بعد هَزيمتهم في الحرب العالمية الأولى 1918م، خَرج الأتراك من اليمن وهم يشيدون ببطولة الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، وشَراسة مُقاتليه، وسبق لعزت باشا أحد أبرز قاداتهم أنْ قال: «لو كان للدولة ألف رجل من هؤلاء – يقصد من مُقاتلي ذات الإمام – لأخذنا أوربا بأسرها»؛ الأمر الذي أثار الخوف والرهبة في قلوب مشايخ المناطق الوسطى (تعز، وإب)، وبدأوا يلتقون، ويتحاورون، ويبحثون عن أقرب الحلول للخروج من ذلك المأزق المُتجدد، والخطر المُستفحل.
مؤتمرا العماقي والقاعدة
تداعى مَشايخ تعز وإب بادئ الأمر لعقد مُؤتمر عام يُقررون فيه مصير مناطقهم، والتقوا أواخر شهر أكتوبر من العام 1918م في العماقي (إحدى قرى منطقة الجند السهلية)، وهناك اتفقوا – كما أفاد بعض المُؤرخين – على تشكيل حكومة لا مركزية، لا ترتبط بصنعاء إلا بالأحوال الاستثنائية.
أجمع المُؤرخون اليمنيون على فشل ذلك المؤتمر، إلا أنَّهم اختلفوا حول الأسباب التي أدت لذلك، فمنهم من قال أنَّ المشايخ اختلفوا حول اختيار أحمد علي باشا رئيسًا للحكومة، وأرجع آخرون ذلك الفشل إلى تَغَيُب شيخ القماعرة محمد ناصر مقبل الصراري عن الحضور، والذي كان حينها مُنشغلًا بتوديع القائد التركي اللواء علي سعيد باشا في عدن، فيما عزا الشيخ يحيى منصور بن نصر ذلك الفشل إلى دعوة الشيخ محمد الصراري للدخول في طاعة دولة الإمامة، مع العلم أنَّ هذا الأخير – كما سبق أنْ أفدنا – لم يحضر ذلك المُؤتمر، وربما خلط هذا المُؤرخ بين هذا المُؤتمر ومؤتمر القاعدة الآتي ذكره.
وصل حينها إلى مدينة تعز القاضي علي بن عبد الله الأكوع قادمًا من مدينة صنعاء، ومعه حُزمة رسائل من الوالي العثماني السابق محمود نديم الذي آثر و900 تركي البقاء في خدمة دولة الإمامة المتوكلية، وقدم الأخير نصائحه لأولئك المشايخ بالدخول في طاعة الإمام يحيى، وأشاد به، وخوفهم من الارتماء في أحضان الإنجليز، وقد نجح ذلك الرسول في خلق قناعات جديدة، بعد أنْ استعمل سياسة الترغيب والترهيب في آن.
وقيل أنَّ الإمام يحيى راسل – أيضًا – بعض مشايخ تعز وإب المُؤثرين، وخيرهم بين الاستسلام له ولحكمه أو الحرب، وما هو مُؤكد أنَّه – أي الإمام – استدعاهم إليه بلطف، وتوجه – بالفعل – وفد منهم إلى صنعاء، والتقوا به يوم دخوله ذات المدينة 19 نوفمبر 1918م، رحب بهم أيما ترحيب، وقدم لهم الوعود بإبقائهم في مراكزهم، وإعفائهم من أي استحقاقات مالية إنْ هم دخلوا في طاعته.
تصدر ذلك الوفد أحمد بن علي باشا الذي عينه الإمام حَاكمًا للواء تعز، كونه قاسمي من أسرته، ويرجع نسبه لأحمد بن المُتوكل قاسم بن الحسين الذي كان أميرًا لتعز ذات زمن، وتوفي فيها 1750م، وذلك بعد أن أعلن نفسه إمامًا، وتلقب بـ (الهادي)، وبقيت فيها ذريته، وهم من يُعرفون بـ (بيت الباشا).
وضم الوفد القاضي عبد الرحمن الحداد، الذي كان مُتحدثًا رسميًا باسم مشايخ المناطق الوسطى (أعضاء الوفد)، وأبوبكر الحداد، وعامل إب من قبل الأتراك العلامة إسماعيل باسلامة، وقد أبقى الإمام يحيى الأخير في منصبه. وضم الوفد – أيضًا – أربعة من أولاد الشيخ علي عبد الله سعيد من مشايخ العدين، والشيخ محمد عبدالوهاب من مشايخ إب، والشيخ محمد عايض العقاب من مشايخ حبيش، والشيخ منصور بن علي باشا، والشيخ محسن بن علي باشا، وابنه علي، والشيخ محمد عبدالواحد، والشيخ أحمد ناصر الكرماني نائبًا عن عامل القماعرة الشيخ الكهل محمد ناصر مقبل، الذي اعتذر عن الحضور بالمرض، وقد كانت وفاته بعد مرور عامين من مرضه ذاك.
وناب عن الحجرية في ذلك اللقاء الشيخ عبد الواسع نعمان الذي حظي بــ «إقبال مولانا الإمام وإسعاده، ونال الالتفات الكلي»، حد توصيف المُؤرخ عبد الكريم مطهر، وقد عينه الإمام يحيى حاكمًا على الحجرية، وأرسل معه 200 عسكري من خولان، يساعدونه في ضبط أمورها، وعين أخاه الشيخ عبد الوهاب نعمان عاملًا لذلك القضاء. وقد بايع أولئك المشايخ الإمام يحيى مُبايعة جماعية، ورفضوا – في المقابل – تسليمه رهائن الطاعة.
بعد مرور ستة أشهر من انعقاد مؤتمر العماقي السابق ذكره، عقد مشايخ تعز وإب مُؤتمرًا آخرًا في مدينة القاعدة مايو 1919م، وذلك بالتزامن مع انتفاضة حبيش، لم يشر المُؤرخون اليمنيون لذلك المؤتمر لا من قريب ولا من بعيد، باستثناء المُؤرخ مطهر الذي أشار إليه إشارة عابرة، حيث قال: «أثناء ظهور الخلاف من أهل حبيش كثر من مشايخ اليمن الأسفل التلاقي إلى محلات مخصوصة، ومن أكبر اتفاقاتهم ما حصل من اجتماعهم في القاعدة، وتداولهم للمُراجعة والإفادات للخطة التي يبنون عليها شئونهم، وكانوا ينفصلون على غير رابط، كما بلغ، ولم ينتظم لهم أمر ينافي المصالح الإمامية؛ بل لم يجسر أحدهم على إظهار رأيه فيما يخالف الطاعة، إلا أنَّه ظهر من حالهم أنَّ كل واحدٍ منهم يريد التصدر على غيره، وتوليه للزعامة على الكل، فكان ذلك من أقوى الأسباب في تنافر طباعهم فوق ما هم عليه قديمًا في المنافسة».
وفي المقابل انفردت وثيقة بريطانية بالإشارة إلى نجاح ذلك المؤتمر، وأنَّ المُجتمعين اختاروا الشيخ محمد ناصر مُقبل – لم يحضر مؤتمر العماقي السابق ذكره – رئيسًا لهم؛ لما يمتلكه من أسلحة تركية تُمكنه من مُقاومة الزحف الإمامي، وهي أسلحة كثيرة سبق للقائد علي سعيد باشا أنْ أعطاها الشيخ المذكور كمكافأة له ولأبناء تعز وإب على موقفهم المُساند للأتراك طيلة سنوات الحرب العالمية الأولى، إلا أنَّه للأسف الشديد لم يحسن استغلالها (1).
حصول الاضطراب
لم يكن الوفد الذي توجه لمُقابلة الإمام يحيى مُمثلًا لغالبية سكان تعز وإب، الذين لم يكونوا يَرغبون أصلًا بالانضمام إلى حكم الإمامة، والأكثر أهمية أنَّ بعض أعضاء ذلك الوفد لم يكونوا – رغم اختلافهم – راضين عن ذلك الإلحاق، وكانت لهم نزعة استقلالية، وقد بدأت بعودتهم إلى مناطقهم الاضطرابات.
كانت القماعرة أولى القبائل تمردًا تحت قيادة شيخها محمد ناصر مقبل، والعدين تحت قيادة أولاد الشيخ علي بن عبد الله باشا، ومدينة تعز تحت قيادة أحمد بن علي باشا، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «بلغ إلى مَولانا الإمام حُصول الاضطراب في جهات اليمن الأسفل، وعدم ثبات أقدام الذين توجهوا من المقام الشريف بعد أخذ العهود عليهم، فوقف أكثرهم مَوقف المُتردد».
ألصق الباحث زيد بن علي الوزير بغالبية أولئك المشايخ تُهمة التواصل مع الإنجليز، فيما لم تشر الوثائق البريطانية لذلك إلا لماما، واكتفت بِذكر أسماء أخرى ذات حضور باهت، باستثناء الشيخ عبد الوهاب نعمان مُقبل.
وهذه الرسائل الإخبارية – مثلًا – التي بعث بها المقيم السياسي في عدن إلى المندوب السامي في القاهرة، أكدت على قيام بعض مشايخ تعز وإب والمخا بالاتصال بالإنجليز، مثل: الشيخ عبد الله عبدالرحيم قاسم، والشيخ أحمد أمين قاسم، وهما من مشايخ الحجرية، وقد طالبا الإنجليز مساعدتهما ضد الشيخ عبدالوهاب نعمان، فيما حظي الأخير بدعم الشيخ عبدالحق الأغبري، بعد أنْ راسل الإنجليز ليتأكد من مسلك حكومتهم تجاه اليمن، وحظي أيضًا بمساندة شيخ بني يوسف عبدالجليل ياسين، الذي راسل هو الآخر الإنجليز طالبًا مساعدتهم ضد التوغلات الإمامية، إلا أنَّ طلبه رُفض بأدب.
وذكرت إحدى الوثائق اسم شيخ بني عُمر عبدالرب المعمري الذي توجه إلى عدن وقابل الميجر (الرائد) رالي، ومعه رسالة توصية من قبل الشيخين محمد ناصر، ومحمد حسان سنان، ولا يستبعد أن تكون له – هو الآخر – مطامع استقلالية على حساب زعامة الشيخ عبد الوهاب نعمان، ويُؤكد ذلك ما جاء في تلك الوثيقة: «وهو – أي الشيخ المعمري – مثله مثل بقية أمثاله يريد أنْ يثبت استقلاله، وأنْ يكون على علاقة مباشرة بنا. يجري حاليًا ترحيله مع هدية مناسبة».
وعلى ذكر الشيخ محمد ناصر (أحد مشايخ المخا) فقد طلب هو الآخر الحماية الإنجليزية صراحةً لا تلميحًا، وكذلك فعل الشيخ ناجي صالح الفتاحي (أحد مشايخ الدريجة)، فيما اكتفى الشيخ عبد الله عبد الوهاب (أحد مشايخ إب) بالمُراسلة عن بُعد.
فور تلقيه أنباء تلك الاضطرابات، سارع الإمام يحيى بإرسال 1,000 مُقاتل، تحت قيادة أحمد بن قاسم حميد الدين، ليتضاعف عددهم مع مرورهم من مدينة إب، وما أنْ دخلوا مدينة تعز – أواخر ديسمبر من العام 1918م، حتى قاموا بنهب مخازن الأسلحة في قبة الحسينية، ومنازل المواطنين المجاورة، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «وحصل من المجاهدين في تلك الأثناء الإقدام إلى انتهاب المؤنة من مخزنها في تعز، وكانت شيئًا كثيرًا.. فكان ذلك من أسباب فشلهم، وسقوط هيبتهم من القلوب».
استنجد أبناء مدينة تعز بمشايخ جبل صبر والأفيوش (إحدى مناطق خدير)؛ فأمدوهم بالمقاتلين، وذلك بالتزامن مع وصول إسماعيل الأسود – أحد الضباط الأتراك – قادمًا من ريمة، ومعه عدد من الجنود، سلم الأخير الأسلحة التي بحوزته لثوار تعز، وشاركهم حربهم ضد المُتفيدين، وأجبروا الأخيرين على مغادرة مدينة تعز بعد أسبوع من مقدمهم، أما الأسود فقد مضى في طريقه إلى عدن، وهناك سلم نفسه للإنجليز.
وذكر المُؤرخ الإمامي أحمد الوزير أنَّ غالبية العساكر غادروا مدينة تعز وهم مُحملين بالغنائم؛ وأنَّهم لهذا السبب لم يحبذوا الدخول في أي صراع، انقلبوا على قائدهم سيف الإسلام أحمد حميد الدين، وتركوه وقلة من العسكر، ليتقهقر الأخير إلى مدينة إب، وفيها استقر، وفي مدينة صنعاء اعترض الإمام يحيى طريق أولئك المُتفيدين، وأمر بحبس قادتهم، ليس لأنَّهم عاثوا في مدينة تعز نهبًا وخرابًا؛ بل لأنَّهم تركوا قريبه وحيدًا، وقبضوا ثمن ذلك من بعض أعيان المدينة المنكوبة، ومن أحمد بن علي باشا تحديدًا، والجزئية الأخيرة – كما أفاد ذات المؤرخ – إشاعة سبقتهم إلى أذن الإمام.
نقل المُتصرف يوسف بك حسن في مُذكراته جانبًا من تفاصيل تلك الأحداث المُتسارعة، وقال في مُذكرات يوم 10 فبراير 1919م: «بَكَّر إلى عندي – كان حينها في زبيد – داؤود اللاوي، وأخبرني أنَّ العسكر الذين أرسلهم الإمام إلى تعز رجعوا لقيام أهالي الشوافع عليهم، فتولى أمر تعز محمد ناصر باشا، وعبد الله يحيى شيخ جبل صبر.. وظهر للإمام كثير من المعارضين».
فوضى عارمة اجتاحت مدينة تعز وضواحيها خلال تلك الحقبة؛ وذلك نتيجة لغياب حضور الدولة، وغدت تلك الإشكالية – كما أفاد المُؤرخ محمد المجاهد – فجوة صَعُب ردمها، تحدث عنها ذات المُؤرخ بإسهاب، وقال نقلًا عن مُعمرين عايشوا تلك اللحظات القاسية: «وعاد المشايخ إلى حروبهم القبلية، والنهب والسلب، حتى أنَّ إحدى القبائل في ضواحي تعز هاجمت أخرى، وفي لحظات الارتباك، وفرار السكان من الغزاة، صوب أحد المهاجمين بندقيته على شيخ طاعن في السن، وأرداه قتيلًا، فالتفت أحد رفاق القاتل يُعاتبه، فرد هذا ببرود: دع الناس ينقلون أخبار الغزوة، وبأنَّه جرى فيها قتل أيضًا».
في تلك الأثناء، أعلن الشيخ محمد عايض العقاب انتفاضته في حبيش (سبق أن تحدثنا عنها بموضوع مستقل)، وهجم وعدد من أبناء قبيلته على العساكر الإماميين المتواجدين هناك، قتل منهم عشرة، وقيل أكثر، وحاصر الباقين ومعهم قائدهم حاكم حبيش عبد الله بن محمد يونس في مركز الناحية (ظَلْمَة)، لتصل بعد ذلك قوات إمامية أخرى بقيادة عبد الله قاسم حميد الدين، صحيح أنَّها لم تَكبح جماح الانتفاضة العقابية، إلا أنَّها انقذت المُحاصرين، وتعرضت هي نفسها للحصار.
رافق تلك الأحداث عودة الشيخ مُحمد حَسان – السابق ذكره – إلى اليمن، وذلك بعد أنْ أجبره الأتراك تحت قيادة مُتصرف تعز إلياس الجركسي على مُغادرتها؛ بعد تمرده – خلال الحرب العالمية الأولى – عليهم، حظي هذه المرة بدعم الإنجليز، ودخل فور عودته من عدن بصراع مع عامل المخا الشيخ علي عثمان – بداية سنة 1919م؛ والسبب رغبته في الاستحواذ على الأسلحة التي استبقاها الأتراك عند الأخير، كما دخل في صراع مع آل نعمان.
والأسوأ أنّه توجه – بعد ذلك – هو ومجموعة من المشايخ المهادنين للإمامة صوب مدينة صنعاء، بايعوا الإمام يحيى، وطالبوه بمدَّ سيطرته على المناطق الوسطى، وتعيين علي الوزير حاكمًا عليهم، في الوقت الذي كان فيه الإمام قد استعد لذلك، وهيأ عساكره للانقضاض على الأرض الخصبة، والإنسان المُسالم.
انتفاضة حبيش كانت ذريعة ذلك الغزو بصورته الفظيعة، وقع الاختيار حينها لعلي بن عبد الله الوزير (حفيد الإمام محمد عبد الله الوزير) أن يكون أميرًا للجيش، وصدر الأمر المتوكلي إليه بتأديب المُخالفين من أهل حبيش، وإصلاح جهات اليمن الأسفل (2).
وتوالت الثورات
بعد إخماده لانتفاضة حبيش، وعبر بوابة العدين، توجه علي الوزير صوب مدينة تعز، ولم يكد يحط رحاله فيها 9 سبتمبر 1919م، حتى فاجئه بعض أبناء جبل صبر بانتفاضة هدَّت كيانه (سنتناولها تفصيلًا في موضوع مستقل)، استشاط على إثرها غضبًا، واستباح جبل صبر لثلاثة أيام، ووجه بعد ذلك عساكره المُتعطشين للفيد إلى قراه المُتناثرة، فعاثوا فيها نهبًا وخرابًا. وما هي إلا ستة أشهر حتى قام أبناء صَنِمَات بقتل 50 فردًا من عساكره الأجلاف، في حادثة أهتز لها جبل صبر من ذروة رأسه حتى أخمص قدميه.
بدأ الأمير على الوزير – أو الذئب الأسود كما كان يُسمى – أيامه الأولى بمدينة تعز بتوزيع العساكر على مَنازل المواطنين، وإلزام الأخيرين بكفايتهم، وعن ذلك قال المُؤرخ محمد المجاهد: «وأما المنازل فتم اقتحام قسري لها إلا النادر منها.. وهذا بيت بائس تقطنه مجموعة من العجائز حاول العسكر اقتحامه، إلا أنَّ بوابته الركيكة أبت عليهم أنْ تُفتح، وصمدت صمودًا مُعجزًا أمام كل الوسائل التي لجأوا إليها، من خرطوشة البندقية، إلى الصخور التي قذفوها بها، حتى انكسر المهاجمين مذهولين تتردد في آذانهم صرخات النساء، والابتهال إلى الله بدفع البلاء».
وأفاد المُؤرخ المجاهد أنَّ مجموعة منهم كانوا يقطنون عند امرأة مُسنة في حارة عبد الهادي، وأنَّهم «كانوا يخرجون صباحًا للصيد، ويعودون بقرود قتلى، فيكلفون المرأة بطبخها، وإعدادها للأكل، وهذه – أي العجوز – لا تُمانع أمام تأكيدهم أنَّ الفرق محدود ولا يذكر بين القرد والغزال، وكانوا يلحون على المرأة لتناول الغداء معهم، فتعتذر هذه لكل واحد منهم بعبارة تعزية مُحببة: هنيئًا على قلبك يا ولدي».
ومن أظرف ما يروى أنَّ هؤلاء العسكر كانوا يشقون سراويل النساء، ويلبسونها مثل الثوب، ويستخدمون أردية الرأس النسائية (المقارم) مثل الشيلان على رؤوسهم، وأكتافهم. حتى المساجد والمدارس التي تعود إلى العهد الرسولي الغابر لم تسلم من أذيتهم، كسروا زخارفها البديعة، وقبابها العتيقة، بحثا عن الكنوز، ومزقوا مخطوطات مكتبة الأشرفية، وأتلفوا مئات من الكتب النادرة.
توالت خلال عام 1920م الانتفاضات على الذئب الأسود، وفي العدين ثار أهالي العاقبة، وجباح، والأقيوس، وفي بداية العام التالي ثار أهالي القماعرة، وفي أواخر ذات العام، وبعد إخماده لثورة المقاطرة وجه علي الوزير قواته صوب القبيطة، والصبيحة، وكانت أطراف تلك الناحية حد توصيف المُؤرخ مطهر: «مُهملة عن الإصلاح، عريَّةٌ عن الضبط التام الضامن للفلاح».
بالرغم من أنَّ باقي مناطق تعز لم تكن مُستعصية، ورضخت من الوهلة الأولى لحكم الأمير علي الوزير، إلا أنَّ ذلك لم يشفع لها، استمر بإرسال الحملات العسكرية لإذلال المواطنين، وعمل عساكره على اختلاق المعاذير لابتزازهم، ونهب ممتلكاتهم، واتخاذ منازلهم ثكنات ومقرات لهم، وقد كان الوافد الغريب مُجاهدًا في سبيل الله، بينما الرعوي المسكين ابن البلد، واحدًا من إخوان النصارى، يستحق كل ما يجرى له!
ولم يكتفِ الذئب الأسود بذلك؛ بل حارب – وبإذن من سيده – تجار تعز وإب، وانتزع التجارة الخارجية منهم، وسلمها لوكلاء مُقربين منه ومن الإمام، وصارا المُتحكمان الرئيسيان فيها، والمحتكران الوحيدان للمربح منها؛ الأمر الذي جعل رأس المال المحلي المتواضع يفر إلى عدن، ودول القرن الإفريقي، وبعض دول شرق أفريقيا(3).
مُحاولة اغتيال
كان لسقوط قلعة المقاطرة سبتمبر 1921م، والتنكيل بسكان تلك الناحية، أثره البالغ في تنامي ردة فعل الغضب الشعبي تجاه السلطات الإمامية الغاشمة؛ بل أنَّ بعض المشايخ – ممن أسهموا في ذلك السقوط بطريقة مُباشرة أو غير مُباشرة – سيطرت عليهم عقدة الذنب، وبدأوا يفكرون جديًا في استقلال المناطق الوسطى (تعز، وإب).
لم تكن مُساندة أولئك المشايخ للقوات الإمامية التي اجتاحت المناطق الوسطى عن قناعة، وهو ما أكده المُؤرخ أحمد الوزير بقوله: «الحقيقة أنَّ قتال بعضهم مع الأمير – يقصد عمه علي الوزير – كان بفعل الضرورة، وليس بفعل القناعة، وكان الأفراد الذين تحت قيادة بعضهم هم من الشماليين، ولهذا فليس في وسعهم التحرك إلا كما يرغب الجيش فيه.. ولم يكونوا مخلصين للوحدة اليمنية، ولا للحكم الجديد».
ولتحقيق طموحاتهم الاستقلالية، خطط أولئك المشايخ في أواخر فبراير من العام 1923م لاغتيال أمير تعز علي بن عبد الله الوزير، وهُم: عامل الحجرية عبد الوهاب نعمان، وعامل صبر عبد الله يحيى الصبري، وعامل شلف العدين حمود عبدالرب، وعامل جبل راس الجنيد عبد الله النور، ونجل عامل مذيخرة العدين الأكبر أحمد بن حسن علي باشا، وعم الأخير حميد بن علي باشا، وعبدالملك حسن بشر، إلا أنَّ مُحاولتهم تلك باءت بالفشل؛ بفعل الجواسيس الذين رافقوا تحركاتهم خطوة خطوة.
وقيل أنَّ عامل تعز أحمد بن علي باشا المُتوكل أرسل إلى علي الوزير مُحذرًا بـ «إِنَّ»، وأنَّ الأخير فهم أنّ المغزى قوله تعالى في سورة الحجرات: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ»، فاحتاط للأمر، واجتهد في كشف خيوط المؤامرة حتى أخرها، وعن ذلك الباشا قال المُؤرخ المجاهد – ناقل هذه القصة – أنَّه «كان من الحذر إلى الحد الذي يصعب معه أنْ يمسك أحد ما عليه حجة، وأنَّه كان دائمًا يلعب على جميع الحبال، ومحل ثقة كل الأطراف في كل معمعة أو مناورة».
يبدو أنَّ المُؤرخ المجاهد التبس عليه الأمر، وخلط بين اسم الوالد وولده، فعامل تعز أحمد بن علي باشا المُتوكل توفي قبل تلك الحادثة بأقل من عامين، وخلفه في منصبه ولده محمدًا، والأخير – كما أفاد المُؤرخ أحمد الوزير – أرسل بالفعل برسالة إلى أمير تعز علي الوزير، أبلغه فيها أنَّ مشايخ اللواء تواصلوا معه، واجتمعوا في داره مرتين، وأنَّه جاراهم ليطلع على ما يدور في خلدهم.
ويبدو – أيضًا – أنَّ المُؤرخ المجاهد التبس عليه أمر قصة (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ)، فقد أورد الشيخ يحيى منصور بن نصر في كتابه (شعر وذكريات) ذات القصة، وقال أنَّ الشيخ حميد بن علي باشا (عم الشيخ الشاب أحمد بن حسن) هو من راسل الأمير علي الوزير مُحذرًا بـ «إِنَّ»، وأنَّه – أي الشيخ حميد – أراد بذلك الوقيعة بالشيخ حمود عبدالرب، ولو على طريقة (اقتلوني ومالكًا)، وأنَّه توجه بعد ذلك من مدينة تعز إلى مذيخرة، ومن الأخيرة إلى صنعاء، وذلك بعد أفرغ جميع ما في منزله من مقتنيات، حتى لا يطالها النهب، وأنَّه هدأ من روع الإمام يحيى، وأنَّ تصرفه ذاك أنجاه من العقاب.
وفي ذات الصدد قال المُؤرخ أحمد الوزير أيضًا، أنَّ الخاخام اليهودي يوسف الجمل هو من أسر للأمير علي الوزير بذلك المخطط، وأخبره أنَّ اجتماعات المُتأمرين تُدار في منزل عامل تعز محمد بن أحمد باشا، وأنَّ مجاميع مُسلحة قد رتبت في تعز وبعض قرى صبر استعدادًا للحظة الحاسمة، وأضاف ذات المُؤرخ أنَّ أمير تعز لم يكترث للأمر إلا حين أكد له أحد نقباء بني الشليف من نهم ذلك.
كان الشيخ عبد الوهاب نعمان المُتبني الرئيس لتلك الحركة، وقائدها الفعلي، وقد اتهمته السلطات الإمامية حينها بدعمه لثوار المقاطرة، وبأنَّه استغل تذمر العامة من عملية إسقاطها، فأظهر طموحه السياسي بحكم قضاء الحجرية، وبأنَّه عزز ذلك بعقده اتفاقيات صداقة مع سلاطين الجنوب، وبتواصله المُستمر مع عدد من مشايخ تعز وإب لحثهم على التخلص من الأمير علي الوزير، وإعلان الاستقلال.
من جهته أكد المناضل قاسم غالب أحمد أنَّ الشيخ عبدالوهاب نعمان، والشيخ حمود عبدالرب، والشيخ عبد الله يحيى الصبري، والشيخ الشاب أحمد بن حسن أسسوا حينها أول كيان معارض لحكم الإمامة – أسموه بـ (جمعية المشايخ)، وقال قاسم عنها بأنَّها أول جمعية قالت كلمة الحق، وأنكرت الظلم.
لم يشر الأستاذ أحمد محمد نعمان، ورفيق دربه القاضي محمد محمود الزبيري إلى ذلك، وجاء في رسالتهما التي بعثاها – فيما بعد – إلى المناضل عبد الله بن علي الحكيمي: «وقد هربنا نحن إلى مصر خوفًا من صولة الأمير – يقصدان علي الوزير – في ذلك الحين، وعداه الذي نصبه لبني نعمان، رغم إخلاصهم له ولحكومة الإمام، غير أنَّه دخله الحسد عندما كان ينظر ما لهم من مكانة في قلوب الناس، وما هم عليه من رغد العيش، وطيب النعيم، خشي على نفسه أنَّ مكانتهم هذه قد تتحول يومًا إلى قلب الإمام، فيرفعه من تعز، ويودع إليهم إمارة تعز أو بلادهم الحجرية على الأقل، وكيف يمكنه تركها، وقد وجد فيها مرتعًا خصبًا لا يمكنه تركه..».
وفي المقابل هناك من يَرى بأنَّ الإمام يحيى هو من زَرع الفتنة بين الشيخ عبدالوهاب نعمان، والأمير علي الوزير، ليكسر شوكة الأول، ويضعف شعبية الأخير، وقد وجه – فعلاً – بالقبض على الشيخ عبدالوهاب قبل مُحاولة الاغتيال الفاشلة؛ والسبب الاتهامات السابق ذكرها، التي وصلت إليه من قبل جواسيسه في الحجرية، والذين كانوا – أصلًا – من بعض أبنائها.
الرواية الرسمية المتوكلية لم تُؤكد ذلك أو تنفيه، قالت أنَّ الأمير علي الوزير استبقى الشيخ عبدالوهاب نعمان وعددًا من المشايخ بالقرب منه، ولم يأذن لهم بمغادرة مدينة تعز حتى يدفعوا ما عليهم من مُتأخرات زكوية، وأنَّ الأخيرين حين طالت مدة احتجازهم، خططوا لجريمتهم تلك، وعزموا على اغتيال أمير تعز بعد خروجه من صلاة الجمعة في جامع المُظفر، والاستيلاء بمجاميعهم الكثيرة والمُستعدة على منطقة صهلة (دار النصر)، وقلعة القاهرة، ومستودع السلاح، وأنَّهم حاولوا لذات الغرض شراء ذمم بعض العسكر، وأنَّه على ألسن هؤلاء افتضح أمرهم.
وأضافت تلك الرواية أنَّ مشايخ تعز وقعوا على وثيقة كَتبها الشيخ عبدالوهاب نُعمان بخط بيده، مضمونها التعاهد على اغتيال الأمير علي الوزير بالطريقة السابق الإشارة إليها، وأنَّ عامل تعز محمد بن أحمد باشا كان من جمُلة المُوقعين، ولأنَّ الأخير من الأسر العلوية؛ لم يطاله العقاب الآتي ذكره، فقد اكتفى الذئب الأسود باحتجازه في قرية الخسف الواقعة اسفل منطقة صهلة (دار النصر)، وذلك في منزل الشيخ صالح الطماح المُستحدث، والذي تم اتخاذه حينها سِجنًا سياسيًا.
وأكدت تلك الرواية، أنَّهم – أي أولئك المشايخ – أكملوا حلقات تآمرهم بالتواصل مع سلطان لحج عبدالكريم بن فضل، وطالبوا الأخير التوسط لدى الإنجليز من أجل إلحاق مشياخاتهم بالمحميات الجنوبية. وتأكيدًا لهذه الجزئية قال المُؤرخ أحمد الوزير أنَّه شوهد حينها بارجتان بريطانيتان في القرب من ميناء المخا، واستنتج أنَّ هذه الحادثة أظهرت أنَّ مُؤامرة اغتيال عمه الأمير لم تكن داخلية فقط، وأنَّ لها اتصالات خارجية!
أمام تلك الاستدلالات الماثلة، صارت الفرصة مواتية لعلي الوزير بأنْ يَقضي على خصومه بضربة واحدة، وبالمكر والخديعة قبض عليهم جميعًا مارس 1923هـ (رجب 1341هـ)، وكان عامل صبر الشيخ عبد الله يحيى الصبري – حسب رواية حفيده أمين حسن علي الضباب – أول الضحايا، وبعضًا من إخوانه وأولاده؛ كونهم من سكان جبل صبر، ومنزلهم قريب من منطقة صهلة (دار النصر)، حيث يقطن الأمير.
تمَّ بعد ذلك القبض على الشيخ عبد الوهاب نعمان، والشيخ حمود عبدالرب، والشيخ أحمد بن حسن علي باشا، والشيخ عبدالملك حسن بشر، والشيخ الجنيد عبد الله النور، وقد اتهم الأخير بأنَّه صاحب مشورة قتل الأمير بالسم بدلًا من الرصاص، وذكر المحققون أنَّهم وجدوا أداة الجريمة في متاعه.
للصحفي حميد العواضي – حفيد الشيخ حمود عبدالرب – رواية مُتصلة، مفادها أنَّ جده (عامل شلف العدين) حشد حينها الحشود إلى مشارف مدينة تعز، استعدادًا للحظة الحاسمة، لحظة اغتيال الأمير علي الوزير، إلا أنَّ الرياح أتت بما لا تشتهي سفنه. حميد أفاد أيضًا أنَّ جده كان قد تطير شرًا قبل خروجه ذاك، مُستدلًا بمهيد شعبي يؤكد ذلك، هذا نصه:
حمود عبدالرب تحسب واحتسب
وقـــال يا نـاس أنـا نحسي رجب
وتأكيدًا لهذا القول، قال المُؤرخ أحمد الوزير: «وفي المرحلة الأخيرة من المؤامرة كانت رجال من قبائل العدين والحجرية قد ملأت عُزلة الموادم، وعزلة ذمرين.. ورأى كثير من عسكر الأمير بعض أولئك القبائل مُسلحين بالبنادق، مما لفت انتباه بعض الجنود، فاتصلوا بالأمير وأخبروه».
اقتيد بعد ذلك المتهمون إلى مدينة صنعاء مُكبلين بالأغلال، في موكبٍ مهين قاده – كما أفاد المُؤرخ أحمد بن محمد الشامي – القاضي محمود الزبيري (والد الشهيد محمد محمود الزبيري)، وقد استمرت رحلتهم تلك ثمانية أيام، لاقوا خلالها الكثير من الأهوال، أشنعها تقريع العساكر، وسباب العوام.
قيل أنَّ الشيخ محمد صالح قعشة اعترض موكب أولئك المشايخ المهين، ورفض أنْ يمروا في بلده (سمارة) وهم على تلك الهيئة، وأقسم على ذلك، واستضافهم في منزله ليوم كامل، وهو أمرٌ أكده أمين حسن علي الضباب نقلًا عن الحاج محمد عبد الغفور الشهير بـ (الغفوري)، الذي رافق جده في رحلته تلك خطوة خطوة.
ويحفظ لنا الموروث التعزي غنائية حزينة صَورت مَشهد مُغادرة أولئك المشايخ مدينة تعز، جاء فيها:
في ليلـة الاثنـين قـد شــدوا ســــلاطيــن اليمــــن
حمــود عبــدالرب وبـن نعمـان وأحمد بن حسـن
والرابع الفخـري ضرب سيطــه إلى بنـدر عـدن
وفي المقابل تبارى شعراء الإمامة في مدح ذئبهم الأسود (علي الوزير)، وسارع أحدهم بالقول:
مـــا زلت تخـلب القــلـــــوب بفطنة
وقَفَتْ على ســــرِّ الغيـــوب المُبهمِ
عما نــــــواه الخارجون عن الهدى
مـــن كـــل متســم بـــزي المُـــسلمِ
تبًا لـرأي المــارقيــــن فـــإنـــــَّـه
رأي ابن ملجـم في الإمـام الأعظمِ
وجه الإمام يحيى بعد ذلك بالقبض على بيوت أولئك المشايخ، «والاحتياط بما فيها، ليكون من ذلك تدارك ما في ذممهم من أموال الله»، حد توصيف المُؤرخ مطهر. وإيضاحًا لهذا المشهد المأساوي كتب أحد الأحرار الأوائل – يُرجح أنَّه أحمد محمد نعمان – مقالًا في جريدة (الشباب) المصرية، نقل فيه تفاصيل ذلك الجُرم الإمامي، جاء فيه: «ولما فرغ أمير اللواء من القضاء على هؤلاء بعث جنودًا وقوادًا إلى بيوتهم لأخذ جميع ما فيها حتى ملابس الأطفال، وأمر بإخراج نسائهم وأطفالهم مُجردين من كل شيء، وجعل البيوت ثكنات للجند، ونقل كل ما جل وقل، ولم يكتفوا بذلك؛ بل ظلوا ينقرون جدران البيوت ليخرجوا بقية الكنوز، ثم حفروا فناء الدور ولم يتحصلوا على شيء، وبعد هذا بعثوا في طلب من كان يخدم هؤلاء، وقد جاء بهم الجند إلى أمير تعز.. فأمر بتعذيبهم، والإغلاق عليهم بإصطبلات البهائم».
خلف جُدران سجن غمدان (القلعة) المُوحش لقي سلاطين اليمن – كما أفاد عدد من المُؤرخين – حتفهم، تساقطوا فيه الواحد تلو الآخر، وكان أول المتوفين الشيخ الجنيد عبد الله النور، وثانيهم الشيخ حمود عبدالرب 22 مايو 1928م، وقد أفاد حفيد الأخير الدكتور نبيل عبدالرب أنَّ السجانين رفضوا تسليم جثة جده لذويه.
ولم ينج من الموت سوى الشيخ الشيخ عبدالوهاب نعمان، والشيخ الشاب أحمد بن حسن علي باشا، الأول إلى حين، فقد أبقاه الإمام يحيى تحت ناظريه، وعينه مؤقتًا عاملًا لبني مطر، أما الأخير فقد عاصر انبلاج الثورة السبتمبرية، وتولى منصب محافظ محافظة تعز، وفي ديسمبر من العام 1966م كانت وفاته.
وفي رواية مُغايرة لما سبق، وهي – قطعًا – غير أكيدة، قال المُؤرخ أحمد بن محمد الشامي أنَّه تم الإفراج عن أولئك المشايخ بعد أنْ أمضوا في السجن بضع سنين. وقد توافقت شهادة المحامي أمين حسن علي الضباب مع ذلك القول، وأفاد الأخير أنَّ الإمام يحيى أطلق سراح جميع المشايخ المعتقلين، وذلك بعد مرور سنتين من اعتقالهم (1925م)، وأنَّ جده الشيخ عبد الله يحيى الصبري فضل البقاء في صنعاء، واستأذن الإمام في أنْ يبتني لنفسه غُرفتين فوق سور غمدان، وأنَّه ظل فيهما حتى وفاته 1931م.
ومن مُفارقات القدر أنَّ مصير الشيخ المهادن مُحمد حَسان كان كمصير أولئك المشايخ الثائرين، لم يرحم الطاغية أحمد حميد الدين – أمير تعز فيما بعد – كهولته، أرسله إلى سجن حجة ديسمبر 1944م، وهناك مات، وكانت قصته مُختلفة، ونهايته تمامًا كنهايتهم، وبتوصيف أدق كنهاية من قضوا في سجن القلعة نحبهم (4).
نهاية الذئب
بعد حادثة محاولة اغتياله، كان الأمير علي الوزير شديد الحذر والقلق، ويترجم كل حركة وسكنة بحضوره على أنَّها تستهدفه، وبمُبالغة لا تطاق، وعاشت مدينة تعز – تبعاً لذلك – أسوأ أيامها، ودفعت – كما أفاد المُؤرخ المجاهد – ثمنًا باهضًا من استقرارها، أمام عنت العساكر، واستضافتهم الإجبارية في المنازل، بغرض إرهاق الأهالي وإرهابهم.
والأكثر خطورة أنَّه – أي الذئب الأسود – صار بعد تخلصه من أولئك المشايخ حاكمًا أوحدًا للواء تعز، بدت طموحاته الاستقلالية تتبدى، وكان فقط ينتظر وفاة الإمام يحيى ليعلن عن ذلك، وقد فضحت وثائق بريطانية استعداداته تلك، وكشفت أنَّه صارحهم أواخر عام 1934م برغبته بتدريب وتسليح 1,000 رجل صومالي ليكونوا تحت إمرته، وذلك عند حلول اللحظة المُنتظرة، إلا أنَّ الإنجليز الباحثين حينها عن رضا الإمام، والموقعين مع الأخير – في ذات العام – اتفاقية صداقة، رفضوا مُقترحه وبشدة.
وحين توجه الطامح حسين الدباغ إلى اليمن، قام قبل أن يقوم بانتفاضته – من البيضاء – على الإمام يحيى بزيارة مدينة تعز 1935م (سبق أن تحدثنا عن انتفاضته تلك)، والتقى الأمير علي الوزير في مقر إقامته في دار النصر، وقد قدم المُؤرخ أحمد الوزير خلاصة ذلك اللقاء بقوله: «ولا أدري هل عرض الدباغ على الأمير أنَّه سيقوم بثورة على الإمام أم لا؟ إلا أنني أؤكد أنَّ الأمير كان راضيًا عن كل تحركاته».
وقد اعترف عبد الله بن علي الوزير (زوج تقية بنت الإمام يحيى) – فيما بعد – بطموحات والده وأسرته بشكل عام (بيت الوزير) في الانقلاب على بيت حميد الدين، حيث قال: «كنا دبرنا بعض أمر وحركات ونحن في تعز عام 1352هـ (1933م)، إلى سنة 1357هـ، حيث كان نزول أحمد إلى تعز – يقصد ولي العهد – ولكنها فشلت؛ وأعظم أسباب فشلها هو الجهل بالوسائل المجدية، والطرق الناجحة».
الجدير ذكره أنَّ أول تمرد لبيت الوزير يعود إلى سنة 1922م، حيث قام محمد بن علي الوزير – الذي كان حينها نائبًا عن أبيه في قبض واجبات جبل اللوز في خولان – بتشجيع بعض عقال جبل اللوز على التمرد، وحين تم القبض عليهم، تخلى عنهم، ليعاود الظهور من ذات الجبل، بعد أنْ تجمع معه جماعة من بني جبر، وخولان، وبني بهلول، وأعلن نفسه مُحتسبًا، وأصدر منشورًا حدد فيه مطالبه، وشرع في بث رسائله إلى الجهات، مُعترضًا على أسلوب الإمام يحيى في الحكم، إلا أنَّ الأخير قبض عليه، وزج به بالسجن، ليتدخل ابن عمه عبد الله بن أحمد الوزير في الإفراج عنه.
وبالعودة إلى موضوعنا، فقد قال المُؤرخ إسماعيل الأكوع عن الذئب الأسود مُوضحًا: «وبقي علي الوزير واليًا على لواء تعز عشرين عامًا، جمع خلال حكمه ثروة طائلة من مصادر شتى، ووجوه مُختلفة، وعاش عيشة الملوك، حتى حسده الإمام يحيى نفسه»، ليقلب له الأخير بعد ذلك ظهر المجن، عزله من منصبه – أواخر سنة 1938م، وشوه سمعته، ولم يسع ابن الوزير بعد ذلك سوى الرحيل – بداية العام التالي – صوب السعودية، ثم ما لبث أنْ عاد من الأخيرة، مقر رحلته المؤقت، ولكنها كانت عودة خافتة، بعيدة عن متعة الحكم، ولِذة الإمارة.
شَنَّع خلال تلك الفترة أتباع أمير تعز الجديد أحمد بن يحيى حميد الدين على الأمير المعزول أعظم تشنيع، وحملوه مسؤولية التنكيل بمشايخ تعز وإب دون سواه، واتهموه بمحاولة قتل خلفه بالسم، والعمالة للأجانب، وتحت عنوان (كشف الضمير على أسرار علي الوزير) كتب حسين الويسي منشورًا مطولًا، حال الأستاذ أحمد محمد نعمان دون طباعته ضمن فصول كتاب (الرحلة الميمونة) لذات الكاتب، وأعاد المُؤرخ علي محمد عبده – فيما بعد – نشره في كتابه الموسوم (لمحات من تاريخ حركة الأحرار).
ومما جاء في ذلك المنشور المبتور نقتطف: «كان – أي الأمير علي الوزير – في ابتداء أمره يخدم الدين والوطن، ويقول الحق، ثم مال إلى حب الدنيا، فغير خطته، وعدل إلى الطمع، وجمع المال من غير حله، وما زال هذا الداء يسري في قلبه حتى سوده.. وبعد أنْ عميت بصيرته، وركب على ظهر ما سولت له نفسه أنَّ الحالة لا تدوم له إلا بعد الانتقام من ذوي الرئاسة، فرفع إلى جلالة مولانا أمير المؤمنين أيده الله أنَّ فلانًا وفلانًا و.. و.. و.. قد نكثوا بيعتك، وتمالوا على القيام ضد الحكومة، وبهذه الوسيلة تمكن من القضاء عليهم بالسجن والتشريد، ومزقهم كل ممزق»!
وعن الأمير المعزول كتب الشاعر محمد نعمان القدسي قصيدة هجائية طويلة، قال في مطلعها:
ســـــر لا بـــــرحت مـدى الزمان طريدا
أنَّى سلـــــكـــت ولا لـــــقيــــــت ســعودا
كم مــن يـــــد أخليـــــــتـــــها ومــدامــع
أجــــــريـــــتها فـــــــوق الخـدود خدودا
ولكم هتكت محــارمًا وفضــــحت أعـــراضًا
تُصان وكم نكثت عهــــودا
سر غيـــر مــأسوف عليك وهـل تركـــت
مـــــــن الـــبرية صـاحبـــــًا وودودا
ومن طريف ما يروى أنَّ الشيخ عبدالوهاب نعمان، والأمير علي الوزير التقيا قبل قيام ثورة فبراير 1948م الدستورية في منزل الأخير، وأنَّ الضيف كان يُحدق بقوة في أثاث المنزل الصنعاني الفخم، وفي تحفه الثمينة والنادرة، الأمر الذي أشعر مضيفه بالحرج؛ لأنَّ معظم تلك الأثاث كانت من منهوبات داره العتيق في تربة ذبحان، وحين اقتيد الاثنان لساحة الإعدام – بعد فشل تلك الثورة – نُقل عن عبدالوهاب نعمان قوله: «لقد هانت على نفسي محنتي، ما دام آل حميد الدين، وآل الوزير قد نكبوا معًا، حتى يريح الله العباد والبلاد منهما».
وهو نفس الشعور، وذات التوجه الذي لازم ابن أخيه الأستاذ أحمد محمد النعمان الذي قال في كتابه (انهيار الرجعية) أنَّ أذكياء الشعب – يقصد بهم رجالات المُعارضة اليمنية المُستنيرين – استغلوا التنافس القائم بين أسرة حميد الدين، وأسرة الوزير، وسعوا إلى أنْ يضرب الطغيان بعضه ببعض، مثلما يضرب هو الشعب بعضه ببعض.
وقد رثى الشاعر الكبير عبد الله عبد الوهاب نعمان والده قائلًا:
أبي ومــــــن ذا زكيِّ الأصل مثل أبي
كأنَّـــه هـــو والأمـــــلاك إخـــــــــوان
فـــإن يمـــــت فــــأكفُ الأنبــــياء له
نعشُّ، وأجنـــــحة الأمــــلاك أكفـــان
حقائق لافتة، لتاريخ مُشبع بالظلم، بـالخيانة، بـالثورة، الطغاة فيه يقتلون لكي يحكموا، ويستعبدون لكي يسودوا، والعبيد يتجملون لكي يتسلقوا، ويخونون لكي يتشفوا، والاحرار للإنسان ينتصرون، وللأوطان يُضحون، وفي الأخير يذهب الطغاة وعبيدهم إلى مزبلة التاريخ، والأحرار وحدهم هم الخالدون (5).
الهوامش:
- سيرة الإمام يحيى بن محمد حميد الدين المسماة (كتيبة الحكمة من سيرة إمام الأمه)، تأليف: عبدالكريم بن أحمد مطهر، دراسة وتحقيق: د. محمد عيسى صالحية، ج1، دار البشير، عمان، ط1، 1998م، ص 277 – 278 / ج2، ص 38 – 39 – 42 – 48 – 88 / شعر وذكريات، يحيى منصور بن نصر، دار المناهل، بيروت، ط1، 1986، ص 51 – 52 / مدينة تعز غصن نضير في دوحة التاريخ العربي، محمد محمد المجاهد، عدن للطباعة والنشر، تعز، ط2، 2007م، ص 203 – 204 / حياة عالم وأمير، محمد بن علي الأكوع، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء، ط1، 1987م، ص 248 – 274 / حياة الأمير علي بن عبد الله الوزير كما سمعت ورأيت، أحمد بن محمد بن عبد الله الوزير، مركز التراث والبحوث اليمني، ط2، 2020م، ص 194 / التاريخ العسكري لليمن، سلطان ناجي، دائرة التوجيه المعنوي، ط3، صنعاء، 2004م، ص60 / الإمام الشهيد يحيى حميد الدين، أحمد بن محمد بن الحسين، دار المعارف، 2014م، ج1، ص 276 / الوثائق البريطانية، المجلد السادس، ص 274 – 276 – 410 / زورق الحلوى في سيرة أمير الجيش وقائد اللواء، حمود بن محمد الدولة، ط1، منشورات العصر الحديث، 1988م (نسخة الكترونية)، ص 98 – 99 – 103 – 104 – 159 / تاريخ اليمن المعاصر، عبدالوهاب العقاب،ط1، دار رسلان، دمشق، 2009م، ص 31.
- مذكرات المتصرف يوسف بك حسن (1909 – 1921م)، عاديات اليمن، تحقيق: عاصم يوسف حسن، والسفير حسان أبي عكر، الدار التقدمية المختارة، الشوف، لبنان، ص 394 – 404 / كتيبة الحكمة، مطهر، ج1، ص 151 – 275 – 276 – 279 – 280 / ج2، ص 64 – 65 – 66 – 71 – 72 – 80 – 90 / زورق الحلوى، الدولة، ص 59 – 189 / هجر العلم ومعاقله في اليمن، القاضي إسماعيل الأكوع، دار الفكر، ط1، 1995م، ص 189 / عالم وأمير، الأكوع، ص 84 – 280 – 283 – 286 – 343 – 344 – 346 – 347 – 348 / التاريخ العسكري، ناجي، ص 105 / حياة الأمير، الوزير، ص 125 – 126 – 127 – 131 / لمحات من تاريخ حركة الأحرار اليمنيين، علي محمد عبده، ج1، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، صنعاء، ط1، 2002م، ص 50 / غصن نضير، المجاهد، ص 201 – 202 – 204 / ملوك شبه الجزيرة العربية، هارولد جيكوب، ترجمة: أحمد المضواحي، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 1983م، ص 187 / الوثائق البريطانية، المجلد السادس، ص 413 – 433 – 438 – 444 – 630 / التاريخ العام لليمن، محمد يحيى الحداد، ج4، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004م، ص 93 / تاريخ اليمن المعاصر، العقاب، ص 32.
- كتيبة الحكمة، مُطهر، ج2، ص 91 – 95 – 96 – 122 – 123 – 156 – 247 – 333 / حياة الأمير، الوزير، ص 159 / غصن نضير، المجاهد، ص 206 – 207 / نزهة النظر في رجال القرن الرابع عشر، محمد بن يحيى زبارة، مكتب الإرشاد، صنعاء، ط1، 2010م، ص 469 / التاريخ العسكري، ناجي، ص 233 / الوثائق البريطانية، المجلد السادس، ص 410.
- كتيبة الحكمة، مطهر، ج2، ص 382 – 383 – 384 – 385 – 386 / رسالة من الجحيم، غالب قاسم أحمد، عدن، 1958م، ص 10 – 13 / شعر وذكريات، منصور، ص 45 / حياة الأمير، الوزير، ص 195 – 197 – 198 – 199 – 200 – 209 – 587 – 590 – 600 – 607 – 625 / رياح التغيير في اليمن، أحمد محمد الشامي، ط1، 1984م، ص 210 / عالم وأمير، محمد الأكوع، ص 408 – 414 / هجر العلم، إسماعيل الأكوع، ص 189 – 691 / لمحات من تاريخ حركة الأحرار، عبده، ج1، ص 73 – 74 ثمانون عاماً من حياة النعمان، عبدالرحمن طيب بعكر، ط1، 1990م، ص 26 – 27 – 28 – 29 / مُذكرات الرئيس القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني، ج1، ط1، 2013م، ص 127 / غصن نضير، المجاهد، ص 207 – 208 / معالم تاريخ اليمن المعاصر، القوى الاجتماعية لحركة المعارضة اليمنية (1905 – 1948م)، د. عبدالعزيز قائد المسعودي، مكتبة السنحاني، صنعاء، ط1، 1992م، ص 150 – 151 / اليمن الجمهوري، عبد الله البردوني، دار الاندلس للطباعة والنشر والتوزيع، ط5، 1997م، ص 111 – 112 / أهذا هو العدل في اليمن السعيد.. جلد وقهر وكي بالسياخ.. أمير لواء تعز ينتقم من المتهمين بالتآمر عليه انتقامًا لم يروه إلا تاريخ القرون الوسطى، جريدة (الشباب)، العدد 108، 16 مايو 1938م (من أرشيف الدكتور عبدالودود مقشر).
- حياة الأمير، الوزير، ص 333 – 334 / هجر العلم، إسماعيل الأكوع، ص 190 – 191 – 192 – 691 – 692 / لمحات من تاريخ حركة الأحرار، عبده، ج1، ص 75 – 76 – 77 – 78 – 79 – 89 – 92 – 94 – 95 – 96 / ج2 ص 56 / غصن نضير، المجاهد، ص 208 – 209 / اليمن الجمهوري، البردوني، ص 113 – 114/ أشعار الفضول، عبد الله عبدالوهاب نعمان، الهيئة العامة للكتاب، ط2، 2009م، ص 187 / الأستاذ أحمد محمد نعمان المؤلفات المختارة، جمع وإعداد لطفي فؤاد نعمان، رياض الريس للكتب والنشر، ط1، 2019م، ص 296 / المتاهة.. الحلقات المفقودة للإمامة الزيدية في اليمن، بلال محمود الطيب، ط1، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، 2021م، ص 444 – 445 / معارضة القاهرة ودورها في الثورة الدستورية، زيد بن علي الوزير، مجلة المسار، نسخة الكترونية، ص 21 – 22.