نواصل في هذا الجزء الحديث عن الأكاذيب التي أسست لفكرة الإمامة السلالية العنصرية وكل ثمراتها العقيمة التي التي ابتلي بها اليمنيون منذ 1200 سنة وما تزال.
ه/ أكذوبة بغض أهل رسول الله ﷺ
وهذه الأكذوبة من أخطر أساليب العنصريين السلاليين في اليمن ونهجهم في بث الأكاذيب واتهام الصحابة الكرام وجمهور الأمة المسلمة من صدر الإسلام إلى اليوم؛ الرافضين لمنهجهم الإبليسي وخرافاتهم المذهبية وانحرافاتهم العقدية؛ بأنهم نواصب مبغضون لأهل النبي الكريم ﷺ ومحاربون لعلي بن أبي طالب وذريته ومعادون لهم ومستحلون لدمائهم مغتصبون لحقهم في الخلافة، ومنكرون لفضائلهم ومحاربون لكل من يذكرهم بالخير والفضل ولا سيما في الأحاديث النبوية.
وكما نرى فإنها هي تهمة خبيثة المقصد تعكس فجور القوم في الخصومة، وتلعب على وتر جهل العامة وعواطفهم تجاه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ومحبتهم له (1) ، وتستغل حالة الأمية الدينية في تنفيرهم من دعاة الخير والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواجهة مظالم الأئمة في حق الرعية وتلاعبهم بالمال العام وتسخيره لخدمة مطامعهم وأهوائهم وحروبهم بين بعضهم بعضا التي أهلكت الحرث والنسل. وقد تفننت السلالة في ابتكار أساليب الدجل وتزييف وعي العامة من خلال ثقافة سلالية عنصرية وتعاليم مذهبية متعصبة وحملات ممنهجة نفذها أنصاف فقهاء أطلقتهم في كل مكان ومناسبة لسرد أحاديث وقصص مزورة عن مبغضي أهل البيت وذرية رسول الله ﷺ.
وللمقارنة فهذه الأساليب ليست بدعا في تاريخ الجماعات البشرية العنصرية فهي أشبه بدعايات الحركة الصهيونية اليهودية ضد رافضيها تحت مبدأ معاداة السامية التي صارت سيفا مصلتها على رأس كل من يرفض جرائم الصهاينة اليهود، ووضعت لها قوانين صارمة ترهب كل من يفضح حقائق العنصرية اليهودية وجرائمها في حق الشعب العربي الفلسطيني مسلمين ومسيحيين على حد سواء. وهي كذلك أشبه بدعايات العنصريين النازيين في تاريخ ألمانيا الهتلرية وجنوب أفريقيا العنصرية وأمريكا العنصرية في جرائمها ضد سكان أمريكا الأصليين والأفارقة (رجالا ونساء وأطفالا) الذين جلبوهم خطفا بالملايين من بلادهم وحولوهم إلى عبيد وسخروهم لبناء أمريكا في إحدى أسوأ الجرائم اللا إنسانية في تاريخ البشرية. فكل هذه العنصريات قديمها وجديدها اعتمدت أساليب الكذب في تزوير التاريخ وتشويه الحقائق والخصوم بالدعايات السوداء.
وقبل أن نبدأ في سرد تفاصيل أبرز هذه الأكاذيب المسمومة ومناقشتها فقد كان من المهم أن نثبت أولا حقائق أوضح من ضوء الشمس عن آراء وشهادات الصحابة الكرام وعلماء أهل السنة في أهل النبي الكريم ﷺ وخاصة زوجاته وبناته وعليّ وذريته رضوان الله على الجميع. وهي شهادات تفضح حقيقة هؤلاء العنصريين أمام التاريخ وأمام أتباعهم المغرر بهم.
أولا/ الصحابة وأهل بيت رسول الله ﷺ (2)
أجمع العلماء فيما يتعلّق بمودّة آل البيت، ومحبّتهم، بل ورد الاتِّفاق على ذلك؛ وعلى أهمية مكانتهم عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون قدر أهل البيت، وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، ويحفظون وصية رسول الله فيهم، لأنّ محبّتهم فرعٌ من محبّته صلى الله عليه وسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (أذكركم الله في أهل بيتي).(3) ففي الصحيح عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه: (ارقبوا محمدا في آل بيته)(4)، وقال رضي الله عنه:(صلة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من صلة قرابتي)(5).
وروى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا)، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ.(6)
وفي تفسير ابن كثير لآيات الشورى: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: ( وَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إليَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ).(7)
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي وتهذيب التهذيب لابن حجر في ترجمة العبَّاس: ( وروي أن العباس بن عبد المطلب لم يمر بعمر ولا بعثمان وهما راكبان إلا نزلا حتى يجوز العباس إجلالا له، ويقولان: (عم النبي صلى الله عليه وسلم).(8)
قال ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية في بيان عقيدة أهل السنة: وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ. وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: (أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي).(9)
وفي كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: (إنَ عمر بنَ الخطاب رضي الله عنه لَمَّا وضع ديوان العَطاءِ كتب الناسَ على قَدرِ أنسابِهم، فبدأ بأقربِهم فأقربهم نسباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا انقضت العربُ ذكر العَجَم، هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين، وسائر الخلفاء من بَنِي أُميَّة ووَلَدِ العباس إلى أن تغيَّر الأمرُ بعد ذلك). (10) وقال أيضاً: (وانظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وضع الديوان، وقالوا له: يبدأ أميرُ المؤمنين بنفسِه، فقال: لا! ولكن ضَعُوا عمر حيث وضعه الله، فبدأ بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ مَن يليهِم، حتى جاءت نوبَتُه في بَنِي عديٍّ، وهم متأخِّرون عن أكثر بطون قريش).(11)
ثانيا/ عقيدة أهل السنة في آل البيت
تتلخص عقيدة أهل السنة في آل البيت في أنهم يحبون المؤمنين منهم، ويرون أن المؤمن من آل البيت له حقان: حق الإيمان، وحق القرابة. ويرون أنهم ما شرفوا إلا لقربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس هو الذي شَرُف بهم، ويتبرؤون من طريقة من يغالون في حبهم، كالذين رفعوا بعضهم إلى مقام العصمة، يتبرؤون كذلك من طريقة المبغضين الذين يسبونهم ويكفرونهم، ويحفظون فيهم وصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويرون أنهم على مراتب ومنازل، وأنهم وإن تميزوا فلا يعني أن لهم الفضل المطلق على غيرهم في العلم والإيمان، فالثلاثة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، أفضل من علي، وإن امتاز عنهم بخصوصيات. ويرون تعظيم قدر أزواجه رضي الله عنهن، والدعاء لهن، ومعرفة فضلهن، والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين.
فضائِلُ أهْلِ البَيتِ ومحبتهم في كتب السُّنَّةِ
وردت عِدَّةُ أحاديثَ في كتب أهل السنة تُبَينُ فضائِلَ ومناقِبَ أهْلِ البَيتِ عُمومًا؛ منها:
1- عن واثِلةَ بنِ الأسقَعِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: (إنَّ اللهَ اصطفى كِنانةَ مِن وَلَدِ إسماعيلَ، واصطفى قُرَيشًا مِن كنانةَ، واصطفى من قُرَيشٍ بني هاشِمٍ، واصطفاني من بني هاشِمٍ).
2- عن زيدِ بنِ أرقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا خطيبًا فينا بماءٍ يُدعَى خُمًّا بين مكَّةَ والمدينةِ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه وذَكَّر ووَعَظ، ثُمَّ قال: ( أمَّا بَعْدُ، ألا أيُّها النَّاسُ إنَّما أنا بَشَرٌ يُوشِكُ أن يأتيَني رسولُ رَبِّي عزَّ وجَلَّ، وإني تارِكٌ فيكم ثَقَلَينِ: أوَّلُهما كتابُ اللهِ عزَّ وجَلَّ فيه الهُدى والنُّورُ، فخُذوا بكتابِ اللهِ واستَمسِكوا به فحَثَّ على كتابِ اللهِ ورغَّب فيه، وقال: (وأهلُ بيتي: أذكِّرُكم اللهَ في أهلِ بيتي، أذكِّرُكم اللهَ في أهلِ بيتي). قال الطِّيبي: (قولُه: أُذَكِّرُكم اللهَ في أهلِ بيتي أي: أحَذِّرُكم اللهَ في شأنِ أهلِ بيتي، وأقولُ لكم: اتَّقوا اللهَ، ولا تؤذوهم، فاحفَظوهم، فالتذكيرُ بمعنى الوَعظِ).(12)
3- عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (والذي نفسي بيَدِه، لا يُبغِضُنا أهْلَ البَيتِ رجلٌ إلَّا أدخَلَه اللهُ النَّارَ)(13). قال المناوي: (بُغْضُهم يُوجِبُ النَّارَ، كما جاء في عِدَّةِ أخبارٍ، كيف وهم أبناءُ أئِمَّةِ الهُدى ومصابيحِ الدُّجى الذين احتجَّ اللهُ بهم على عبادِه، وهم فُروعُ الشَّجَرةِ المُبارَكةِ وبقايا الصَّفوةِ الذين أذهب عنهم الرِّجسَ وطَهَّرهم وبرَّأَهم من الآفاتِ، وافترض مودَّتَهم في كثيرٍ مِنَ الآياتِ).
وممَّا ذكَرَه أهلُ العِلمِ في شأنِ أهلِ بَيتِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:(14)
4 – قال أحمدُ بنُ حَنبَلٍ: (أجمع تسِعونَ رَجُلًا من التابعينَ، وأئمَّةِ المُسلِمين، وأئمَّةِ السَّلَفِ، وفُقهاءِ الأمصارِ، على أنَّ السُّنَّةَ التي توفِّيَ عنها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:… الترَحُّمُ على جميعِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى أولادِه وأزواجِه وأصهارِه، رِضوانُ اللهِ عليهم أجمعينَ. فهذه السُّنَّةُ الزَموها تسْلَمُوا، أخذُها هُدًى، وتركُها ضلالةٌ).
5- قال جمالُ الدِّينِ الغزنويُّ: (نحن نحِبُّ أهلَ بَيتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وأزواجَه وذُرِّيَّاتِه وقراباتِه، والصَّحابةَ أجمعينَ، ونَذكُرُهم بالخيرِ، ونُثني عليهم، وندعو لهم بالخيرِ، ونترحَّمُ عليهم، ولا نُفرِطُ في حُبِّ أحدٍ منهم، ولا نتبرَّأُ مِن أحَدٍ منهم، ونحِبُّ مَن يحِبُّهم، ونُبغِضُ من يُبغِضُهم، ومن ذَكَرَهم بسُوءٍ فهو على غيرِ السَّبيلِ، وحُبُّهم دينٌ وإيمانٌ، وبُغضُهم كُفرٌ وطُغيانٌ، ونحسِنُ القَولَ فيهم، ونَسكُتُ عما جرى بينهم، رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعينَ).
