آثار

حركة الأسود العنسي في ميزان التاريخ (ج6)

هل حركة الأسود ذات دافع اقتصادي؟

من المعلوم أن حجة بعض القبائل في ردتها هو طلب إسقاط الزكاة؛ بحجة أنها فريضة دينية تؤدى للنبي فقط!! ومن ثم زعموا أن الإسلام دين روحي، كما يزعم الخانيون والعلمانيون اليوم. ولذلك قال أبو بكر (واللَّهِ لَأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، فإنَّ الزَّكاةَ حَقُّ المالِ، واللَّهِ لو مَنَعُونِي عَناقًا كانُوا يُؤَدُّونَها إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقاتَلْتُهُمْ علَى مَنْعِها). فهذه القبائل رفضت الفريضة برمتها.

لكن الجديد هو ما ادعاه بعض الباحثين أن حركة الأسود دافعها اقتصادي؛ بحجة أن الزكاة والخراج أثارا استياء القبائل، لأن الأموال تُرسل إلى المدينة دون استفادة مباشرة منها، ومن ثم شعرت القبائل أن الدولة الإسلامية تستنزفها لمصلحة سلطة مركزية بعيدة عنها! وزعم بعضهم أن اليمن، باعتباره منطقة زراعية وتجارية غنية مقارنة ببقية الجزيرة، تحمل عبئًا اقتصاديًا كبيرًا من خلال الزكاة والخراج، وهو ما اعتبرته القبائل تدخلًا غير عادل، ويمنعها من الاستقلال المالي.

إلا أن هذا الرأي يمكن تفنيده بعدة أدلة:إلا أن هذا الرأي يمكن تفنيده بعدة أدلة:

الأول: الزكاة شرعت لفقراء البلد نفسه

الزكاة في الإسلام شرعت لتصرف على فقراء البلد نفسه، ولا تنقل إلى غيره. وعمال النبي على الصدقات كانوا يأتون لأخذها من الأغنياء، وردها على الفقراء، وكان النبي يحذرهم من الظلم، أو من أخذ كرائم الأموال في الصدقة. فالزعم أنها كانت تخرج من اليمن زعم باطل، يتعارض مع الأحكام الشرعية نفسها، ويتهم الرسول والصحابة أنهم خانوا الدين نفسه. وقد جاء توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل نفسه حين بعثه إلى اليمن: (أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).

وجاء في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام. – أن عمرو بن شعيب أخبره أن معاذ بن جبل “لم يزل بالجند، إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، ثم قدم على عمر، فرده على ما كان عليه، فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس، فأنكر ذلك عمر، وقال: «لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم» . فقال معاذ: «ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحدا يأخذه مني». فلما كان العام الثاني بعث إليه شطر الصدقة، فتراجعا بمثل ذلك فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل، فقال معاذ: «ما وجدت أحدا يأخذ مني شيئا». وهذا يدل على أن نقل الزكاة إلى خارج اليمن كان استثناءً نادرًا نتيجة فائض كبير في الموارد، وليس قاعدة.

وفي المغني لابن قدامة أيضا: وروي أيضا عن إبراهيم بن عطاء مولى عمران بن حصين، أن زيادا، أو بعض الأمراء، بعث عمران على الصدقة، فلما رجع قال: أين المال؟ قال: أللمال بعثتني؟ أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم

وذكر طاووس بن كيسان: “كان في كتاب معاذ: من أخرج من مخلاف إلى مخلاف، فإن صدقتَه وعُشْرَه ترد إلى مخلافه”.

وتجد عامة كتب الفقه تتناول هاتين القصتين وتستشهد على أن الزكاة تكون لأهلها. وجاء في الموسوعة الفقهية أن المالكية والشافعية في الأظهر والحنابلة ذهبوا إلى أنه لا يجوز نقل الزكاة إلى ما يزيد عن مسافة القصر، لحديث معاذ المتقدم، ولقصة عمر مع معاذ، وروي أن عمر بن عبد العزيز أتي بزكاة من خراسان إلى الشام فردها إلى خراسان.

والخلاصة أن الزكاة تصرف في البلد، ولا تُنقل إلى خارج المنطقة إلا إذا استُوفيت حاجات أهلها، ولو أخرجها فإنها ترد إلى أهلها.

والدليل الثاني: ادعاء النبوة لا علاقة له بالدافع الاقتصادي

إذا كان دافع الأسود العنسي اقتصاديًا فقط، لكان اكتفى بمعارضة نظام الزكاة، كما فعلت بعض القبائل التي امتنعت عن دفعها بعد وفاة النبي ﷺ. ولكن على العكس، فإن الأسود العنسي ادعى النبوة، وأخرج الناس من دينهم، وسعى للتفرد بالنفوذ والهيمنة على اليمن، ومواجهة الدولة الإسلامية بأكملها وليس مجرد رفض نظام الزكاة أو غيره من الأنظمة المالية.

