آثار

تعريف الحذاق بعلماء العراق

(وفيات 1200 هـ - ....) علي علاء الدين الآلوسي (1)

منذُ بدايتي في عَالمِ القراءة، وأنا أقرأ لغير أهل العراق. وقد ترسَّخت لديَّ حقيقة ثابتة أنَّ علماء العراق ذهبوا منذ العصر العباسي، وما أن كبرتُ واشتدَّ عودي قليلًا حتى تفاجأتُ باسم “الآلوسي” مجرَّدًا. فمزجتُ أول أيامي بين الجدِّ أبو الثَّناء والحفيد محمود شكري؛ لجهلي، ثمَّ لما تبيَّنَ لي الفرق أخذتُ أسير متبخترًا أتمايلُ هنا وهناك بأني أدركتُ علماء العراق. ثمَّ تفاجأتُ بكتابٍ يحمل اسم أعلام العراق لمؤلفه محمَّد بهجة الأثري، فأخذتُ أبحثُ عن سيرة الأثري هذا. وكنتُ أظنُّ أني سأجده معاصرًا لأشد الرجال له لأنه العارف بعلماءِ العراق؛ ففوجئتُ عندما رأيتُ المنية هاجمته وحرمتنا من أنفاسه، فأخذتُ كتابه وقرأته ولم يذهب عني شعور التَّبختر، بل زدتُ عَجَبًا عندما أدركتُ أنَّ الأسرة الآلوسية أسرة ثرية بالعلماء. والنَّاس إن كانوا يورثونَ الأموال؛ فالآلوسيون يورثونَ المعرفة لذراريهم فجعلتُ حدًّا فاصلًا بيني وبين كل عراقي أراه فإن كانَ يعرفُ الآلوسيين فبهما ونعمت، ومن لم يعرفهم نظرته بعين الازدراء، فكيف بعراقيٍّ لا يعرفُ علماء بلده؟ وظلَّ هذا حالي حتى توسَّعت مداركي وتنوعت مداخلي المعرفية، وبحثت أكثر عن علماءِ العراق فوجدتهم كثرًا جدًّا، ولا يسعنا حصرهم فمنهم المدرس والآلوسي والسهروردي والأعظمي، وعدد كبير لا يسعنا ذكرهم بتمامهم.

ظلت الأسئلة دومًا تحومُ حولي:

لماذا لم نعرفهم؟ لماذا لم نسمع بهم؟ لماذا لم نقرأ لهم؟

ظلت هذه الأسئلة تثيرني -المرة بعد المرة- للبحثِ عن أسماءِ علمائنا، خصوصًا في الحقبةِ الزَّمنية الأخيرة. هل هذه سنَّة من السُّنن الكونية بحقِّ علماء العراق، أي حقهم النسيان واندثار أثرهم وآثارهم، فتجد القاضي عبد الوهاب المالكي يشكو حاله في بغداد، وهو شيخ المالكية آنذاك:

بغدادُ دارٌ لأهل المال طيبةٌ 

وللمفاليس دار الضنك والضيقِ 

ظللتُ حيران أمشي في أزِقتها 

كأنني مصحفٌ في بيت زنديقِ!

ففتشتُ عن بواعث اندثار ذكر علماء العراق، فوجدت:

1. الجهل الذي يحيط بنا عن علمائنا، وقلة رغبتنا عن البحث في آثارهم وسِيرهم. 

2. قصور بعض تلاميذ العلماء عن إحياء تراث مشايخهم، بالتَّحقيق، والتعريف بهم، عن طريق النَّدوات التأبينية، للوقوف على مآثرهم. 

3. الظروف الزَّمانية التي أحاطت بعلمائنا، فلم تتح لهم الفرصة في بثِّ علومهم.

هذه مجمل الأسباب الباعثة. وحتى لا نصطف مع الصَّف الذي لا يخرج بيديه سوى البكاء والعويل كالأرامل على علماءِ بلده وإلقاء اللوم على الآخرين؛ قررتُ أن أعمل على تراجم علمائنا، لا على تسلسل أبجديٍّ منظَّم ولا على الوفيات؛ لأنَّ العلماء يتفاوتون بشهرتهم فأردتُ التَّعريف بهم كذلك متفاوتين، مسلطًا الضوء على من لم يأخذوا حظَّهم من الشُّهرة. وهنا أتقدَّم بالشُّكر للأستاذ الفاضل خالد بُرَيه -وفقه الله- على إتاحته مجلته “حكمة يمانية”، لتكون موطنًا لذكر تراجِم علمائنا لمن يكسل عن الرجوع للمصادر الخاصة بالتراجم.

اسمه ونشأته:

هو الشَّيخ الأديب والسَّيد الأريب، سليل بيت العلم القاضي علي علاء الدين بن نعمان خير الدِّين بن أبي الثناء محمود بن عبدالله الحسيني الآلوسي، ولد في بغداد، بشهر شعبان، لعام 1278 هـ الموافق لعام 1861 م، نشأ في بيئةٍ علمية ثرة بأنواع المعارف، وتلقى مبادئ التَّعليم الأولية على يد والده العلامة نعمان، وعلى يد ابن عمه العلامة محمود شكري الآلوسي، وكذلك أعلام عصره مثل العلامة إسماعيل أفندي الموصلي، وكذلك أخذ الخط عن والده، وكان خطَّاطًا ماهرًا، يجيد الخطَّ بضروبه: “النسخ والثلث” وكان يكتب على قاعدة خط “النَّسْتَعْلِيْق”، كما كان يكتب على قاعدة عربية أيضًا.

رحلاته وتوليه للقضاء:

سافر مع والده في مقتبل عمره للحج، وسافر إلى الآستانة عدة مرات مع والدهِ، وتعلم عدة لغات منها اللغة التركية واللغة الفارسية، وأتقن الأولى ونظم بها الشعر، وانتظم في مدرسة القضاة هناك، ونال منها الشَّهادة.

سافر الشَّيخ إلى الهند بأمرٍ من والده للسَّعي لطباعة مؤلفاته وباقي مؤلفات الأسرة الآلوسية. فسكنَ بضيافة الشَّيخ أبو الطيب محمد صديق بن حسن خان القنوجي البخاري، لمدة سبعة عشر يومًا. وقد حقَّقَ مطلبه بطباعة بعض الكتب وقرأ عليه الشَّيخ علي علاء الدين، وأجازه إجازة عامة بكل ما صحَّ عنه. وكذلك أخذ عن الشيخ القاضي حسين بن محسن السبعي الأنصاري، وقد قرأ عليه وأجازه إجازة عامة بكل ما صح عنه في عام 1299 هـ.

زواجه:

تزوج الشيخ مرتين؛ أما المرة الأولى فتزوج من آل الكهية أحد الأسر البغدادية وولدت له منهم أطفالًا، لم يلبثوا طويلًا حتى خطفتهم المنية ولحقتهم أمهم بعد مدة. ثم تزوج تركية أنجب منها علية توفيت وهي في عامها الثاني. ثم أردفتها ببنتين الأولى ليلى والأخرى رابعة، وكذلك الأستاذ المحقِّق جمال الدِّين الآلوسي.

WhatsApp Image 2024 03 14 at 10.22.25 PM تعريف الحذاق بعلماء العراق

توليه للتدريس وبعض من تخرج عليه:

لما توفي والده في عام 1317 هـ، خلف والده للتدريس وأبلى بلاءً حسنًا في جامع الشيخ صندل في الكرخ، ومدرسة مرجان الشهيرة في الرصافة، وتخرَّج عليه خلق كثيرون أشهرهم الشيخ محمد بهجة الأثري، والشيخ محمد بن عبد العزيز المانع النجدي، والشيخ إبراهيم محمد ثابت الآلوسي، والشيخ عبد العزيز بن أحمد الرشيد الكويتي، والشيخ علي بن حسين الكوتي، والشيخ عبد اللطيف الثنيان، والأستاذ منير القاضي، والأستاذ عباس العزاوي، والأستاذ محمد علي الهاشمي.

منهجيته في التدريس ومعتقده:

نقل لنا تلميذه البار الشيخ محمد بهجة الأثري -وهو العمدة بأخبار الأسرة الآلوسية- منهجية شيخه في التدريس. قال في أعلام العراق صـ72:

(ثمَّ له ميزة أخرى هي غاية في الحسن، وهي حيدانه عن الجادة المَعُودة في التدريس عند المشايخ، ونبذه كتب الأعاجم ذوات الحواشي والأذناب والذيول وراءه ظهريًّا، ثمَّ انفراده بين القوم في حسن الإلقاء، وتقريب المسائل من الإقبال بأسلوب غريب).

وقال أيضًا في أعلام العراق صـ72: (كتب لي بعد أن انضممت في سلك أهل العلم أن ألازم الرجل، وآخذ عنه زهاء ستة أشهر. فاستفدت في هذه المدة من علمه الغزير وتقريره البديع وتشجيعه العجيب، ما لا أكاد أستفيده من غيره في سنين).

أما معتقده يقول الأثري في أعلام العراق صـ72: (لذلك كان الجامدون يشنعون عليه وينبزونه بالوهابية).

دخوله معترك السياسة وتوليه القضاء:

كانت السياسة فتنة العلماء منذ سالف الأزمنة؛ فمنهم من سلك فيها وهلك، ومنهم من هرب بنفسه خشية الفتنة، ومنهم من سلك فيها مسلكًا حسنًا فكان يطابق تعاليم الشريعة مطابقة الشخص لظله. ومن هؤلاء السيد علي علاء الدين الآلوسي؛ فقد حاز ثقة أهل العراق وانتخبوه ليكون ممثلًا عنهم لما عرف عنه من بديع الخصال، لما صار الدستور والمجلس النيابي في الآستانة. وفي أثناء الحرب العالمية ابتعثته الحكومة ليذهب برفقة ابن عمه محمود شكري إلى الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود لغرض من أغراض السياسة. فسافر عن طريق سوريا فالحجاز، وقد احتفى به الملك وأهل بلاده بما يليق بمقام العلماء.

عمل قاضيًا في فلسطين وبعلبك، ثم عند عودته للعراق 1335 هـ، في زمن الاحتلال البريطاني أرغم على القضاء. ونظم في هذا:

إن القضاءَ هو البلاءُ فلا تكُنْ 

متعرِّضًا فتصابَ من سوءِ القضا 

وإذا ابتُلِيت بهِ على كرهٍ فخُذْ 

نهجَ العدالة إنها سببُ الرِّضا 

والله عونُ الحق ينصر أهله 

ويُذِلُّ مَن ضم الحقوق وأعرضا

قال تلميذه الشيخ محمد بهجة الأثري في كتابه أعلام العراق صـ76:

كان عون الضعيف، وملجأ الصريخ، ونصير الحق، لا يَحِيد عنه قِيد شعرةٍ، ولا تأخذه فيه لومة لائم، وإن سُلَّت عليه القواضب المرهفات. وكان أقوى الناس عنده الضعيف، حتى يأخذ الحق له، وأضعفهم عنده القوي حتى يأخذ الحق منه، وكان يستعمل العدل، ويباعد عنه الظلم والجَور، واتفقت له في أيامه أمور تجلى فيه ورعُه وزهده وعفته بأجلى مظاهرها.

ويذكرنا موقفه هذا بمواقف علماء السلف الصالحين الذين رفضوا القضاء وطرق أبواب السلاطين، بل قدحوا بفاعل هذه الأمور، ولكن إن اضطروا كانوا عونًا للمظلوم لا عليه. قد طلب منه ناظر الأوقاف الاشتراك بمسألة الاستملاك، فأجابه أن الشرع الشريف يحظر ذلك؛ فلذلك لا يسعني القيام بما طلبت لا بالذات ولا بإرسال وكيل عني.

الحذاق بعلماء أهل العراق تعريف الحذاق بعلماء العراق

أعماله:

قال تلميذه الشيخ محمد بهجة الأثري في كتابه أعلام العراق صـ77: لم يجد شيخُنا -رحمه الله- في وقته متَّسعًا يُؤلِّف فيه ويكتب إلا سوانح نزرة جدًّا، جاد بها الدهر، فكتب فيها وشعر، ولم يدعها تذهب سدًى، ولو تخلى عن المناصب وترك السياسة جانبًا، لخلَّد آثارًا رائعة ينتفع بها رواد الآداب جيلًا.

وقد تعددت مؤلفاته بعدة موضوعات:

1. الدر المنتثر في رجال القرن الثاني والثالث عشر، بتحقيق: جمال الدين الآلوسي وعبد الله الجبوري – نشر ببغداد 1967 م، طبع وزارة الأوقاف. 

2. نظم الآجرومية في النحو، طبع في المطبعة الأدبية ببيروت 1318هـ. 

3. ترجم رسالة سي فصل، فارسي في معرفة التقويم، ترجمة وشرح لأصله العربي المختصر الذي هو كترجمته، كلاهما للخواجة نصير الدين الطوسي، طبع مع “بيست باب” لملا مظفر بطهران 1271، ومع “مدخل منظوم” لحبيب، في 1276، ومع “خلاصة الحساب”، و”هيئت فارسي”، في 1275، وبعدها مكررًا، وتوجد له نسخة خطية في المتحف العراقي. 

4. ونظم سور القرآن (أرجوزة في 43 بيتًا) ذكرت في تحقيق الدر المنتثر. 

5. فوائد وتعليقات في النحو مخطوط في مكتبة الأوقاف العامة العراقية تحت رقم 6514. 

6. منظومة في علاقات المجاز. 

7. منظومة في الضاد والظاء
وكلاهما مخطوطة في مجموع بخزانة عباس العزاوي.

8. تعليقات على كتاب والده سلسل الغانيات. 

9. له العديد من الأشعار المنثورة جمعها تلميذه محمد بهجة الأثري ونشر بعضها في كتاب أعلام العراق. ومنها مخطوطة في خزانة السيد إبراهيم الآلوسي. وله مجاميع عديدة تحوي فوائد وتراجم.

تحقيقاته:

1. التوحيد لجعفر الصادق. 

2. غاية السول في سيرة الرسول ﷺ. 

3. نقد مقامات الحريري لابن الخشاب وانتصار ابن بري للحريري. 

4. الحباء في الإيصاء لوالده نعمان الآلوسي.

وفاته:

يذكر تلميذه الشيخ محمد بهجة الأثري، في كتابه أعلام العراق صـ76-77 نبأ وفاة شيخه، فيقول:

بقي في منصب القضاء، وقد صلح بقضائه وعدله العباد، وانحسم الشر والفساد إلى حين إصابته بالفالج عام 1338. وحاول أن ينفصل عن منصبه ليأخذ قسطًا من الراحة ومن أعباء القضاء، فلم يُسمَح له؛ لصلاح الأحوال به وبعدله، (ولَمَّا اشتدت عليه وطأة الفالج، وعسرت عليه مباشرة الأمور سُمِح له بإقامة وكيل عنه، على ألا يبتَّ الوكيل في أمر حتى يشاوره، ويأخذ منه القول الفصل، ولم يزل به الداء حتى اخترمته المنية، ليلة السبت ثامن جمادى الأولى عام 1340. فجلَّ خَطبُه، وعظُم مصابه، وعمَّ الحزن جميع عارفي فضله في الأقطار والأمصار، واحتفل بتشييع جنازته احتفالاً مهيبًا، مشى فيه العلماء والحكام والأعيان، وممثل للمَلِك، وممثل للمندوب، ودُفِن في مدرسة مرجان؛ حيث كان يلقي دروسه على تلاميذه الكثيرين في جوار قبر أبيه، تحت القبة، مقابل الباب، رحمة الله عليه. وقد نعَتْه الجرائد، وابنته، كما بكَتْه الشعراء والأدباء، ورَثَته، وكنتُ رثَيْتُه بمرثاةٍ مشجية انتهبتُها من أيدي الضياع، وهو لَعَمري جديرٌ بكل رثاء وإطراء وثناء.

وماذا يقول المادحون بوصفه

وأوصافُه جلَّت عن العد والحصرِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى