هل الأسود ذو دين سابق؟
أولاً: تفنيد رأي بعض المستشرقين حول تأثر الأسود العنسي باليهودية أو النصرانية
الادعاء ينتقض بنقطة جوهرية، وهي أن ادعاء النبوة في حد ذاته مرتبط بالإسلام؛ ففكرة ادعاء النبوة ظهرت بعد الإسلام كرد فعل عليه. كما أن الأسود – مثله مثل مسيلمة وسجاح – ادعي نزول وحي عليه، وهو مفهوم قرآني، ومحاولته تقديم بديل ديني يظهر أنه تأثر بشكل مباشر بالإسلام لا بالديانات الأخرى. كما أن توقيت حركته في أواخر حياة النبي ﷺ يدل على أنها كانت رد فعل على الإسلام. ومعارضته للنظام الإسلامي وقتل عمال النبي ﷺ تؤكد ارتباط حركته بالإسلام، لا بديانات أخرى.
ومن ناحية تاريخية؛ فلم تشر المصادر التاريخية إلى أن الأسود كان على علاقة باليهود أو النصارى في اليمن أو تأثر بتعاليمهم. بالعكس، كان اليهود والنصارى أقلية في اليمن ولم يكن لهم نفوذ عقائدي مباشر على زعماء القبائل الوثنية. كما أنه من ناحية أخرى فلم تكن اليهودية أو النصرانية تعتمد نموذج “النبي المصلح” في شبه الجزيرة في تلك الفترة، بل كانت أقرب إلى عقائد مستقرة ومحددة.
كما أن الأسود العنسي استخدم الشعوذة والكهانة بشكل بارز لجذب الأتباع، وهي ممارسات لم يعرف أنه كان يمارسها أتباع اليهودية أو النصرانية في الجزيرة العربية، ولم تكن نابعة إلا من وثنية جاهلية، استخدمها الوثنيون العرب، كما استخدمها زعماء الردة آنذاك في محاولة شعبوية منهم لمقاومة الإسلام، وتقديمهم لنصوص بديلة عن القرآن الكريم.
ولو كان الأسود العنسي متأثرا باليهودية أو النصرانية لأظهر ذلك في معارضته، أو أظهر ذلك في دعوته، كأن يدعوهم مباشرة إلى الإيمان بألوهية المسيح أو بالكتب المقدسة السابقة…إلخ.
والمعروف أن اليمن كانت خاضعة للإسلام، وقد بدأ يترسخ الإسلام في اليمن مع دعوة معاذ وأبي موسى وبقية الدعاة، وقبائل اليمن كانت في تماس مباشر مع الإسلام، لا مع اليهودية أو النصرانية.
ثانياً: هل لقب الأسود برحمان اليمن؟
نود أن نشير إلى ما ذكره البَلَاذُري (المتوفى: 279هـ) في فتوح البلدان أن الأسود بْن كعب بْن عوف العنسي قَدْ تكهن وادعى النبوة فاتبعه عنس، وسمى نفسه رحمان اليمن كما تسمى مسيلمة رحمان اليمامة. كما ذكر ذلك الصحاري في الأنساب.
ولا ندري مدى صحة مقولة البلاذري؛ فلم يرد في أي مصادر تاريخية قديمة أن أحدا منهما ادعى ذلك، وقد جاء في الطبقات لابن سعد أن وفدا من قريش قدموا المدينة وقالوا لهم: (منا غلام يتيم حقير يقول قولا عظيما يزعم أنه رسول الرحمن. ولا نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة).
وأما المقدسي في البدء والتاريخ فيزعم أن مسيلمة كان قد ادعى النبوة ورسول الله بمكة، ولقب برحمن اليمامة، وهو الذي عنته قريش، ويذكر المفسرون كالطبري وغيره ذلك عند تفسيرهم الآية: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن)، بل جاء في تاريخ الإسلام بصيغة التمريض ما يفيد أن مسيلمة ادعى النبوة وتسمى برحمان اليمامة قبل ميلاد النبي. وهو زعم غريب غير معروف؛ فالأحاديث الصحيحة، كما في الصحيحين، تبين أن مسيلمة ما ادعى النبوة إلا أواخر عهد النبي.
وذكر ابن الجوزي في المنتظم أن مسيلمة إنما لقب برحمان اليمامة؛ لأنه كان يقول: الذي يأتيني اسمه: رحمان”.
ولكن مما يطعن في ذلك أن المعروف في المصادر المتقدمة أن كليهما (مسيلمة والأسود) ادعى النبوة لا الألوهية، ولو تلقبا بذلك لشهر عنهما. وعلى أي حال فهذا اللقب لم يشتهر للأسود إنما لمسيلمة، وقد يكون قيل على سبيل التهكم إذا ثبتت صحته.
ثالثاً: هل كان الأسود على دين رحماني؟!
ادعى بعض الكتاب أن الأسود العنسي من أتباع “الديانة الرحمانية”، وزعم أنها ديانة توحيدية قبل الإسلام، وقد تلبست بها اليهودية ثم المسيحية، وأن الأسود رحماني على الطريقة المسيحية!!
وهذا الزعم عار من العلم؛ فلا توجد أي إشارة تاريخية إلى أن الأسود كان يتبع هذه الديانة أو تلك، فلو كان صاحب دين سابق لنقل عنه ذلك؛ فهي دعوى بلا علم ولا برهان.
والسؤال الجوهري الآن: هل الديانة الرحمانية موجودة؟
إن الزعم بوجود “الديانة الرحمانية” زعم استشراقي يخلو من التحقيق والأدلة، لعدة أسباب:
أولا: غياب الدليل التاريخي: فلا توجد أي إشارة في المصادر القديمة إلى أن ثمة ديانة اسمها “الديانة الرحمانية”.
ثانياً: الخطأ في تفسير النقوش:
الباحثون يستندون إلى نقوش جنوب الجزيرة التي ورد فيها لفظ “رحمنان” (rḥmnn) من القرن الرابع إلى السادس الميلادي. لكن هذه النقوش لا تدل على ديانة مستقلة؛ بل تعبر عن صفة للإله بمعنى “رب السماوات والأرض”. وكما استخدم لفظ “رحمان” فقد استخدم لفظ “إله” فهل نقول عن ذلك: الديانة التوحيدية الإلهية المستقلة”!! أم أن الدين الحق يؤكد أن الله هو الإله، وهو نفسه الرحمن. وتدل النقوش على أن الاسمين “إله، رحمن” كانا يستخدمان للدلالة على الإله في كافة اللهجات الجزرية. (انظر: Gajda, Iwona (2023). “Rahmanan”. Ancient Arabia).
[وبالمناسبة فهذه القراءة “رحمانان” من أخطاء القراءة التوراتية للنقوش، والحقيقة أن النقش بنونين متجاورين وكتب بالإنكليزية (rḥmnn ) فالنون الثانية هي التنوين، فيكتب بالعربية (رحمنٌ)، وينطق بنونين.]
ثالثاً: قدم اللفظ في اللهجات الجزيرية
ورود اللفظ في النقوش يعني أنه لفظ قديم ومستخدم في اللهجات الجزيرية وليس لفظا حادثا، وقد جاءت مادة “رحم” في الأكادية وغيرها من اللهجات الجزيرية القديمة (انظر: معجم المشترك اللغوي العربي السامي). بل إنه قد عثر في النقوش الأكادية على لفظ (rēmēnû)، واستخدمت في السريانية للدلالة على “الإله الرحيم، الذي ترفع إليه الصلوات”، ثم استخدم في النقوش التدمرية قبل قرنين من استخدامها في الجنوبية، وهو يدل على وصف الإله. (انظر: From the Aramaic raḥmānāʾ to raḥmānān and al-raḥmān).
رابعاً: علاقة “الرحمن” باليهودية والمسيحية:
ظهور “الرحمن” في النقوش الحميرية ارتبط بذي نواس اليهودي، وإيمانه بالرحمن (رب اليهود)، فهو إذن يعبر عن الإله المعروف في اليهودية – قبل تحريفها، وهو الإله الذي دعا إليه المسيح ودعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم. (انظر: Jewish and Christian religious influences on pre-Islamic Arabia on the example of the term RḤMNN (“the Merciful”)). وتحريف النصارى لهذا الاسم واستخدامه في الثالوث إنما هو نتيجة انحرافهم العقدي، فقد استخدموا اسم “الرب” أيضا للدلالة على ثالوثهم المحرف.
خامسا: كما هو معروف – سواء من النصوص التاريخية، أم من الآثار أن اليمن قبل الإسلام كانت حالتها الدينية تتمثل في:
اليهودية، وقد دخلت في عهد سليمان عليه السلام، كما هو واضح من القرآن الكريم، وفي النقوش أنها انتشرت تقريبا في القرن الرابع الميلادي، ومن أشهر من تبناها ذو نواس الذي اضطهد المسيحيين، ويبدو أنها انتشرت في وسط حمير، وحين أرسل النبي معاذا إلى حمير قال له: (إنك تأتي قوما أهل كتاب). أما النصرانية فدخلت في القرن نفسه مع النفوذ الحبشي، وقد بقيت في نجران بالأخص، وقد صالحهم النبي على الجزية.
والأكثر انتشارا في اليمن هي الوثنية، وقد كانت عبادة الأصنام والآلهة شائعة بينهم، كما ذكرنا ذلك من قبل. ومما أوضحته النقوش أنهم كانوا يقدمون قرابينهم إلى هذه المعبودات.
رابعاً: هل العرب لم يعرفوا لفظ "الرحمن"؟
زعم بعضهم – قديما وحديثا –أن العرب لم يكونوا يعرفون لفظ “الرحمن”، واستدلوا بقوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن)، وبقول سهيل بن عمرو في صلح الحديبية حين كتب علي في الصحيفة: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: سهيل: لا نعرف هذا، لكن اكتب: باسمك اللهم. لكن هذا الزعم يفنده عدة أمور: (مقتبسة من الطبري في تفسيره، ومن رد للشيخ المعلمي في بحث له عن البسملة)
الأول: استخدام العرب في الجاهلية لهذا الاسم، وقد أورد الطبري في تفسيره ذلك مستنكرا على من أنكر ورود الاسم عن العرب، كقول سلامة بن جَندل الطُّهَوي:
عجِلتم علينا عجلتَينا عليكم
وما يشأ الرحمنُ يعقِدْ ويُطلق
الثاني: ورود اسم “عبد الرحمن” عند الجاهليين، كما في صحيح مسلم وغيره في قصة غزوة ذي قَرَد: أنَّ عبد الرحمن الفزاري أغار على إبل النبي، وقتله أبو قتادة.
الثالث: ذكر العرب للفظ “الرحمن” كما حكى القرآن عنهم: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)، ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا).
الرابع: مخاطبة القرآن للعرب كقوله: (اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ)، والنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – لا يجوز أن يخاطبهم بما لا يعرفون.
الخامس: أما قولهم (وما الرحمن)؟ الله ذمهم على قوله، ولو كانوا غير عارفين معناه لما استحقوا الذم. وللعلماء تأويلات في ذلك، منها: أنهم تعنتوا بمقولتهم، جحودا وتكذيبا منهم، حتى يظهروا أن النبي يقول لهم ما لا يُفهم. وقيل: إنهم أرادوا أن يظهروا النبي بمظهر المشرك؛ كأنما الرحمن إله آخر غير الله، واستغلوا ذلك في التشغيب والسخرية من النبي صلى الله عليه وسلم. (كلام المعلمي مختصرا). وقيل: إن سؤالهم هو سؤال عن الصفة على سبيل التهكم، كما قال فرعون: (وما رب العالمين)؟
السادس: وأما كلام سهيل بن عمرو في الصحيح، فقد أبان المعلمي ذلك بقوله:
اختلفت الروايات في حكاية قوله. والذي عند ابن إسحاق عن الزهري في هذه القصة: “ثم دعا رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: اكتب “بسم الله الرحمن الرحيم”. قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا. ولكن اكتب “باسمك اللهم”. فالظاهر أن سهيلًا إنما أنكر البسملة لمخالفتها ما مضوا عليه من قولهم: “باسمك اللهم”، وكانوا يستخدمونها في أول كتبهم ونحوها. فحين خالفهم النبي وقال “بسم الله الرحمن الرحيم” قالوا: إنما يريد هذا الرجل خلافنا في كل شيء حتى فيما لا بأس فيه؛ فلذلك أبى سهيل بن عمرو كتابتها.
وأما ما وقع في “الصحيح” من قوله: “أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي” ربما يكون من الرواية بالمعنى، كأنَّ بعض الرواة فهم أنَّ إنكار سهيل لـ “بسم الله الرحمن الرحيم”، إنما هو لما عُرِف عنهم من الشغب في هذا الاسم الشريف “الرحمن”. ويحتمل أن يكون من إطلاق الجزء وإرادة الكل. أُطلق “الرحمن”، وأُريد البسملة كلها. وقد يشهد له قوله: “ما هي” كما في أكثر روايات “الصحيح” وأوثقها. ومحمل كلام سهيل: أنه لا يدري أينبغي أن يصدَّر بها الكتب أم لا، أو أحقٌّ هي أم باطل وبالجملة فالظاهر أنَّ سهيلاً إنما أنكر البسملة، والله أعلم.
السابع: وأما ما في بعض الآثار أنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة، فإن صحَّ فمرادهم: لا نعرف الرحمن، الذي هو غير الله”.