والدليل الثالث: موقف الأسود نفسه من ولاة النبي

ذكر الطبري أن الأسود خاطب أمراء المسلمين بقوله: (أيها المتورّدُون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضِنا، ووفِّروا ما جمعتم؛ فنحن أوْلى به وأنتم عَلَى ما أنتم عليه). وهذه العبارة يفهم منها أن الأسود العنسي يرى النبي وولاته مجرد غزاة دخلاء، وأن الإسلام غزو أجنبي، فيطالبهم بإعادة ما أخذوه من أراض وأموال إلى اليمنيين.

فالأسود لم يعترض فقط على دفع الزكاة، بل على السلطة السياسية التي فرضت هذا النظام.

فالعبارة وجهت إلى أمراء الرسول في اليمن، معاذ بن جبل وغيره. فحركته إذن حركة ردة وتمرد ضد النبي ومبعوثيه في اليمن، بوصفهم غزاة!! وعندئذ انحاز معاذ إلى السكون، وانحاز أبو موسى الأشعري إلى السكاسك. وكلاهما في حضرموت. وانحاز بقية العمال في اليمن إلى الطاهر بن أبي هالة (الوالي على الأشعريين وعك). ورجع عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص إلى المدينة.

ولكن الأسود العنسي يتجاهل أن اليمن بيد أهلها، وأن أموالها تنفق على فقرائها وحاجاتها، وأن أمراء الرسول إلى اليمن جاءوا لتعليم الناس دينهم، وللحكم بينهم وفق الشريعة الإسلامية، ولتطبيق الزكاة التي تعد تكافلا اجتماعيا فريدا، أسهمت كما في قصة معاذ بن جبل مع عمر بن الخطاب – خلال سنين قليلة على القضاء على الفقر في اليمن.

والدليل الرابع: موقف بقية القبائل

سائر قبائل اليمن المسلمة كهمدان وحمير وتهامة…إلخ، كانوا يدفعون الزكاة، ولم يروا في الزكاة عبئًا بل نظامًا يهدف إلى التكافل الاجتماعي. ولو كان هناك استغلال من الدولة الإسلامية لتوحد موقف اليمنيين إزاء ذلك.

والدليل الخامس: أن النبي نفسه وخلفاء المسلمين مثلهم مثل عامة المسلمين مأمورون بأداء الزكاة ودفع الصدقات، وعدم أخذ أموال الناس بغير حق، فكلهم سواسية في ذلك. فهل يعقل أن يتحول النبي أو خلفاؤه إلى جباة ومستغلين للناس؟!

هل حركة الأسود تعبر عن مصالح الفقراء؟

وزعم بعض الباحثين المعاصرين أن حركة الأسود العنسي كانت تعبيرًا عن مصالح المجتمعات الزراعية الفقيرة في اليمن، الرافضة للخضوع للدولة الإسلامية بحجة رفض الزكاة كضريبة أو أتاوة.

غير أن هذه الدعوى تفتقر إلى العمق والأمانة والدقة، وتبسط الدوافع بصورة مخلة، وتتجاهل السياقات الواسعة.

أولاً: أين الدليل على أن حركة الأسود ثورة فلاحين وفقراء؟

فعلى أي أساس يفترض هؤلاء أن الأسود العنسي مع من ارتد من قبيلته عنس هو الممثل لمصالح “الفلاحين الفقراء”؟ فحركته تعبر عن طموح شخصي، كما تعبر عن حركة متهورة حاولت التمرد على سلطة الإسلام التي جاءت لتوحيد جزيرة العرب.

وحركة الأسود العنسي لم تذكر أي مصادر تاريخية أنها ثورة فلاحين أو فقراء أو أنهم دعموا الحركة … بل ذكروا أنها حركة قامت بها مجموعة من قبائل مذحج التي دعمت حركة الأسود بناء على ولاء قبلي بحت، وليس بناء على صراع اقتصادي. وفي الوقت نفسه قاومتها بقية قبائل اليمن. ولم يقولوا إن الذين قاوموها هم أصحاب المصالح.

وثانيا: كيف يثور الفقراء على نظام أنصفهم؟

إن الإسلام بنظام الزكاة قد جعل للفقراء حقا في أموال الأغنياء، فمن الطبيعي أن يكون الفقراء أشد تمسكا به، لا سيما أن الزكاة تعود عليهم. وهذا ما يفسر كيف استطاع معاذ بن جبل أن يرسل فائض الزكاة إلى المدينة، بعدما لم يعد هناك فقراء بحاجة إليها في اليمن. فإذا كانت هناك أي ثورة ضد نظام الزكاة، فمن المفترض أن تأتي من الطبقة الغنية التي تتحمل دفع الزكاة، وليس من الفقراء الذين يستفيدون منها.

ومن ناحية أخرى، فالإسلام يساوي بين الناس في المعاملة وفي الحقوق، غنيهم كفقيرهم، كبيرهم كصغيرهم، ملكهم كمملوكهم.. فلو كان هناك من سيثور عليه لثار أصحاب النفوذ والمصالح والملأ من القوم، الذين قد يرفضون هذه المساواة والعدالة الاجتماعية، كما حدث ذلك مع قريش أول الدعوة.

والزكاة ليست ضريبة ولا إتاوة، بل هي فريضة دينية، تفرض على المسلمين كجزء من نظام العدل الاجتماعي، الذي يستفيد منه الفقراء والمساكين والمعسرون وغيرهم من المحتاجين من أهل البلد نفسه. وكان المسلمون من أهل اليمن يدفعون الزكاة عن قناعة تامة؛ لأن دينهم لا يكتمل إلا بذلك.

فحركة الأسود العنسي في الحقيقة هي ضد مصالح الفقراء، وهي محاولة لاستعادة نفوذ قبلي مفقود.

وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن الإسلام فتح للناس فرصا جديدة وحريات واسعة في التجارة، إذ أصبحت دار الإسلام شاسعة، وأصبح المسلم يسعى من شرق الأرض إلى مغربها بتجارته دون عوائق أو قيود أو ضرائب لتلك الدولة أو هذه القبيلة. وأمت الدولة المسلمة الطرقات، وزودتها بالخدمات، ووضعت العقوبات الزاجرة الشديدة لمن تسول له نفسه بتهديد معايش الناس.

كما أن الإسلام شرع الشرائع التي تحول دون استغلال الأغنياء للناس؛ لذلك حرم الربا والاحتكار والابتزاز والاستغلال… وغير ذلك من أشكال الابتزاز والهيمنة والنفوذ الفاحش. كما أن نظام الإسلام الاقتصادي فتح أبواب الخير الاجتماعي، وتعمير الأرض وتنميتها، وتثمير الزروع، وحث على العمل وذم القعود، وغير نظرة الناس إلى الكسب الحلال؛ فأصبحت جزءا من الدين يتعبدون بها الله، ويتشبهون بأنبيائه الذين يأكلون مما تكسبه أيديهم. وتنافس الناس في تسخير أموالهم وبذلها في أوجه الخير والمنفعة للمصلحة العامة للمجتمع.

وثالثا: من قال إن الإسلام دين يخدم ذوي المصالح؟!

الإسلام في اليمن جذب قبائل من مختلف الطبقات الاجتماعية، بما في ذلك القبائل الزراعية والتجارية. ومحاولة تصوير الإسلام كحركة تخدم المصالح التجارية فقط تتجاهل أن القبائل اليمنية دخلت الإسلام لأسباب دينية وإيمانية بالدرجة الأولى.

ومن ناحية ثانية؛ فإن الوضع الاقتصادي في اليمن قبل الإسلام كان وضعا طبقيا بامتياز، تتسلط فيه النخبة (زعماء القبائل، والكهنة) على الناس، ويستأثرون بالأموال الوفيرة، في حين يكد الناس ويجهدون لتوفير المعيشة الرخاء لتلك الطبقة المخملية.

ورابعاً: لم يكن هم الأسود تخفيف العبء الاقتصادي

ثم إن الأسود لم ينقل عنه أنه دعا إلى تخفيف العبء الاقتصادي، أو إصلاح الوضع الاقتصادي. بل كل ما دعا إليه – كما في عبارته السابقة – طرد ممثلي الدولة الإسلامي باعتبارهم غزاة.

فالخلاصة أن حركة الأسود كانت رغبة في التمرد على الدولة الإسلامية، ولا علاقة لها بأي دافع اقتصادي سوى إرادة استمرار استغلال الفقراء – كما كان الحال عليه قبل الإسلام، الذين كانوا مجرد عبيد عند الطبقة الحاكمة، كأي نظام طبقي قبل الإسلام. وكما أن قريش لم تتقبل الثورة الهائلة التي جاء بها الإسلام في القيم والأخلاق والعدالة الاجتماعية والوحدة السياسية، فكذلك بعض قبائل العرب لم يتقبلوها، وأرادوا عودة الأمور إلى ما كانت عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى