تمهيد
ارتبط وجود أتباع الزيدية الذين قدموا من بلاد الرس إلى اليمن أواخر القرن التاسع الميلادي بالنظرية الهادوية، نسبة إلى صاحب النظرية يحيى بن الحسين، الملقب بـ”الإمام الهادي”، وهو أول من قدم اليمن، وخاض سلسلة من الحروب والصراعات من أجل السلطة واحتكار تمثيل الدين والدنيا، وكذلك فعل أبناؤه وأحفاده وأقاربه وأتباع مذهبه وفكرته من بعده.
ينتسب أتباع الهادي إلى المذهب الزيدي (نسبةً إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب)، بيد أن التأثير الذي أحدثه الهادي يحيى بن الحسين جعل زيدية اليمن يوصفون بالهادويين، بالإضافة إلى أن تأثير الفرقة الجارودية الزيدية فيهم جعلهم جاروديين، فهم هادويون جاروديون، يقول العلامة والمؤرخ اليمني نشوان الحميري “ليس باليمن من فرق الزيدية غير الجارودية”(1) .
ونتيجةً لارتباط الزيدية في اليمن بالفرقة الجارودية من جهة وفكرة الهادي ونظريته من جهة ثانية فقد ظلت الصراعات تطبع حياة اليمنيين منذ قدوم ابن الحسين وإطلاق نظريته التي أسست للحروب الدامية والصراعات المستمرة، وأصبغت على تلك الصراعات صبغة دينية بأنْ جعلت كل طرف من أطراف الصراع يعتقد أنه الوصي على الدين والممثل الشرعي والوحيد للشريعة الإسلامية، وبالتالي فحربه على خصومه مقدسة وهي جهاد وفرض على أتباعه، وهذا جعل الصراع مستمرا ومتواصلا، بل إن الصراع في أكثر الأوقات كان ينشب بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن نظرية الإمامة بعمومها استلهمتها الزيدية من رؤية الشيعة لفكرة الإمامة، وهي الفكرة التي تبلورت لديهم بعد سنوات طويلة من سيطرة الأمويين على الخلافة الإسلامية، حيث يذهب صاحب كتاب “تطوّر الفكر السياسي الشيعي”، إلى أن “نظريَّة النص وتوارُث السُّلطة في أهل البيت فقط، لم يكن لها رصيد لدى الجيل الأول من الشيعة، ومن هنا فقد كانت نظرتهم إلى الشيخين أبي بكر وعمر نظرة إيجابية؛ إذ لم يكونوا يعتبرونهما غاصبين للخلافة التي تركها رسول الله شورى بين المسلمين، ولم ينص على أحد بالنصوص”(2) .
وتبلورت معظم نظريات الإمامة عند الشيعة في العصر العباسي، أي بعد القرن الهجري الأول، وكان أتباع الزيدية ممن خاضوا غمار تلك النظريات فظهر موقفان للزيدية في الإمامة، تمثل الأول في القول بحصر الإمامة في البطنين، وهو ما قالت به الفرقة الجارودية التي أسسها “أبو الجارود زياد بن المنذر”، الذي اعتبر مسألة الإمامة قطعية، وأنها في الإمام علي بالنص الجلي، وأضاف أنها لا تجوز في غير أبناء الحسنين، ووافقه على ذلك بعض الزيدية، وعُرفوا (بالجارودية) التي تمثل الجانب الأكثر تشدداً في فكر الزيدية، وقد بعدت عن الأصول التي قال بها زيد بن علي(3) ، واقتربت كثيراً من أفكار الشيعة الإمامية الاثني عشرية، سيما فيما يتعلق بالموقف من الإمامة، ومعروف أن مؤسس الجارودية أبو الجارود إمامي المذهب ولكنه فيما بعد أعلن التحاقه بالزيدية.
وتمثل الموقف الثاني في موقف كل من الفرقتين الزيديتين الصالحية التي أسسها الحسن بن صالح، والسليمانية التي أسسها سليمان بن جرير، حيث ترى الصالحية “أن الإمامة خاضعة لأنظار العارفين، وأنها تجوز في سائر الناس وإن كانت في أهل البيت أولى إذا توفرت سائر شروطها”(4) ، وترى السليمانية أن الإمامة شورى فيما بين الخلق، ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين”(5) .
ويلاحظ الباحثون في تاريخ الزيدية أن فرق الزيدية اختلفت في اشتراط الانتساب إلى الحسنين (الحسن والحسين)، فالتيار الجارودي، تمشيًّا مع أصل فكرته في (إلهية الإمامة) رأى أن الانتساب إلى الحسنين شرط لصلاحية الإمام، فلا يصح عندهم إمام مهما بلغ من الكفاءة والصلاح إن لم يكن كذلك. أما غير الجارودية من الزيدية (كالصالحية والسليمانية) فيرون أن الإمامة جائزة في كل الناس، ولا شرط لها غير ما يتوقف عليه القيام بمسئوليتها(6) ، وجاءت هذه الاختلافات نتيجة تعرض الزيدية نفسها للانقسام والتعدد بعد مقتل زيد بن علي في معركته مع الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك سنة 121هـ، ومن المؤرخين من قال إن الزيدية انقسمت إلى ست فرق، ومنهم الأشعري وابن المرتضى، واتفق البغدادي والشهرستاني والرازي على انقسام الزيدية إلى ثلاث فرق لكنهم اختلفوا في مسميات هذه الفرق، وفيما قال الخمي إن الزيدية انقسمت إلى فرقتين فقد نقل المسعودي عن الوراق القول إنها انقسمت إلى ثماني فرق(7) .
نظرية الهادي من الفكرة إلى التطبيق
جاءت أفكار الهادي يحيى بن الحسين الذي سعى لتأسيس دولة في اليمن للأئمة تقوم على النظرية الهادوية، باعتباره أول من بدأ تطبيقها بعد استيلائه على بعض مناطق صعدة وعمران، متوافقة مع الفرقة الجارودية، حيث جعل الاعتراف بإمامة (علي بن أبي طالب) جزءاً من الاعتراف بنبوة محمد (عليه الصلاة والسلام)، مخالفاً بذلك رأي الإمام زيد نفسه، ومتابعاً رأي الشيعة الإمامية، خاصة في رفضه خلافة أبي بكر وعمر، وفي الاعتقاد أن علياً أحق الناس بخلافة النبي، وقال في كتابه “الأحكام” إن “ولاية علي واجبة على جميع المسلمين، فرض من الله رب العالمين، ولا ينجو أحدٌ من عذاب الرحمن، ولا يتم له اسم الإيمان حتى يعتقد ذلك بأيقن الإيقان (8).
وتقوم نظرية الهادي المستوحاة من الجارودية، على ركنين أساسيين هما: الدعوة أو الإمامة، والجهاد ويقصد به الخروج على الحاكم، والنظرية تجعل الإمامة والسلطة حكراً على أبناء علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة بنت رسول الله ومن تناسل منهما، أي حصر الإمامة بالبطنين، وقد أصّل يحيى بن الحسين للنظرية وعدّها من أصول الدين، وقال: من كان من ذرية السبطين، الحسن والحسين فهو الإمام المفترضة طاعته، الواجبة على الأمة نصرته”(9) ، وقال في موضع آخر: من كان من ذرية الحسن والحسين فهو إمام لجميع المسلمين، لا يسعهم عصيانه ولا يحل لهم خذلانه، بل تجب عليهم طاعته وموالاته، ويعذب الله من خذله، ويثيب من نصره (10).
وقد جعلت النظرية الهادوية الوصول للسلطة حقاً إلهياً لأدعياء النسب الهاشمي من نسل الحسن والحسين، باعتبارهم ذوي الاصطفاء والأفضلية، والأحق بالسلطة حتى قيام الساعة، لذلك اشتعلت الصراعات المسلحة تارة بين أتباع الإمامة الهادوية من جهة ومكونات المجتمع اليمني من جهة ثانية، وتارة أخرى بين الأئمة الهادويين فيما بينهم، فقامت الحروب بين الإخوة وأبناء الأسرة الواحدة والبيت الواحد، وكل منهم يدعي أحقيته بالإمامة والسلطة، وحوادث التاريخ حافلة بالأدلة على ذلك.
وكان لهذه النظرية أهميتها عند الهادي، باعتبارها “الأساس النظري لحياته الحافلة بالعمل الشاق والمضني لتحقيق مشروعه الذي يعد تجسيداً وامتداداً لمشروع شيعي لاقى إخفاقات متتالية”(11) . ولم يتمكن أتباع الشيعة الإمامية من بناء دولة خاصة بهم على أساس فكرتهم ونظريتهم، لذلك فإن مؤرخي الزيدية في اليمن يرون يحيى بن الحسين هو أول من صرح بالقول بحصر الإمامة من أئمة الزيدية، وقد ذكر في كتاب (الأحكام): “يجب على المكلّف أن يعتقد أن الإمامة في ذرية الحسن والحسين دون غيرهم(12) .
ومن أهم ملامح الإمامة عند الهادي وأتباعه أنها حق إلهي لمن هم من البطنين، وهذا جعلهم يخوضون الحروب الطويلة ويسفكون الدماء المحرمة باعتبار ذلك واجباً دينياً، يثاب فاعله ويعاقب تاركه، كما أن النظرية ذاتها تتضمن القول بجواز وجود أكثر من إمام في وقت واحد، لذلك كان يكثر أدعياء الإمامة كلما وجدوا الفرصة مواتية، الأمر الذي ضاعف الصراعات المسلحة فيما بين الأئمة المتنافسين، ويجزم الباحث عبدالكريم جدبان أحد مؤرخي الزيدية، أن “التاريخ الزيدي كان مليئاً بالمآسي والأحداث الدامية والخراب والدمار”(13) ، مستنتجاً أن عدم وجود نص ينظم عملية انتقال السلطة من شخص إلى آخر، جعل الباب أمام الطامعين والطامحين والانتهازيين مفتوحاً على مصراعيه. فكل من وجد في نفسه قدرة للاستيلاء على كرسي السلطة تقدم إليه، ولو لم يكن يملك من شروط الإمامة إلا الذكورة والانتساب إلى علي وفاطمة (14).
المعارضة الزيدية للنظرية الهادوية
تعرضت النظرية الهادوية للنقد من داخل المذهب الزيدي نفسه، ابتداء بموقف الفرقتين الصالحية والسليمانية، وهما من أهم فرق الزيدية، وفيما بعد ظهرت المواقف الرافضة للنظرية الهادوية من داخل الزيدية الهادوية نفسها، ومن ذلك ما ذكره العلامة والمؤرخ عبدالله الشماحي حين قال: كان الإمام زيد أبعد نظراً من الهادي (يحيى بن الحسين)، فقد أبى أن يأخذ بنظرية حصر الخلافة على أبناء جدته فاطمة الزهراء ثم يربط بهذه الإمامة مذهبه، ويبني عليه دعوته ودولته”(15) . وقال أيضاً: “كان على الهادي أن يبدأ درواً جديداً يشعر فيه اليمنيون والفاطميون بالإخاء الذي يضمن مصالحهم واستقلالهم جميعاً، لا أن يأتي بدعوة يربط بها نفسه وخلفه تجعل من الفاطميين سادة حكاماً، ومن غيرهم تابعين محكومين”(16).
ومع كثرة الاعتراضات والانتقادات التي طالت نظرية الإمامة الهادوية القائمة على فكرة حصر الإمامة في البطنين، فقد كانت معارضة الفرقة المطرفية هي الأكثر حضوراً في التاريخ الزيدي الهادوي، لما لحق بهذه الفرقة من تنكيل وقتل واستئصال مادي ومعنوي، تولى كبره عدد من أئمة الهادوية وعلى رأسهم الإمام عبد الله بن حمزة، الذي ارتكب بحقهم أبشع جرائم القتل والتدمير والتخريب.
والمُطَّرِّفية فرقة زيدية انشقت عن الهادوية الزيدية، أسسها مطرف بن شهاب أواخر القرن الرابع الهجري، وأعلنت رفضها للنظرية الهادوية القائلة بحصر الإمامة على أبناء علي وفاطمة، واعتبرت الإمامة “عامة لكل من جمع صفاتها من المسلمين”(17) . وعارضت الأئمة الهادويين المعاصرين لها، أمثال أحمد بن سليمان وخلفه عبدالله بن حمزة، فشن الأخير حربه العقائدية على المطرفية، واتهمها زعماء الهادوية بالردة والكفر، ثم قام بحملة واسعة أدت إلى استئصال المطرفين وتخريب مساكنهم ومساجدهم والقضاء عليهم بشكل كامل، ولا يزال غالبية أتباع الزيدية الهادوية يرون أن أتباع المطرفية كفار، ويرددون الأوصاف التي أطلقها عبدالله بن حمزة على هذه الفرقة مثل قوله: الفرقة الملعونة، المرتدّة المفتونة، الضالة الغوية ، وقوله: هم أكفر الكفرة، وأفجر الفجرة، وشر أهل الفترة المرهقة القترة(18) .
تطبيقات النظرية الهادوية
صراعات الأئمة مع اليمنيين
بحسب كثير من المؤرخين والباحثين في التاريخ اليمني، لم يـُـتحْ لليمن العيش بهدوء واستقرار إلا في فترات زمنية قليلة، ذلك أن نظام الإمامة الذي يقوم على نظرية الهادي القائلة بحصر حق الحكم في أبناء الحسن والحسين (البطنين)(20) ،جعل لكل من توافرت فيه شروط الانتماء للبطنين، أن يعلن نفسه إماماً على البلاد، ويحدث أن يدّعي الإمامة أشخاصٌ كثيرون في وقت واحد، فيظهر إمامٌ في صنعاء، وآخر في شهارة، وثالث في جبلة(21) .
وظلت الصراعات هي السمة الغالبة في تاريخ الأئمة الهادويين، وقد اشتركت أغلب القبائل اليمنية في هذه الصراعات، تارة مع أحد الأئمة ضد إمام آخر استطاع أن يحشد إلى جانبه عدداً من أبناء القبائل، وكان يتم حشد القبيلة باسم الدين أول الأمر، خاصة وأن دعوة الهادوية ارتبطت بما يطلقون عليه الحق الإلهي، ومزاعم انتمائهم لآل بيت الرسول المستحقين للإمامة دون غيرهم حسب معتقداتهم.
التفت القبيلة – في كثير من الظروف حول بعض أئمة الهادوية لأسباب وظروف متعددة، كان حب الدين الإسلامي والرسول الكريم في طليعة هذه الأسباب، وطالما استغل زعماء الهادوية هذا الجانب وسعوا جاهدين لتوظيفه في خدمة مصالحهم وأهدافهم في الوصول إلى السلطة، وبعد تحقيق أهدافهم يستخدمون القوة والقمع في مواجهة القبائل، بالإضافة إلى ذلك استفاد الأئمة من الخلافات الموجودة بين القبائل، لأن تلك الخلافات والصراعات الداخلية كانت تؤدي إلى إضعاف القبائل وتأليب كل قبيلة ضد القبيلة الأخرى المنافسة لها.
وقد اتخذ الصراع الدموي الذي أشعلته نظرية الهادي وخاضه أتباعها من الأئمة الهادويين أشكالاً مختلفة، منها:
– الصراع مع المعارضة والمقاومة المحلية وشمل ذلك مختلف قبائل اليمن، كما حدث في البداية مع آل الضحاك وآل الدعام وآل الطريف، وغيرها.
– الصراع مع الدول اليمنية التي قامت في مناطق مختلفة من اليمن، كما حدث مع الدولة الصليحية والدولة الحاتمية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، ومع الدولة الرسولية من بداية القرن الثالث عشر حتى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، ومع الدولة الطاهرية من منتصف القرن الخامس عشر إلى بدايات القرن السادس عشر(22) .
صراعات الأئمة المتنافسين
لم يقتصر صراع السلطة على تلك الفصول الدامية التي تسببت بها أطماع الهادويين في السلطة على حروبهم مع قبائل اليمن والدول اليمنية التي قامت في مناطق مختلفة، وعلى امتداد زمني يزيد عن ألف سنة، بل إن الصراعات على السلطة ظلت حاضرة بقوة لدى الأئمة المتنافسين الذين يقومون بـ”دعوة القبائل لحمل السلاح والقتال، ويحرضونهم على الفتك بمنافسيهم ويبشّرونهم بالجنة، ويدفعون القبائل لقتال بعضها البعض باسم الله واسم كتاب الله وأبناء رسول الله(23) .
يقول المؤرخ اليمني حسين العمري في كتابه (تاريخ اليمن الحديث والمعاصر): أصبح الصراع تقليدا دمغ الحياة السياسية والاجتماعية في اليمن بميسم الانقسام والاقتتال بين الطامحين والمتصارعين من أئمة البيت الحاكم، حتى أرهق المجتمع وفقدت الدولة المركزية السيطرة وانجرفت البلاد إلى سنوات طويلة من الفوضى (24).
وفي هذا السياق يستعرض الباحث في تاريخ الزيدية الهادوية عبدالكريم جدبان الذي حقق عدداً من مؤلفات الأئمة الهادويين، جانباً من تلك الصراعات التي خاضها الأئمة المتصارعون فيما بينهم، مشيراً إلى أن الصراع على الإمامة بدأ مع أحفاد الهادي، حيث “لم تلبث الدولة التي أسسها الإمام الهادي أن اندثرت على إثر صراع دامٍ تفجَّر بين القاسم بن الناصر الذي تلقب بالمختار لدين الله، وأخيه يحيى بن الناصر الذي تلقب بالمنصور بالله. وانقسمت القبائل بين مؤيد لهذا أو ذاك من طرفي الصراع على الإمامة، ذلك الصراع الذي انتهى بدمار صعدة وخرابها”(25) ، الأمر الذي يؤكد أن الصراع على السلطة الذي أججته نظرية الهادي، سرعان ما اشتعل داخل البيت الهادوي نفسه، وأحرق أقرب الناس إليه، بداية بابنه الذي بدا عاجزاً عن مواجهة منافسيه الطامعين في الحكم، ثم بحفيده يوسف الداعي الذي واجه معارضة قوية من أتباع جده الهادي وأقاربه، وعلى رأسهم قاسم العياني الذي أخضع صعدة بعد سلسلة من الحروب، ثم توجه إلى نجران، وما كاد يصل إلى نجران حتى تمردت عليه صعدة، بتحريض من آل الهادي الذين لم يستطيعوا تقبل هذا المنافس الجديد على ما يعدونه جزءاً من ميراثهم. وتزعّم هذا التمرد الداعي يوسف، لكن العياني جمع ما استطاع من القبائل وسار بهم إلى صعدة وأخرب دربها وأخرج الداعي منها، وولى عليها ابنه جعفر بن القاسم، ثم أعلن قائد الجيش التمرد على العياني، فأسر ولده جعفر واليه على صنعاء واستولى عليها، ولم يطلق جعفر بن الإمام العياني إلا بعد موافقة الإمام على توليته ولاية عامة من جبل عجيب في وسط بلاد همدان حتى ذمار جنوباً بما في ذلك صنعاء، وأعلن ولاءه للداعي يوسف، وعندها اضطر الإمام العياني للتخلي عن الإمامة، واستقر في عيان حتى مات(26) .
ومن أبرز الصراعات الداخلية بين الأئمة المتنافسين التي تعد تطبيقاً حرفياً لنظرية الهادي وفكرته القائلة باحتكار السلطة، الحرب بين الإمام شرف الدين وابنه المطهر في القرن العاشر الميلادي، ثم الحرب بين المطهر هذا وإخوته، وكذلك الحرب التي قامت في أربعينيات القرن الثامن عشر الميلادي، بين الأخوين الحسين بن القاسم بن الحسين، وأخيه أحمد بن القاسم، كان الأول يسيطر على صنعاء والثاني على تعز، واستمرت الحرب بينهما فترة طويلة، وقتل فيها كثير من أنصار الإمامين المتنازعين، حتى قال الشاعر في ذلك:
صنوان قد سقيا بماءٍ واحدٍ
والفضل خالٍ من كلا الأخوين
جرحا قلوب العالمين وما لها
من مرهمٍ إلا دم الأخوين
التطبيقات المعاصرة للنظرية الهادوية
ظل أئمة الهادوية يخوضون الصراع من أجل الوصول إلى السلطة، مستخدمين شعارات الدين والشريعة الإسلامية لتحقيق أهدافهم الخاصة، وكانت دولة بيت حميد الدين التي أسقطتها ثورة السادس والعشرين 1962 آخر نسخة من دول الأئمة المرتبطة بالنظرية الهادوية، وبعد قيام الثورة ظلت فلول الإمامة تقاوم حركة الشعب والإجماع الوطني وتعمل بكل ما أوتيت من قوة كي تعيد عقارب الزمن إلى الوراء، واستمرت الحرب نحو 8 سنوات، حتى تم الاتفاق بين الجمهوريين وأتباع الإمامة، وبموجبه صاروا جزءاً من النظام الجمهوري، غير أن الفكرة ظلت حاضرة لديهم، ومع أنهم انخرطوا في مؤسسات الدولة الجديدة واستفادوا منها، كما انخرطوا بعد ذلك في العملية السياسية والتعددية الحزبية إلا أن النظرية الهادوية ظلت هي المحرك الرئيس لأتباع الهادوية ممن صاروا- علانية على رأس مؤسسات اليمن الجمهوري، وفي مقدمتها الجيش والشرطة والمخابرات، وفي الوزارات والسفارات والبعثات الدبلوماسية وغيرها.
انتظر الإماميون الجدد الفرصة المناسبة كي يعلنوا عن أنفسهم وعن مشروعهم الجديد القديم، القائم على فكرة الهادي ونظريته القائلة بحصر الحكم في البطنين، وكان ظهور جماعة الحوثي قبل نحو عشرين سنة هو التجلي الأبرز لتطبيق الفكرة نفسها، وهو ما تقوله خطابات مؤسسيهم ومنظريهم بما فيهم العلماء والساسة الذين طبقوا مبدأ ” التقية”، فأعلنوا قبولهم بالنظام الجمهوري ومبادئ الثورة اليمنية والتجربة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وكل ذلك كان لفترة زمنية معينة، أعقبها ظهورهم إلى جانب المسلحين القادمين من جبال صعدة. تجمعهم الفكرة نفسها والنظرية ذاتها، التي أطلقها يحيى بن الحسين قبل أكثر من ألف ومائة عام، وظلت اليمن – ولا زالت، مسرحاً للصراعات الدامية والحروب الطويلة.
وعندما ظهرت حركة الحوثي من خلال أنشطة المؤسس حسين بدر الدين الحوثي وخطاباته وأدبياته المعروفة بـ”الملازم”، تبين أن الحركة الجديدة ليست سوى نسخة مكررة لفكرة الهادي ونظرية حصر الإمامة بالبطنين، خاصة وأن الحوثيين أحيوا النظرية الهادوية بركنيها: الإمامة والخروج (الجهاد)(27)” .
وتشير الدروس التي ألقاها حسين الحوثي إلى أن حركته تهدف إلى استعادة ما يَرى أنه حق أهل البيت في ولاية أمر المسلمين، باعتبار ذلك اختياراً إلهياً ليس للناس فيه يد ولا خيار، ولا سبيل إلى خلاص الأمة مما هي فيه إلا إذا اجتمعت تحت راية أهل البيت، وذلك لا يتم إلا بعودة “حق الولاية” المطلق إليهم(28) . ويزعم أن الخلفاء الراشدين، ومن أيّدهم من الصحابة سلبوا أهل البيت ذلك الحق، وتعاقب الخلفاء على ظلمهم وإقصائهم حتى اليوم، مما تسبب في ضعف الأمة وهوانها وانهزامها أمام أعدائها، مشيراً إلى أن خلاص الأمة وعزتها لا يمكن أن يكون إلا على يد أهل البيت (29).
الهوامش:
- حسن خضيري أحمد، قيام الدولة الزيدية في اليمن، ط1، (القاهرة: مكتبة مدبولي 1996)، ص133.
- أحمد الكاتب، تطور نظرية الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، (بيروت: دار الجديد، 1998)، صـ31.
- محمد لطفي السيد، التحولات الفكرية في عقائد الزيدية، مجلة الدراسات العربية،(كلية دار العلوم بجامعة المنيا)، المجلد 46، العدد 3، يونيو 2022، صـ1422.
- محمد يحيى عزان، قراءة في نظرية الإمامة عند الزيدية، مجلة المسار، العدد 9، سبتمبر 2002، منشورة على الإنترنت في الرابط: https://drive.google.com/file/d/102Kh9tuKXTKbpKxHC2gadogcUlb3A2ii/view (شوهد بتاريخ 15 يناير 2023).
- محمد لطفي السيد، التحولات الفكرية في عقائد الزيدية، مرجع سابق، صـ1422.
- محمد يحيى عزان، قراءة في نظرية الإمامة عند الزيدية، مرجع سابق.
- ينظر: محمد لطفي السيد، التحولات الفكرية في عقائد الزيدية، مرجع سابق، صـ1420.
- يحيى بن الحسين، الأحكام في الحلال والحرام، الجزء الأول، ط3، (صعدة، اليمن: مكتبة أهل البيت، 2016)، صـ28.
- المرجع نفسه، صـ33.
- المرجع نفسه، صـ34.
- أحمد محمد الحاضري، تاريخ الأئمة الهادويين في اليمن، (اليمن: 2013)، صـ23.
- محمد يحيى عزان، مرجع سابق.
- عبدالكريم أحمد جدبان (تحقيق)، مجموع رسائل الإمام أحمد بن الحسين، (صعدة: مكتبة التراث الإسلامي، 2003)، صـ77.
- المرجع نفسه، صـ78.
- عبدالله عبدالوهاب الشماحي، اليمن الإنسان والحضارة، ط3، (بيروت: منشورات المدينة، 1985)، صـ116.
- المرجع نفسه، صـ115.
- محمد لطفي السيد، التحولات الفكرية، مرجع سابق، صـ1430.
- عبدالسلام الوجيه (تحقيق)، مجموع رسائل الإمام عبدالله بن حمزة، (صنعاء: مؤسسة الإمام زيد، د.ت.ن) صـ37.
- المرجع نفسه، صـ56.
- علي محمد زيد، معتزلة اليمن دولة الهادي وفكره، (بيروت: دار العودة، 1981)، صـ37.
- محسن العيني، معارك ومؤامرات ضد قضية اليمن، (القاهرة: دار الشروق، 1999)، صـ80.
- فؤاد مسعد، مستقبل الهاشميين في اليمن، مركز أبعاد للدراسات، سبتمبر 2022.
- محسن العيني، معارك ومؤامرات ضد قضية اليمن، مرجع سابق، صـ80.
- فؤاد مسعد، ستة عقود من انعدام الاستقرار، مركز أبعاد للدراسات، مايو 2020.
- عبدالكريم جدبان، مجموع رسائل الإمام أحمد بن الحسين، مرجع سابق، صـ78.
- المرجع نفسه، صـ79.
- زايد جابر، الهادوية والحوثية، مركز أبعاد للدراسات، فبراير 2018.
- محمد أبو رأس، قراءة لنشأة الحوثية وأهدافها، دراسة نشرها مركز الجزيرة للدراسات، على الرابط: https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2009/201172110593234241.html (شوهد في 13 يناير 2022).
- فؤاد مسعد، مستقبل الهاشميين، مرجع سابق.