6- قال ابنُ تَيميَّةَ: (لا رَيْبَ أنَّ محبَّةَ أهلِ بَيتِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واجبةٌ… بل هو ممَّا أمَرَنا اللهُ به، كما أمَرَنا بسائِرِ العباداتِ).
7 – قال ابنُ كثيرٍ: (لا تُنكَرُ الوَصاةُ بأهْلِ البَيتِ، والأمرُ بالإحسانِ إليهم، واحترامُهم وإكرامُهم؛ فإنَّهم من ذُرِّيَّةٍ طاهرةٍ؛ من أشرَفِ بَيتٍ وُجِدَ على وجهِ الأرضِ فَخْرًا وحَسَبًا ونَسَبًا، ولا سِيَّما إذا كانوا متَّبِعينَ للسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ الصَّحيحةِ الواضِحةِ الجَلِيَّةِ، كما كان عليه سلَفُهم، كالعبَّاسِ وبَنِيه، وعليٍّ وأهلِ بَيْتِه وذُرِّيَّتِه، رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعينَ).
8- قال عَبدُ اللهِ بنُ محمَّدِ بنِ عَبدِ الوَهَّابِ في الرَّدِّ على افتراءاتِ الشِّيعةِ: (إنَّ هذا كَذِبٌ على أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، لا يمتَري فيه أحَدٌ عَرَف مَذهَبَهم، وطالَعَ كُتُبَهم؛ فإنَّهم لم يَنحَرِفوا عن أهْلِ البَيتِ، بل من أُصولِ الدِّينِ عِندَهم: محبَّةُ أهْلِ البَيتِ النَّبَويِّ، ومُوالاتُهم، والصَّلاةُ عليهم في الصَّلاةِ وغَيرِها).
9- قال أبو المعالي الألوسيُّ: (إنَّ محبَّةَ أهْلِ البَيتِ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم من الواجِباتِ عِندَنا معاشِرَ أهلِ السُّنَّةِ؛ لِما سبق من الأخبارِ الصَّحيحةِ والآثارِ الرَّجيحةِ؛ فإنَّهم الذين يتميَّزُ بحُبِّهم إيمانُ المرءِ مِن نِفاقِه، والذين وَرِثوا النُّورَ المُبِينَ عمَّن خَصَّه اللهُ تعالى بإشراقِه… واعلَمْ أنَّ المحبَّةَ بالاتِّباعِ لا بالابتِداعِ؛ قال تعالى: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تَحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ] آل عمران: 31.
10- وفي كتابه مسائل لخصها قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ( لآله ﷺ على الأمة حق لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحق سائر قريش..).
11- قال العلامة الشيخ ابنُ باز: (… وهكذا يُقالُ للشِّيعةِ: نحن معكم في محبَّةِ أهْلِ البَيتِ ومحبَّةِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه وأرضاه؛ فإنَّه ومن سار على نهْجِه على هُدًى، وإنَّه من خِيرةِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بل هو أفضَلُهم بعد الصِّدِّيقِ وعُمَرَ وعُثْمانَ رَضِيَ اللهُ عنهم جميعًا، ولكِنْ لَسْنا معكم في أنَّه معصومٌ، ولسْنا معكم في أنَّه الخليفةُ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل قبله ثلاثةٌ، ولَسْنا معكم في أنَّه يُعبَدُ منِ دُونِ اللهِ ويُستغاثُ به ويُنذَرُ له، ونحوِ ذلك، لَسْنا معكم في هذا؛ لأنَّكم مخطِئون في هذا خطأً عظيمًا، لكن نحن معكم في محبَّةِ أهْلِ البَيتِ المُلتَزِمينَ بشَريعةِ اللهِ، والترضِّي عنهم، والإيمانِ بأنَّهم من خِيرةِ عِبادِ اللهِ؛ عَمَلًا بوَصِيَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيث قال في حديثِ زَيدِ بنِ أَرقَمَ المُخَرَّجِ في صَحيحِ مُسلِمٍ: (إنِّي تارِكٌ فيكم ثَقَلينِ: أوَّلُهما كتابُ اللهِ فيه الهُدى والنُّورُ، فخُذوا بكِتابِ اللهِ وتَمَسَّكوا به…)) ثُمَّ قال: (وأهلُ بيتي، أُذَكِّرُكم اللهَ في أهلِ بَيتي، أذَكِّرُكم اللهَ في أهلِ بَيتي) .
12 – قال العلامة ابنُ عُثَيمين: (من أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّهم يحبُّون آلَ بَيتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ يُحِبُّونَهم لأمرَينِ: للإيمانِ، وللقَرابةِ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يَكرَهونهم أبدًا. ولكِنْ لا يقولونَ كما قال الرَّافِضةُ: كُلُّ من أحَبَّ أبا بكرٍ وعُمَرَ فقد أبغض عليًّا! وعلى هذا فلا يمكِنُ أن نحِبَّ عَلِيًّا حتَّى نُبغِضَ أبا بكرٍ وعُمَرَ! وكأنَّ أبا بَكرٍ وعُمَرَ أعداءٌ لعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ! مع أنَّه قد تواتر النَّقلُ عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان يُثني عليهما على المِنْبَرِ. فنحن نقولُ: إنَّنا نُشهِدُ اللهَ على محبَّةِ آلِ بَيتِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقرابتِه؛ نحِبُّهم لمحبَّةِ اللهِ ورَسولِه).
ثالثا/ مكانة أهل البيت لدى الإمام أحمد (15)
ويخص دعاة السلالة العنصرية في اليمن وغيرها لدواع سياسية ومذهبية المذهب الحنبلي وعلماء الحنابلة بقسط خاص من أكاذيبهم اتهاما لهم ببغض أهل بيت النبي الكريم ﷺ وأن مذهبهم هو مذهب قرن الشيطان. ومن الثابت أن الإمام أحمد كان يجل أهل البيت ويعرف قدرهم ويعلم حقهم فلقد كان يوليهم جميل الرعاية وحسن العناية، وفي كتابه العظيم «المسند» قام بجمع ألوف الروايات عن الصادق المصدوق ﷺ فبدأ بذكر أسانيد الخلفاء الراشدين عن سيد المرسلين، ويلاحظ أن أسانيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه تفوق في عددها مجموع أسانيد أبي بكر عمر عثمان رضي الله عنهم أجمعين، وعدد أحاديث مسند أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم مجتمعين هو 561، أما مسند علي رضي الله عنه فيبدأ من الحديث 562 الى الحديث 1380، فيكون بذلك عدد أحاديث علي رضي الله عنه 818 حديثا، ثم قام بوضع أسانيد لأهل البيت وكما ابتدأ مسنده بسيدنا أبي بكر فقد ختمه بحديث عن أهل البيت.
وروى الامام أحمد في مسنده حادثة الكساء المشهورة في أكثر من موضع، وفي أكثر من رواية منها ما هو مطول ومنها ما هو مختصر. ومن معالم اهتمام أحمد بن حنبل بأهل البيت، مصنفاته التي أفردها في بيان تراثهم الحديثي وفضلهم فقد قام الإمام أحمد بإفراد أجزاء من (المسند) تعنى بأهل البيت منها:
1- مسند أهل البيت.
2 – فضائل أهل البيت.
ومن ذلك أنه سمى أبناءه تيمناً بأهل البيت، فقد سمى ابنة له زينب، وسمى توأمين له الحسن والحسين ومن ذلك موقفه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو من أعيان بل من أفضل آل البيت. فعن أبي العباس بن مسروق، قال: أخبرني عبدالله بن أحمد بن حنبل، قال: كنت بين يدي أبي جالساً ذات يوم، فجاءت طائفة من الكرخية فذكروا خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان فأكثروا، وذكروا خلافة علي بن أبي طالب فزادوا، وأطالوا، فرفع أبي رأسه اليهم فقال: يا هؤلاء، قد أكثرتم القول في علي والخلافة، إن الخلافة لم تزين علياً بل علي زينها.
وعن هشام بن منصور البُخاري، يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: من لم يُثْبت الامامة لعلي، فهو أضل من حِمار أهله. وقال حنبل، قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: خلافة علي عليه السلام هل هي ثابتة؟ فقال: سُبحان الله! يقيم عليّ الحدود، ويقطعُ، ويأخذ الصدقة ويقسمها بلا حق وجب له! أعوذ بالله من هذه المقالة، نعم خليفة رضيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلوا خلفه، وغزوا معه، وجاهدوا، وحجوا، وكانوا يسمونه أمير المؤمنين، راضين بذلك غير منكرين، فنحن تبعٌ لهم.(16)
رابعا/ مكانة أهل البيت في تراث الحنابلة
وتعظيم أهل البيت وحبهم ومعرفة حقهم من الأمور التي اعتنى بها علماء الشريعة وتتابعوا عليها، ومنهم علماء الحنابلة، وقد حفلت كتبهم بالثناء على آل البيت وبيان منزلتهم، وأفردوا فصولا مستقلة في كتب السنة والعقيدة للكلام عن أهل البيت، وهذه بعض كلماتهم التي نطقت بذلك:
قال البربهاري وهو «شيخ الطائفة في وقته» في كتابه شرح السنة: «وتعرف لبني هاشم فضلهم، لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعرف فضل قريش والعرب، وجميع الأفخاذ، واعرف قدرهم، وحقوقهم في الاسلام، ومولى القوم منهم، وتعرف للناس حقوقهم في الاسلام، وتعرف فضل الأنصار، ووصية رسول الله صلى الله وسلم فيهم، وآل الرسول فلا تسبَّهم، واعرف فضلهم وكراماتهم من أهل المدينة».(17)
وقال تقي الدين ابن تيمية عن عقيدة أهل السنة: ويتبرأون من طريقة الغلاة الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذرون إما مجتهدون ومصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى أنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم. لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه. فاذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا لهم أجر واحد والخطأ مغفور.(18)
وهذا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب الحنبلي، يسمي أبناءه بأسماء أعلام الآل فسمى ثلاثة من أبنائه عليًا وحسنًا وحسينًا، وسمى ابنة له فاطمة… فنعم الاسم والمسمى، فهم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عنهم أجمعين. بل إن كنية الامام محمد بن عبد الوهاب: (أبو حسين).(19)
ونقل ابن قاسم في الدرر السنية جوابا لعلماء الدرعية وهم من الحنابلة، عن سؤال ورد اليهم في جواز نكاح الفاطمية غير الفاطمي، كان الجواب عليه ما نصه: (أهل البيت – رضوان الله عليهم – لا شك في طلب حبهم ومودتهم، لما ورد فيه من كتاب وسنة، فيجب حبهم ومودتهم، إلا أن الاسلام ساوى بين الخلق، فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير والتكريم والإجلال، ولسائر العلماء مثل ذلك، كالجلوس في صدور المجالس، والبداءة بهم في التكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم، ونحو ذلك، إذا تقارب أحدهم مع غيره في السن والعلم.(20)
وفي (فتاوى ومقالات ابن باز: 402/7): «…الكامل من الرجال كثير، ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أكملهم، وأفضلهم، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء الا مريم ابنة عمران وآسية ابنة مزاحم – يعني زوجة فرعون – وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على ان خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أم أولاده صلى الله عليه وسلم ممن كمل من النساء، وهكذا فاطمة ابنته صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنها سيدة نساء أهل الجنة فهؤلاء الخمس هن الكاملات من النساء رضي الله عنهن جميعاً».
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (مجموع الفتاوى 207/4): «آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته وكل من تحرم عليه الزكاة من أقاربه المؤمنين كآل علي وجعفر والعباس ونحوهم، والواجب نحوهم المحبة والتوقير والاحترام، لإيمانهم بالله ولقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم، ولتنفيذ الوصية التي عهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أذكركم الله في أهل بيتي) ولأن ذلك من كمال الايمان، لقوله صلى الله عليه وسلم (والله لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)».
خامسا/ الإمام علي وذريته في ميزان علماء أهل السنة:
ابن تيمية وابن كثير والذهبي أنموذجا
أولا/ ابن تيمية يدافع عن الإمام علي دفاعا حاسما: (21)
تأتي أهمية ثناء ابن تيمية على أئمة آل البيت أنه معروف عنه الشدة في محاججة أهل البدع وتفنيد أصولهم؛ ومنهم القدرية والجهمية والمعتزلة؛ ولو كان يعلم أن هؤلاء أو حتى بعضهم معتنقون لمباديء الاعتزال وأفكار الروافض في الصحابة لما سكت عنهم، وكتابه المذكور يمتليء بالثناء عليهم، وفي المقابل فإن الروافض والمتعصبين الزيدية الهادوية يشنون عليه حملات شرسة – ومعهم الصوفية المخرفة- بدعوى كراهيته لأهل البيت وإخفائه فضائلهم. ولا أفضل من إثبات موقف ابن تيمية من نشره هنا، وهذه نماذج من ثنائه عليهم:
1- [ قد ثبت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن والحسين، وعلي بن الحسين، وابنه محمد، وجعفر بن محمد من المناقب والفضائل ما لم يذكره هذا المصنف الرافضي..].
( نلاحظ هنا أنه لم يذكر الإمام زيد بن علي لأن المقام تفنيد كلام رافضي اثني عشري، ومعلوم أنهم لا يعترفون بإمامة زيد ولا يدرجون ضمن أئمتهم، ويعدونه ضالا مضلا، وربما يكفره بعضهم لتطاوله على الإمامة بدون نص وفق زعمهم!).
ويزخر كتاب منهاج السنة بتقدير الإمام علي بن أبي طالب والإشادة بمناقبه وفضائله:
– [ علي أفضل من طلحة والزبير وأعظم قدرا منهما..].. ص 287
– [ جماهير أهل السنة متفقون أن عليا أفضل من طلحة والزبير، فضلا عن معاوية وغيره، ويقولون: إن المسلمين لما افترقوا في خلافته ؛فطائفة قاتلته وطائفة قاتلت معه؛ كان هو وأصحابه أولى الطائفتين بالحق..].. ص 288
– [ وقد دل النص على أن خلافته خلافة نبوة.] ص300
– [ الخوارج والمروانية وكثير من المعتزلة وغيرهم يقدحون في علي رضي الله عنه، وكلهم مخطئون في ذلك ضالون مبتدعون..]. ص 301
– [ أهل السنة يحبون الذين لم يقاتلوا عليا أكثر مما يحبون من قاتله، ويفضلون من لم يقاتله على من قاتله كسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، فهؤلاء أفضل من الذين قاتلوا عليا عند أهل السنة، والحب لعلي وترك قتاله خير بإجماع أهل السنة من بغضه وقتاله، وهم متفقون على وجوب موالاته وحبه، وهم من أشد الناس ذبا عنه، وردا على من يطعن عليه من الخوارج وغيرهم من النواصب لكن لكل مقام مقال…. والرافضة لا يمكنهم أن يثبتوا وجوب موالاته كما يمكن لأهل السنة، وأهل السنة متفقون على ذم الخوارج الذين هم أشد بغضا له وعداوة من غيرهم، وأهل السنة متفقون على وجوب قتالهم…. وليس من أهل السنة من يجعل بغض علي طاعة ولا حسنة، ولا يأمر بذلك، ولا من يجعل مجرد حبه سبة ولا معصية، ولا ينهى عن ذلك.
( للتنبيه: لا يدخل في هذا التقييم صحابة مثل طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم لأن ابن تيمية – كموقف أهل السنة- لا يؤمن أنهم قاتلوا عليا في معركة الجمل بل كان الأمر أنهم خرجوا إلى البصرة لملاحقة قتلة عثمان، والقتال الذي نشب كان بفعل أهل الفتنة لإفشال الاتفاق الذي كاد يحدث بينهم والإمام علي.)
وكتب أهل السنة من جميع أهل الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه، وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق، وهم ينكرون على من سبه وكارهون لذلك، وما جرى من التساب والتلاعن بين المعسكرين من جنس ما جرى من القتال، وأهل السنة من أشد الناس بغضا وكراهة لأن يتعرض له بقتال وسب، بل هم كلهم متفقون على أنه أجل قدرا، وأحق بالإمامة، وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيرا منه (يقصد أن يزيد بن أبي سفيان أفضل من أخيه معاوية). وعلي أفضل ممن هو أفضل من معاوية رضي الله عنه، فالمسلمون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح، وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية، وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء جميعا، وعلي أفضل جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة بل هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة، فليس في أهل السنة من يقدم عليه أحدا غير الثلاثة، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار…. وما في أهل السنة من يقول: إن طلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه بل غاية ما قد يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى..] ص 303و304.
– وعن المتهمين لعلي من المروانية وغيرهم بأنه شارك في دم عثمان يقول ابن تيمية: [ هذا كله كذب على علي رضي الله عنه وافتراء عليه، فعلي رضي الله عنه لم يشارك في دم عثمان ولا أمر ولا رضي، وقد روي عنه وهو الصادق البار أنه قال: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله، وروي عنه أنه قال: ما قتلت ولا رضيت، وروي عنه أنه سمع أصحاب معاوية يلعنون قتلة عثمان فقال: اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل.
– وينفي ابن تيمية عن علي تهم الذين قاتلوه شبهة فيه واجتهادا منهم فلا يوافق على شبههم قائلا: [ لكن هذا لا يدل على أنهم كانوا مصيبين في ترك بيعته وقتاله، وكون قتلة عثمان من رعيته لا يوجب أنه كان موافقا لهم، وقد اعتذر بعض الناس عن علي بأنه لم يكن يعرف القتلة بأعيانهم، أو أنه كان لا يرى قتل الجماعة بالواحد، أو بأنه لم يدعِ عنده ولي الدم دعوى توجب الحكم له.. ولا حاجة لهذه الأعذار، بل لم يكن علي مع تفرق الناس عليه متمكنا من قتل قتلة عثمان إلا بفتنة تزيد الأمر شرا وبلاء، ودفع أفسد الفاسدين (ربما يقصد المفسدتين) بالتزام أدناهما أولى من العكس لأنهم كانوا عسكرا، وكان لهم قبائل تغضب لهم؛ فكان ردؤهم أهل الشوكة. ولولا ذلك لم يتمكنوا، ولما سار طلحة والزبير إلى البصرة ليقتلوا قتلة عثمان قام بسبب ذلك حرب قتل فيها خلق….. وإن كان معاوية معذورا في كونه لم يقتل قتلة عثمان إما لعجزه عن ذلك أو لما يفضي إليه الأمر ذلك من الفتنة وتفريق الكلمة وضعف السلطان فعليّ أولى أن يكون معذورا أكثر من معاوية، إذ كانت الفتنة وتفريق الكلمة وضعف سلطانه بقتل القتلة لو سعى في ذلك أشد.
وأما قول القائل: إن عليا بدأهم بالقتال.. قيل له: وهم أولا امتنعوا من طاعته ومبايعته، وجعلوه ظالما مشاركا في دم عثمان، وقبلوا عليه شهادة الزور، ونسبوه إلى ما هو بريء منه.. وإذا قيل: هذا وحده لم يبح قتالهم قيل: ولا كان قتاله مباحا لكونه عاجزا عن قتل قتلة عثمان بل لو كان قادرا على قتل قتلة عثمان وقُّدّر أنه ترك هذا الواجب إما متأولا وإما مذنبا لم يكن ذلك موجبا لتفريق الجماعة، والامتناع عن مبايعته ولمقاتلته بل كانت مبايعته على كل أصلح في الدين، وأنفع للمسلمين، وأطوع لله ورسوله من ترك مبايعته….. وعليّ رضي الله عنه كان قد بايعه أهل الكوفة، ولم يكن في وقته أحق منه بالخلافة، وهو خليفة راشد تجب طاعته، ومعلوم أن قتل القاتل إنما شرع عصمة للدماء فإذا أفضى قتل الطائفة القليلة إلى قتل أضعافها لم يكن هذا طاعة ولا مصلحة، وقد قتل بصفين أضعاف أضعاف قتلة عثمان]. ص 308-310.
ابن تيمية يثني على زيدية العراق:
وفي كتابه الشهير/ منهاج السنة مايز ابن تيمية بين الروافض وبين الزيدية عند ذكر فرق الشيعة بل كان كثيرا ما يميز الزيدية عن الشيعة كتيار إن كان يقصد بهم الروافض الإمامية، فالزيدية عنده ليسوا من الروافض؛ فقد أشار إلى من كانوا في زمنه في كوفة العراق أكثر مرة باحترام وتقدير الأمر الذي يدل على أنه لم يكن يجد في أصولهم ما يستحق النقد أو الرفض، ولو كانوا على عقيدة الاعتزال (كما الذين على مذهب الزيدية الهادوية في اليمن) التي طالما نقدها ابن تيمية وعدها من مذاهب البدعة لما كان خصهم بذلك المديح.
ولعله مما يعضد ما ذكرناه أن العلامة محمد بن إبراهيم الوزير كان يستند كثيرا في موسوعته (العواصم والقواصم) في تأكيد اختلاف أصول مذهب قدامى أئمة آل البيت عن أصول المعتزلة وهادوية اليمن على كتاب/ الجامع الكافي في علوم الزيدية للإمام أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن عبد الرحمن الحسني، ويشير كثيرا إلى محمد بن منصور الكوفي الشيعي محب آل البيت وراوية مذاهبهم في كتب له (مثل علوم آل محمد والجملة والألفة) ويورد منها من عقائد آل البيت كثيرا مما يخالف أصول المعتزلة والزيدية الهادوية في اليمن، وقد أسهب ابن الوزير في النقل من ذلك مما يعضد كلام ابن تيمية عن زيدية العراق في زمنه مما لا يتسع المقام هنا لإيراده.
وهذه هي العبارات التي امتدح فيها ابن تيمية زيدية العراق:
– في معرض تفنيده لامتداح الرافضة الإمامية لأنفسهم بأنهم الزهاد الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها وأنهم الشجعان لا تأخذهم في الله لومة لائم.. قال: [ الزيدية خير من الرافضة: أعلم، وأصدق، وأزهد، وأشجع..] ص 108 ج1.
– وفي معرض تفنيد قول الرافضي مؤلف/ منهاج الكرامة في معرفة الإمامة إن الشيعة مجمعون على إمامة ال 12 إماما يقول ابن تيمية: [ هذا كذب على الشيعة فإن هذا لا ينقله إلا طائفة من طوائف الشيعة، وسائر طوائف الشيعة تكذب هذا… والزيدية بأسرها تكذب هذا وهم أعقل الشيعة وأعلمهم وخيارهم..] ص 836 الجزء الثاني.
ثانيا/ المؤرخ العلامة شمس الدين محمد الذهبي:
والمؤرخ الشهير شمس الدين محمد الذهبي تلميذ ابن تيمية رغم أنه شافعي المذهب من علماء السنة الكبار الذين أثنوا على علي بن أبي طالب والصالحين من ذريته. قال الذهبي في ترجمته من سير أعلام النبلاء وهو يشير إلى الأئمة ال12 لدى الإمامية الاثني عشرية:
[مولانا الإمام علي: من الخلفاء الراشدين، المشهود لهم بالجنة رضي الله عنه نحبه أشد الحب، ولا ندعي عصمته، ولا عصمة أبي بكر الصديق. وابناه الحسن والحسين: فسبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيدا شباب أهل الجنة، لو استخلفا لكانا أهلا لذلك.. وزين العابدين: كبير القدر، من سادة العلماء العاملين، يصلح للإمامة، وله نظراء، وغيره أكثر فتوى منه، وأكثر رواية. وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر: سيد، إمام، فقيه، يصلح للخلافة. وكذا ولده جعفر الصادق: كبير الشأن، من أئمة العلم، كان أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور. وكان ولده موسى: كبير القدر، جيد العلم، أولى بالخلافة من هارون، وله نظراء في الشرف والفضل. وابنه علي بن موسى الرضا: كبير الشأن، له علم وبيان، ووقع في النفوس، صيره المأمون ولي عهده لجلالته، فتوفي سنة ثلاث ومائتين. وابنه محمد الجواد: من سادة قومه، لم يبلغ رتبة آبائه في العلم والفقه. وكذلك ولده الملقب بالهادي: شريف جليل. وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري – رحمهم الله تعالى – فأما محمد بن الحسن هذا: فنقل أبو محمد بن حزم، أن الحسن مات عن غير عقب … اهـ.
وعن الإمام زيد بن علي يقول الذهبي: [ كان ذا علم وجلالة وصلاح. جاءت الرافضة زيدا فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى ننصرك قال: بل أتولاهما. وروي عنه أنه قال: كان أبوبكر إمام الشاكرين ثم تلا: ( وسيجزي الله الشاكرين)، ثم قال: البراءة من أبي بكر هي البراءة من علي. وقيل لجعفر الصادق ابن أخي زيد إن ناسا من الرافضة ممن عندك يبرأون من عمك زيد فقال: برأ الله ممن تبرأ منه، كان والله أقرأنا لكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وأوصلنا للرحم، ما تركنا وفيه مثله. رحم الله عمي كان والله سيدا لا والله ما ترك فينا لدنيا ولا آخرة مثله. وقال عن أبو حنيفة: ما رأت في زمانه أفقه منه ولا أسرع جوابا ولا أبين قولا. خرج متاولا واستشهد..].(22)
ثالثا/ الإمام الحافظ المفسر المؤرخ ابن كثير صاحب البداية والنهاية:
امتلأت موسوعته الشهيرة البداية والنهاية بذكر أخبار أهل البيت وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب الذي خصص له صفحات كثيرة عن فضله وسيرته العادلة ومواعظه وحكمه وابنيه الحسن والحسين مع حرص على تنقية الروايات من الضعيف والموضوع والمدسوس ومنه ما يلي تحت عنوان:
شيء من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
[ من ذلك أنه أقرب العشرة المشهود لهم بالجنة نسبا من رسول الله ﷺ فهو ابن عمه أسلم قديما وهو دون البلوغ على المشهور، وصحب رسول الله ﷺ مدة مقامه في مكة واكن عنده في منزله وفي كفالته وصحبه بعد الهجرة حتى توفي وهو راض عنه وحضر معه كل المشاهد عدا تبوك استخلفه فيها على المدينة، وقال له ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)، وجرت له مواقف شريفة بين يديه في مواطن الحرب، وزوجه الرسول ﷺ ابنته فاطمة. وفي غدير خم خطب في الناس فقال في حطبته: ( من كنت مولاه فعلي مولاه) ردا على مقالة قيلت فيه من بعض من كان معه عند عودته من اليمن بسبب استرجاعه منهم خلعا أخذت من الصدقة.].(23)
الحسن بن علي بن أبي طالب
[ أبو محمد القرشي الهاشمي سبط رسول الله ﷺ وريحانته وأشبه خلق الله به في وجهه، وكان رسول الله ﷺ يحبه حبا شديدا. وفي صحيح البخاري أن رسول الله قال: (اللهم إني أحبه فأحبه). وكان الصديق يجله ويعظمه ويكرمه ويحبه ويتفداه وكذلك عمر بن الخطاب، ولما عمل عمر الديوان فرض للحسن والحسين مع أهل بدر، وكلك كان عثمان يكرم الحسن والحسين ويحبهما، وكان الحسن بن علي يوم الدار وعثمان محصور عنده ومعه السيف متقلدا به يحاجف عن عثمان فخشي عثمان عليه فأقسم عيه ليرجعن إلى منزلهم تطييبا لقلب علي وخوفا عليه. وكان يجلس في مصلاه بعد صلاة الفجر يذكر الله حتى ترتفع الشمس ثم يقوم فيدخل على أمهات المؤمنين فيسلم عليهن. قاسم الحسن لله ماله ثلاث مرات، وخرج عن ماله مرتين لله عز وجلن وحج خمسا وعسرين مرة ماشيا والنجائب تقاد بين يديه. ولما مات سمع الناس أبا هريرة ينادي بأعلى صوته: أيها الناس مات اليوم حب رسول الله ﷺ فابكوا. قال عن أحمد بن حنبل:(24) مدني ثقة.].
الحسين بن علي بن أبي طالب
[ هو الحسين بن علي بن أبي طالب السبط الشهيد بكربلاء ابن بنت رسول الله ﷺ وريحانته من الدنيا وقال عنه وعن أخيه الحسن ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). وكان الصديق يكرمه ويعظمه وكذلك عمر وعثمان، وكان معظما مكرما…. فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه قتله رصي الله عنه فإنه من سادات المسلمين وعلماء الصحابة، وقد كان عابدا وشجاعا سخيا.].(25)
الهوامش:
- معظم كتب ومؤلفات فرق الشيعة تدور حول هذا النهج الخبيث لتزييف عقول الأتباع السذج، وقد جمع الفقيه الزيدي مجد الدين محمد المؤيدي شيئا كثيرا من هذا الغثاء والأكاذيب في كتاب ضخم من 3 أجزاء سماه لوامع الأنوار ملأها بكل ما وصله من قمامات التاريخ من اتهامات وخزعبلات واكاذيب وترهات الروافض في حق الصحابة الكرام بقصد إثبات الحق الإلهي لعلي وذريته. وقد تكون لنا وقفة خاصة معه مستقبل بإذن الله تعالى.
- بتصرف يسير عن علو مكانة أهل البيت عن الصحابة والتابعين، د. نور الدين الغياط، موقع الرابطة المحمدية للعلماء.
- صحيح رواه البخاري.
- صحيح رواه مسلم.
- صحيح رواه البخاري.
- صحيح رواه البخاري.
- تفسير ابن كثير 7/202
- ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب: 2/814. وابن عساكر في مختصر تاريخ دمشق 11/ 348، والذهبي في سير أعلام النبلاء 3/399.
- العقيدة الواسطية 1/188.
- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، 1/446.
- نفسه 1/453.
- صحيح مسلم.
- صحيح ابن حبان وفي السلسلة الصحيح.
- موقع الدرر السنية. مبحث فضائل أهل البيت في السنة.
- بتصرف من مقدمة كتاب أعلام الحنابلة لمحمد يوسف المزيني.
- مناقب أحمد لابن الجوزي بتحقيق عبدالله التركي، ص 219.
- طبقات الحنابلة 55/3
- العقيدة الواسطية، ص 119، تحقيق أشرف عبد المقصود.
- الامام محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة النجدية وموقفهم من آل البيت عليهم السلام لخالد الزهراني ص 16.
- الدرر السنية، 233/1
- مختصر منهاج السنة لابن تيمية، اختصره الشيخ عبدالله الغنيمان، مكتبة الكوثر، ط3، 1995.
- منقول بتصرف عن سير أعلام النبلاء للذهبي.
- بتصرف عن البداية والنهاية، الجزئين السابع والثامن.
- بتصرف عن البداية والنهاية، ج7
- بتصرف عن المصدر السابق.