أقام الإماميون المنتسبون إلى المذهب الزيدي حكمًا كهنوتيًا شديد الشبه بالدولة الثيوقراطية في التاريخ الغربي، وقد تسبب ذلك الحكم الرهيب في صناعة مآسٍ ومآتم لا حصرَ لها في حياة اليمنيين، ورغم استخدام الدين كأفيون لتخدير الناس عن المطالبة بحقوقهم ورغم القمع الشديد، فقد ظل اليمنيون يثورون بين الفينة والأخرى، وفي عصرنا الحديث تعد الثورة الدستورية من أعظم هذه الثورات إن لم تكن أعظمها على الإطلاق، رغم أنها سقطت بعد 26 يوما فقط من اندلاعها؛ بسبب عدد كبير من العوامل الداخلية والخارجية.
ولقد كانت أوضاع اليمنيين المتخلفة والمنقطعة النظير في العصر الحديث تستفز كافة من اطلع عليها من الأحرار، بمن فيهم أشخاص غير يمنيين، ومن هنا فقد اشترك في الثورة الدستورية التي اندلعت في 17 فبراير 1948م في مدينة صنعاء، عدد من الشخصيات غير اليمنية وفي مقدمتها: المجاهد الجزائري الفضيل الورتلاني، والقائد العسكري العراقي جمال جميل، والداعية المصري المعروف عبد الحكيم عابدين الذي كان سكرتيرا لحركة الإخوان المسلمين وحضر من مصر للمشاركة في تثبيت الثورة، والأكاديمي المصري المشهور البروفيسور مصطفى الشكعة الذي كان قبل الثورة رئيسا للبعثة التعليمية المصرية التي أرسلها حسن البنا إلى اليمن لتحريره من الجهل، وأصبح بعد اندلاع الثورة مديرًا لإذاعة صنعاء التي بثها الثوار.
سنتوقف في هذه المقالة قليلًا مع دينامو الثورة الدستورية المجاهد الجزائري الكبير الفضيل الورتلاني، والذي كان من تلاميذ علّامة الجزائر الأكبر عبد الحميد بن باديس، وكان مطاردًا من الاستعمار الفرنسي وحلفائه، فساقته الأقدار إلى مصر والتحق بحركة الإخوان المسلمين التي كانت في ذروة نشاطها على المستوى الوطني بجانب تبنيها القوي لقضايا العرب والمسلمين في كل مكان، وعيّنه حسن البنا قائدا في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، وبسبب قوة شخصيته وعلاقاته الواسعة بالطلاب اليمنيين الدارسين في مصر أرسله حسن البنا سنة 1947 إلى اليمن ليلعب دورا في إصلاح نظام الإمام يحيى من الداخل، إذ كان البنا يرى أن في نظام الإمام خيرا ينبغي تخليصه من الدخن الذي فيه والبناء عليه، لكن طبيعة يحيى الجامعة بين الاستبداد والكهنوت، وخوفه من استيقاظ الشعب اليمني والثورة على ظلمه وطائفيته وسلاليته وتوظيفه للدين في تخدير اليمنيين وتعبيدهم له، جعلته يستعصي على كل محاولات الإصلاح الجادة التي قام بها الورتلاني ومن خلفه الإخوان المسلمين.
وبعد أن يئس الورتلاني والأحرار اليمنيون من إمكانية إصلاح نظام يحيى حميد الدين، عملوا على الإعداد لثورة بيضاء لا تتسلح بالعنف وإنما تتوسل بالتوعية والإقناع وكافة وسائل الجهاد الناعم والتغيير السلمي، ولقد كانت مجاميع من اليمنيين تمتلئ بمشاعر القهر والظلم وتتحرق شوقًا للتمرد على الطغيان ومنازلة الكهنوت الإمامي المتدثر بعباءة الدين، لكن هذه المجاميع كانت أشبه بجزر منعزلة؛ بسبب تسيد الحس الفردي في طبائع اليمنيين، وشيوع مختلف أنواع العصبيات، وطغيان مشاعر الخوف من اختراق الإمام لصفوفهم، فقد كان الإمام يستخدم الجواسيس بكثافة ويوظف الأكاذيب والخرافات في تخويف الشعب من قدراته الخارقة والتي تصل إلى حد معرفته بالغيب، ومن أجل تشكيك اليمنيين ببعضهم.
وكان الفضيل الورتلاني هو الأداة التي أحالت تلك الانفعالات إلى فاعليات ثورية، فقد كان المغناطيس الذي انجذبت إليه تلك المجاميع من علماء دين ومشايخ قبائل وتجار وعسكريين، بمن فيهم بعض أقرباء الإمام وعلى رأسهم ابن الإمام سيف الحق إبراهيم، وقد نجح الفضيل في القيام بتجميع شتات اليمنيين وتشجيع متردديهم ونقل السلبيين منهم إلى طور الفعل الإيجابي، بفضل ما حباه الله به من مواهب فطرية وملكات سليقية وقدرات قيادية من النادر أن تجتمع كلها في شخص واحد، كما استنتجنا من كلام كل من عايشه عن قرب وعمل معه عن كثب.
وفي مقدمة الأحرار اليمنيين الذين تأثروا بالورتلاني بعمق أبو الأحرار محمد محمود الزبيري الذي كان قد قابل كثيرًا من القيادات الفكرية والدعوية والحركية في مصر وعلى رأسهم قادة الإخوان المسلمين، الذين من فرط تأثره بهم قطع دراسته في دار العلوم وعاد إلى اليمن أواخر 1941 وأسس جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نمط ما تدعو إليه حركة الإخوان، مع مراعاة الفوارق القائمة بين الشعبين اليمني والمصري بالطبع، لكن تأثره بشخصية الفضيل الورتلاني كان أشد من غيره، وقد ذكر ذلك هو بنفسه، عندما اعتبر أن الذين نقلوه “إلى المرحلة الثالثة من الصفاء الروحي هم جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، والفضيل الورتلاني”(1) ، ونلاحظ هنا كيف وضع الزبيريُّ الورتلانيَّ جنبًا إلى جنب مع كبار المصلحين في العصر الحديث، وعندما سأله صديقه أحمد الشامي عن أعظم شخصية قابلها في مصر وأُعجب بها، أجاب بأنها شخصية الورتلاني، ثم أطنب في وصف عبقريته وعلمه وفصاحته وقوة شخصيته ولباقته واهتمامه باليمن واليمنيين وقال:”لا أظن أنه يوجد له نظير في العالم الإسلامي علماً وكمالاً وإخلاصاً وهيبة وجلالاً”(2). ومن يعرف عظمة الزبيري يدرك القيمة العظيمة لهذه الشخصية.
ولم يكن هذا رأي الزبيري وحده في الورتلاني الذي لم يعرفه معظم المسلمين، بل كان رأي كثيرين ممن عرفوه عن قرب، ومنهم الضابط العراقي جمال جميل الذي كان يدرب الجيش اليمني أثناء عمل الورتلاني في اليمن، وهو ممن أقنعهم الورتلاني بالمشاركة في الثورة السلمية ضد النظام الإمامي بعد أن فشلت محاولات إصلاحه من الداخل، وكان جمال جميل قد قال ذات مرة: “إن الورتلاني الرجل العملاق يسوقنا إلى الميدان بعصاه السحرية، فكلما طُرح موضوع لمناقشته واتخاذ القرار فيه؛ أجاب بالقول: لا تهتموا، وأقنعهم بمنطقه الساحر”(3) ، وبسبب منطقه الساحر هذا، بجانب ما توافر لشخصيته من تأثير آسر وخطابة فصيحة فائقة، وقدرة خارقة على الإقناع وإدارة الأمور بسلاسة؛ فقد استطاع اجتذاب أحمد محمد الشامي الذي كان من خواص وليّ العهد أحمد، حتى صار أحد المقربين من الورتلاني ومساعدًا له في صياغة (الميثاق المقدس) الذي كان الدليل النظري للثورة الدستورية سنة 1948، رغم أنَّ ولي العهد أرسله كجاسوس له على الفضيل بعد أن رأى ذكاءه الشديد حينما قابله في مدينة تعز بصفته وليا للعهد، وعرف بدهائه أن الورتلاني لم يأت فقط لفتح فرع للشركة التي يعمل فيها، وإنما جاء لمآرب أخرى، وهذه شهادة مبطنة للورتلاني من الإمام يحيى حميد الدين، فكأنه يقول بأن ما يمتلك هذا الرجل من صفات نادرة وخلال عظيمة لا تقول بأنه مجرد مدير لفرع شركة وإنما هو صاحب رسالة كبيرة جاء للقيام بها في اليمن، وهذا ما كان فلم يسمع أحد عن فرع تلك الشركة لكن العالم كله سمع بالثورة التي أشعلها هذا الرجل!
ويتضح انبهار الشامي بالورتلاني من وصفه لشخصيته ولأدواره، ومما قاله في هذا الشأن: إنه “مهندس ثورة 1367 – 1948 حقًا … [حيث استطاع] بعلمه وقوة شخصيته وبلاغة منطقه أن يكسب ثقة وتقدير جميع الفئات بل ومحبتها الصادقة”، وأكد أنه لم يقابل – لا قبله ولا بعده – مثله في علمه وثقافته وأخلاقه وشخصيته المهيبة، وبأن أحدًا لم يؤثر في حياته السياسية والأدبية بل والاجتماعية كما أثر فيها أستاذه الفضيل الورتلاني، حتى قال: “لقد صنعني سنة 1366 – 1947 صنعًا جديدًا وأوجد مني شخصًا آخر لم أكن أعرفه من قبل”(4) ، وبصيغ وعبارات متنوعة ما فتئ الشامي يؤكد أن الورتلاني كان “قطب الرحى … والدينامو المحرك للأحداث”، بل هو “الذي غيَّر مجرى تأريخ اليمن في القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي)”(5) ، وذكر أن الورتلاني حين وضع قدمه على أرض اليمن، كأنما وضعها على “زر دولاب تأريخها، فدار بها دورة جديدة في اتجاه جديد، لأن ثورة الدستور هي من صنع الورتلاني”(6) .
وحينما التقى القاضي العلامة والمؤرخ محمد أحمد الحجري بالورتلاني وتحدث إليه وسمع خطبته قال له: “إنك وأنت من نسل الإمام علي والعالم المجتهد، والقوي الأمين، لو دعوت إلى نفسك لبايعك أهل اليمن، كما بايعوا الإمام الهادي يحيى بن الحسين”(7) ، ورأى المقبلي – أحد الأحرار الذين عرفوا الورتلاني عن قرب قبل الثورة وقائد القطاع الطلابي فيها – أن الفضيل خليفة الأفغاني ومحمد عبده .(8)
وقد قرر المشاركون في غمار تلك الأحداث والمراقبون لها أن دور الفضيل الورتلاني كان مركزيًا لا ينافسه فيه أحد، وأنه أصبح العمود الرئيس في الإعداد للثورة الدستورية والقيام بها(9) ، وأنه “الشخصية المحورية في الثورة”(10) ، وأكد أحد الدارسين النابهين هذا الدور المحوري للورتلاني، فقال: “ويبدو لي أن ما شهدته الفترة القصيرة منذ وصوله وحتى قيام الانقلاب من نشاط للمعارضة، وتحديد لمهامها العاجلة، وبلورة لشكل الحكم المطلوب؛ يرجع بصورة رئيسية إلى شخص الفضيل”(11) ، وصرح الثائر عبد الله الشماحي بدور الورتلاني القيادي في إشعال نار الثورة في كل مكان حل به، فقال: “فهو في تعز يهز الملك المظفر، وبإب يحرك الملك المكرم والوالدة السيدة أروى، وبصنعاء يلهب شبابها وطلاب مدارسها وضباطها بسعير ثوري، وحوّل الجو بصنعاء وعدن إلى أتون من قوة التفكير الموجه الصحيح، وصرنا وكأن اليمن قد أُلغم بصواعق ستنقضّ على الإمام يحيى وحكومته”.(12) وبعد فشل الثورة أشار أحد زملائه الثوار بغضب إلى هذا الدور الكبير للورتلاني، فقال: “أما الفضيل فهو القنبلة الذرية لهذه الفتنة”.(13)
وهناك شهادات أخرى كثيرة ليمنيين وغير يمنيين، دلت بمجموعها على أن الورتلاني كان بحق من طراز الرجال النادرين، وأن الزبيري والشامي وغيرهما كانوا محقين في إعجابهم الشديد به وتقديمه في الحب والتأسي على من اشتهروا أكثر منه، أي من الورتلاني.(14)
وزبدة القول: إن الورتلاني ذلك القائد الذكي الذي جاء من الجزائر، هو من كتب الله على يديه تحويل جزائر السخط المنعزلة عن بعضها وخلايا الغضب المتوجسة من غيرها، إلى وطن واحد يغلي من الغضب ويهفو للتمرد على الكهنوت، للقضاء على سحره واجتثاث فساده، وتحرير الشعب من ظلمه وظلامه. ولقد نجحت الثورة في النيل من الظالم وانتزاع السلطة من يده، لكن عددًا من العوامل والأقدار لم تكتب لها الاستمرار، فسقطت صنعاء بيد الإمام الجديد أحمد حميد الدين بعد أن أغرى القبائل الجائعة بخيرات صنعاء ووعدهم بإباحتها لهم، وقد حدث ذلك وتم القبض على زعماء الثورة وإعدام معظمهم، وكانت الأقدار قد أنقذت الورتلاني من مشانق الإمامة عندما ساقته مع الزبيري وعبد الله بن علي الوزير للذهاب قبل سقوط صنعاء إلى السعودية لاستعجال وفد الجامعة العربية للقدوم بعد أن أخره الملك عبد العزيز عنده ليتيح فرصة للإمام أحمد حتى يُسقط صنعاء!
وبعد أن ابتلعت غياهبُ الظلام الإمامي صنعاءَ من جديد، شنت السلطات العربية التي كانت وما زالت ألعوبة بيد الاستعمار الغربي، شنت حملة لمطاردة الثوار الذين لم تقتلهم مشانق الإمام، وظل الورتلاني يهيم في البحار على وجهه لمدة ستة أشهر ولم تقبل أي بلد بنزوله فيها ولجوئه إليها، ليتم تهريبه إلى لبنان ثم إلى تركيا ويموت هناك غريبا بعد فترة من الزمن؛ لأنه أراد إحياء شعب وانتشاله من أجداث الإمامة الكهنوتية الظالمة!
الهوامش:
- محمد محمود الزبيري: مأساة واق الواق، 59.
- أحمد الشامي: رياح التغيير في اليمن، 199.
- هذه العبارة من شهادة أحمد حسين المروني وهو أحد الأحرار، وقد وردت في: مركز البحوث والدراسات: ثورة 1948، 47.
- الشامي: رياح التغيير في اليمن، 198، 199. والشامي هذا كان نديم ولي العهد، وذكر بعض الثوار أن ولي العهد كلفه بملازمة الورتلاني للتجسس عليه، ولكنه بتأثيره الآسر ضمه إلى رجال الثورة، انظر: عبد الرحمن العمراني: الزبيري أديب اليمن الثائر، 224، 225. والعزي صالح السنيدار: الطريق إلى الحرية، 121، 122.
- الشامي: رياح ، 194.
- نفسه، 194.
- الشامي: رياح ، 198، 199. حيث تشترط الزيدية في الأئمة أن يكونوا من نسل علي بن أبي طالب وبالذات من أبناء فاطمة.
- العبيدي: جماعة الإخوان، 40. وانظر عن هذه الشهادات: محمد الفسيل في: ثورة 1948، 413. وأحمد حسين المروني في: ثورة 1948، 413. والعمراني: الزبيري أديب اليمن الثائر، 225.
- انظر عن دور الورتلاني في هذه الثورة: شهادات عربية وأجنبية في: ثورة 1948، 252- 254، 279، 280. والعمراني: الزبيري، 224، 225. والأسودي: حركة الأحرار، 59. وعبد الكريم قاسم: الإخوان المسلمون، 47، 62.
- يحيى الإرياني في: ثورة 1948، 412. والفسيل في: المرجع نفسه، 412.
- الصايدي: حركة المعارضة، 147 .
- اليمن الإنسان والحضارة، 222.
- هو جمال جميل في اعترافاته: جريدة المصري (العدد 386، 23 جمادى الأولى 1367 – 13 أبريل 1948)، 6، نقلاً عن: عبد الله الذيفاني: الاتجاه القومي، 227.
- انظر: محمد محمود الصواف: من سجل ذكرياتي، 105. وانظر مجموعة من الشهادات العربية المتنوعة: حميد شحرة: مصرع الابتسامة، 120.