــوه قــــائــــد عســـــكر
ضــــــاع الرعـــــيل ومــن يقوده
ولد الجلال في رغافة منتصف عام 1014هـ، وهي قرية تقع شمال صعدة، وتعد أحد معاقل الأئمة المشهورة، وهجر علمائهم، وتوفي في الجراف 22 ربيع الآخر 1084هـ / 5 أغسطس 1673م، وحين وقف العلامة ابن الأمير بعد مرور 49 عامًا على قبره 1133هـ، قال راثيًا:
جادت على قبـــــــــــر الجــــــــلال
عيني بــــدمـــع ذي انــــــهــــمــــال
ووقفــت فــــــــيـــــه مـــــــدلـهــــا
أبكي على فــــــقـــــــد المـــعـــــــالي
(ج) العلامة صالح بن مهدي المُقبلي من أكثر أعلام اليمن الذين تعرضوا للمحاربة والتشويه؛ والسبب نبذه للتقليد، ودخوله مُناظرات مع علماء عصره، وصلت إلى حدود المنافرة، وفيهم قال: «وإذا حضر إليهم الرافضي من فارس، نظروا اليه وكأنه ملاك هبط عليهم من السماء»، وزاد على ذلك: «إئتني بزيدي صغير، أخرج منه رافضيًا كَبيرًا»، وحينما قال في بعضهم:
قبــــح الإلــــــه مُفـــرقًا
بين الرابة والصحــابة
من كــــــان ذلك ديــــنه
فهو السفيه بلا استرابه
أتاه الرد من أحدهم:
أطرق كرًا يا مُقبلى
فلأنت أحقر من ذُبابة
والأدهى والأمر من ذلك أنَّ الخسة وصلت ببعضهم بأن طعنوا بنسبه، ويؤكد ذلك قول الشاعر الحسن الهبل:
والـمـقــلي نــاصـــبـــــي
أعمى الشقـــــاء بصره
لا تعجبوا من بغضــــــه
للعتــــــرة الـمُــطهــرة
فـــأمــــــه معـــروفــــة
لكن أبـــوه نـــــكــــرة
ولد المقبلي عام 1047هـ، في قرية مقبل، من جهة لاعة، ونشأ في ثلا، وتعلم فيها وفي كوكبان، ثم انتقل إلى صنعاء، وفيها عاصر كبار غلاة الزّيدِيّة. كان بليغ النثر، شديد الإقناع، قوي الحجة، وله مؤلفات عدة، أشهرها: (العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ، والابحاث المسددة في مسائل متعددة، والإتحاف لطلبة الكشاف، والأرواح النوافخ، والأبحاث المسددة، والمنار على البحر الزخار)، وقد أجملها الشوكاني بقوله:
لله در الـمــقـــبــلى فـإنــــه
بـحــر خضم جــان بالإنصاف
أبحاثه قد سددت سهما إلى
نحر التعصب مرهف الأطراف
وقال عنها الحسن بن إسحاق بن المهدي أحمد بن الحسن:
حافظ على كتــب الإمام المقبلي
وعلى فـــوائده الـجــليلة واقبل
واقبل نصيحتـــه بتركك مهنة الـ
تقليد وانظر في الأدلة واعمل
وقال الشوكاني عنها وعنه: «في عباراته قوة، وفصاحة، وسلاسة تعشقها الأسماع، وتلتذ بها القلوب، ولكلامه وقع في الاذهان، قلّ أن يمعن في مطالعته من له فهم».
ومما قاله العلامة المقبلي عن أئمة عَصره نقتطف: «قالوا قد كانت الكلمةُ للجبر والتشبيه، وهما كفرٌ، فالدَّار دارُ كفرٍ اسْتفتحناها بسُيوفنا، فنصنع ما شِئنا، كخيبرَ ونحوها، حتى روى لي من لا أتهمُه، أن رجلًا هو أفضلهم، وصَّى عاملَهم أن يتحيَّلَ في الأخذ إلى قدر النصف، كأنها معاملة؛ ولكن على وجه لا يُنفِّر، وكان الوالي على اليَمَنِ الأسْفَل، تعز وإب وجبلة وحيس وسائر تهامة يقول لهم فيما يبلغنا إذا شَكوا الجور: لا يؤاخذني الله إلا فيما أبقيت لكم!».
بعد أن ارتفعت وتيرة مؤذاة غلاة الزّيدِيّة لـه، عاف المُقبلي المقام باليمن، ورحل سنة 1080هـ بأهله إلى مكة المُكرمة، وهناك اتهمه بعض العلماء بـ (الزندقة)؛ بل اشتكوه إلى السلطان العثماني محمد الرابع، إلا أن الأخير انتصر له، بعد أن أرسل عددًا من العلماء لاختباره.
ظل المقبلي مُرتبطًا بما يدور في بلده من أحداث، ولم يتوقف عن مراسلة الأئمة، وإسداء نصائحه الصادقة لهم، وكانت آخر رسائله لصاحب المواهب، وقد خاطبه في إحداها قائلًا: «فإن أهل يافع مثلًا، وأهل صعدة إن قاتلتموهم على الإسلام فهم مسلمون يشهدون شهادة الحق.. وحاصل حربكم مفسدة ظاهرة، قتل النفوس، وإهلاك الأموال، وظهور العجز». توفي المقبلي في مكة 1108هـ، وقد كانت حادثة انصاف السلطان العثماني له، سببا لانتشار كتبه في بلاد الترك، وقد جاء أحدهم بعد وفاته من داغستان إلى صنعاء، واستقر فيها مدة باحثًا عن مآثره، وفي هذا الباحث تحقق قول القائل: «لابد من صنعاء وإن طال السفر».
(د) يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم بن محمد، مؤرخ، بحاثة، له نيف وأربعون كتابًا، منها (أنباء الزمن في تاريخ اليمن) جزآن، و(بهجة الزمن في حوادث اليمن) كالذيل للأول، و(العبر في أخبار من مضى وغبر)، و(المستجاد في بيان علماء الإجتهاد)، و(طبقات الزّيدِيّة)، و(غاية الأماني في أخبار القطر اليماني) مجلدان. جرت بينه وبين بعض علماء عصره منافرة كبيرة؛ لأنه كان كأبيه ميالًا للعمل بالكتاب وصحيح السنة النبوية، ولهذا فقد أهمل هؤلاء ذكره في مُصنفاتهم. ومن مؤلفاته التي توضح منهجه: (صوارم اليقين في الرد على القاضي سعدالدين)، ويعني به القاضي سعدالدين المسوري، وله رسالة أخرى بعنوان: (مزيل الخفى في تعظيم صحابة المصطفى)، وقال الـمُؤرخ جحاف عنه أنَّه عُرف بـ (السني)، وفي عام 1099هـ كانت وفاته، عن 64 عامًا، وقيل أنَّه تعمر أكثر من ذلك.
(هـ) هو القاضي الشاعر على بن محمد بن أحمد العنسي، ولد أواخر القرن الحادي عشر الهجري، وانتقل من صنعاء مكان مولده، إلى العدين مكان نبوغه وإلهامه، ونشأ في الأخيرة بكنف والده الذي كان يعمل خطيبًا وواعظًا دينيًا، وقد نبغ منذ فجر شبابه في علوم الشريعة والتدريس، حتى اشتهر وذاع صيته، واختاره تبعًا لذلك الإمام صاحب المواهب محمد بن أحمد لتولي القضاء في تلك البلاد.
ألهمت طبيعة العدين الخلابة القاضي علي العنسي ليبدع أكثر، وفيها صاغ معظم روائعه الشعرية، وهي الروائع التي جُمعت في ديوان مَطبوع اسمه (وادي الدور)، حققه الشاعر يحيى منصور بن نصر، وصدرت طبعته الأولى عام 1962م، ومن يُطالعه، يرى فيه – كما أفاد محقق الديوان – شاعرًا مطبوعًا، وعاطفة تبيح أسرارها إلى عاطفة، وقلبًا يتحدث إلى قلب، وأضاف ابن نصر: «والعنسي مصور بارع، وحساس دقيق، يبتكر ولا يُقلد، وينتهج سبيله العاطفي بدوافعه الشعرية الفياضة».
من جهته قال عنه الشاعر الكبير عبد العزيز المقالح: «علي محمد العنسي، شاعر فنان، تحول عنده الشعر إلى غناء، والغناء إلى شعر، يأتي – زمنيًا بين شرف الدين والآنسي، وهو وإن كان أقل كمًا شعريًا من الاثنين، إلا أنَّه قد كان أجود منهما شاعرية، وأغزرهما ثقافة وعلمًا، وقد مكنته ثقافته الواسعة من اصطناع لهجة عامية تجمع بين الفصاحة والرقة، والبساطة والتعقيد».
استمر القاضي علي العنسي بعد وفاة صاحب المواهب في منصبه، وقد نقله المُتوكل القاسم من العدين إلى وصاب، وعينه قاضيًا على تلك البلاد، إلا أنَّ مكوثه فيها لم يستمر طويلًا؛ فقد وشى به – كما أفاد المُؤرخ زبارة – عاملها شرف الدين بن صلاح، وهو الأمر الذي أدى لحبسه، ولم يستمر مُكوثه أيضًا في ذلك السجن طويلًا، فقد رضي عنه إمام صنعاء، وعينه حاكمًا على بلاد الحيمة.
توفي القاضي العنسي في الحيمة جمادى الآخر 1139هـ، وذلك قبل وفاة المُتوكل القاسم بثلاثة أشهر، وقيل أنَّه مات مسمومًا، وعن تلك النهاية المأساوية قال الشاعر عبدالعزيز المقالح: «وقد ظلت الوشايات تلاحق الشاعر العنسي وتتهمه بمعارضة نظام الحكم، حتى قيل أن الإمامة دست له السم في طعامه، فمات، وذهب ضحية موهبته واستنكاره لما كان يرتكب الأئمة في عصره من طغيان وفساد، وإلى ما كان يقوم به هؤلاء الأئمة من إقطاع أموال المواطنين لأنصارهم، وإسكان الجنود في منازل الفلاحين باسم الخطاط.. إلخ».
مراجع:
- تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار – سيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم 1019 – 1087هـ، المطهر بن محمد بن أحمد بن عبدالله الجرموزي، تحقيق: عبدالحكيم بن عبدالمجيد الهجري، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، ط1، 2002م، ص 401 – 602 – 604 / بهجة الزمن في حوادث اليمن، يحيى بن الحسين، تحقيق: عبدالله الحبشي، بعنوان: يوميات صنعاء في القرن الحادي عشر 1046 – 1099هـ، منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي، ط1، 1996م، ص 91 – 119 – 161 – 162 – 163 – 209 – 210 – 223 – 241 – 242 – 244 – 245 – 252 – 254 – 255 – 256 – 278 – 298 / العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ، صالح المقبلي، المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع، صنعاء، ط2، 1985م، ص 270 / تاريخ اليمن عصر الاستقلال عن الحكم العثماني الأول من سنة 1056هـ إلى سنة 1160هـ، محسن بن الحسن بن القاسم بن أحمد بن القاسم الملقب أبو طالب، تحقيق: عبدالله الحبشي، مطابع المفضل، ط1، 1990م، ص 129 – 137 – 138 – 141 – 146 – 147 / ديوان ابن الأمير الصنعاني، مطبعة المدني، 1964م، ص 312 – 313 – 347 – 348 / البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد بن علي الشوكاني، حققه وعلق عليه محمد حسن حلاق، دار ابن كثير، دمشق، ج1، ط1، 2006م، ص ص 58 – 146 – 191 / ج2، ص 328 / اليمن في ظل حكم الإمام المهدي، المعروف بصاحب المواهب، د. محمد بن علي الشهاري، مكتبة الجيل الجديد، ط1، 2009م، ص 27 – 31 / ابن الأمير وعصره صورة من كفاح شعب اليمن، قاسم غالب أحمد وآخرون، المراكز الإسلامية الثقافية في اليمن، ص 49 – 52 – 55 – 56 – 151 – 152 / تاريخ اليمن الحديث، العمري، ص 61 – 62 – 63 – 64 / الشرائح الاجتماعية التقليدية في المجتمع اليمني، قائد نعمان الشرجبي، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1986م ، ص 124 – 125 / فتوى الإمام المتوكل على الله إسماعيل والفتوى المضادة للإمام المجتهد الحسن بن أحمد الجلال، د. عبدالعزيز قائد المسعودي، مجلة (الإكليل)، العددان 29 – 30، يناير – مارس 2006م.المتاهة.. الحلقات المفقودة للإمامة الزيدية في اليمن، بلال محمود الطيب، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، ط1، القاهرة، 2021م، ص 220 – 221 – 288 – 293 – 294 296 – 298 – 300 – 306 363.
- درر نحور الحور العين في سيرة الامام المنصور وأعلام دولته الميامين، لطف الله بن أحمد بن لطف الله بن أحمد بن جحاف، تحقيق إبراهيم بن أحمد المقحفي، مكتبة الإرشاد، صنعاء، ط1، 2004م، ص 21 – 37 – 96 – 97 – 98 – 108 – 109 – 110 – 118 – 137 – 138 – 139 – 140 – 159 – 160 – 164 – 178 – 185 – 192 – 194 – 195 – 210 – 213 – 219 – 543 – 633 / وادي الدور، القسم الحميني من ديوان القاضي علي العنسي، تحقيق: يحيى بن منصور بن نصر، مكتبة الإرشاد، صنعاء، 2009م، ص 5 – 6 – 13 – 14 – 19 – 20 / ديوان ابن الأمير، ص 67 – 112 – 186 – 205 – 213 – 214 – 216 – 225 – 306 – 315 – 316 – 332 – 333 – 334 – 335 – 336 – 395 – 396 – 397 / تقاريظ نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف إلى سنة 1357هـ، محمد بن محمد بن يحيى زبارة، ج1، ط2، مركز الدراسات والبحوث، صنعاء، 1985م، ص 215 – 216 – 362 / نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشـر، محمد بن محمد زبارة، ج2، تحقيق مركز الدراسات والأبحاث اليمنية، صنعاء، ص 120 – 297 230 / ابن الأمير وعصره، قاسم غالب وآخرون، ص 5 – 9 – 10 – 13 – 125 – 126 – 127 – 128 – 133 – 134 – 143 – 152 – 168 – 169 – 170 – 171 – 175 – 179 / مئة عام من تاريخ اليمن الحديث، حسين بن عبدالله العمري، دار الفكر، دمشق، ط1، 1984م، ص 26 – 57 – 62 – 100 – 102 – 104 – 105 – 107 – 109 – 110 – 111 – 112 – 113 – 144 / الإمام الشوكاني رائد عصره، حسين بن عبدالله العمري، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1990، ص 101 / هجر العلم ومعاقله في اليمن، القاضي إسماعيل الأكوع، ج1، دار الفكر، ط1، 1995م، ص 1588 – 2251 / محمد بن إسماعيل الأمير، رائد مدرسة الإنصاف في اليمن، محمد عبدالله علي زبارة، صنعاء، 2007م، ص 11 – 38 – 48 – 58 – 68 / المتاهة، الطيب، ص 307 – 308 – 312 – 313 – 324 – 338 – 339 – 346 – 347 – 348 – 359 – 360 – 363.