بِالتزامن مع قِيام القوات المملوكية بدخول مدينة صنعاء ربيع الآخر 923هـ / مايو 1517م، كان البرتغاليون يتجهون بأسطولهم البحري صوب ميناء جدة، وقد أجبرتهم رياح ذلك الموسم الشديدة على المُغادرة، وكذلك فعلت حمم مَدافع الأسطول المملوكي – العثماني المُرابط في ذات الميناء؛ وما أنْ عَلِم ملكهم مانويل الأول بتلك الانتكاسة، حتى قام بعزل نائبه على الهند لوبوا سوارز، وتعيين لوبر سكويرا بدلًا عنه.
غاية التخبيط
كان حسين الكردي قد عاد فور علمه بمقدم تلك الحملة إلى جدة، قاعدة العثمانيين في المنطقة، ليلقى علي يد حُكامها – الذين سارعوا بالدخول تحت طاعة الدولة العثمانية – مصرعه؛ فحل مُنافسه سلمان الريس محله، في حين عزم نائبه على اليمن برسباي الجركسي على العودة من صنعاء إلى زبيد، تَاركًا في الأولى حوالي 200 مملوكي، ليلقى أثناء مُروره في منطقتي حبيش والشوافي مصرعه، وقد استنقذ الثوار اليمنيون الذين قَاموا بتلك المهمة عامر بن عبدالملك بن عبدالوهاب من تحت قبضته، في حين أقرَّ السلطان العثماني سليم الأول الاسكندر بن محمد خلفًا له.
أدت تلك الأحداث إلى ضُعف سلطة المماليك في اليمن، وتقوى في المُقابل جانب الإمام يحيى شرف الدين، غادر الأخير صومعته، وبث دُعاته، وجعل من مدينة ثُلا عاصمةً مُؤقتة له، وما أنْ أعلن سكان صنعاء والقبائل المجاورة – بتحريض منه – الحرب على الـ 200 مملوكي (السابق ذكرهم)، وأجبروهم على الرحيل، والتوجه شمالًا لمُساندة الحمزات وآل المُؤيدي، حتى انقض على تلك المدينة 8 شوال 923هـ / 23 أكتوبر 1517م، وسيطر عليها وعلى عدد من المناطق المُجاورة، واتخذها عاصمة لدولته.
أفاد المؤرخ النهروالي أنَّ الإماميين استغلوا الخلاف الذي حدث بين السلطان عامر بن عبد الوهاب، وحسين الكردي، وعملوا على تقوية جانب الأخير، حيث قال: «وممن قوى جأشه على ذلك أهل الجبال، من طائفة الزيدية، فإنَّهم كانوا في ضيق وضنك عظيم، مع عامر بن عبد الوهاب؛ لفتكه بهم.. فرأوا ذلك فرصة، فنزلوا إليه، وطلبوا منه مائتي رجل من اللوند، وهم يقومون بجوامكهم ونفقاتهم، ويركبونهم الخيل»، وأضاف أنهم ساندوا – أيضًا – نائبه برسباي في حملته السابق ذكرها، وأردف: «فخرج الأمير برسباي بمن معه من الترك، واللوند، والمغاربة، ومن وافقهم من طائفة الزيدية.. فتوجهوا إلى تعز لمحاربة عامر وذويه».
حَاول بقايا الطاهريين بعد مَقتل آخر سلاطينهم استجماع قِواهم، ولم شتاتهم، واختاروا في عاصمتهم المقرانة أحمد بن عامر بن عبدالوهاب خَلفًا لوالده، ولم يمضِ من الوقت الكثير حتى فارق الحياة محرم 924هـ / يناير 1518م، وذلك بعد أنْ خُطب له في مدينة عدن جمعة أو جمعتين؛ فحل ابن عمه عامر بن عبدالملك بن عبدالوهاب (الناجي من الأسر) محله، وقد سيطر الأخير لبعض الوقت – وفي منتصف ذات العام – على ذمار، التي خضعت – أواخر العام السابق – لحكم يحيى شرف الدين، فما كان من إمام صنعاء إلا أنْ وجه ولده المُطهَّر لاستردادها، وقد نجح الأمير الصغير – ذا الـ 16 عامًا – في ذلك.
تَوجه الأمير عامر بن عبد الملك – بعد ذلك – إلى رداع، لمُحاربة قريبه أحمد بن محمد بن عامر بن طاهر، وأجبره بعد أنْ انتصر عليه على الالتجاء لحصن المدينة، واصطلح معه قبل وصول المطهر إلى تلك الجهة، وقد أقرَّ الأخير أحمد بن محمد حاكمًا لرداع، وعاد أدراجه مزهوًا بغزوته الأولى. في حين توجه والده بداية العام التالي شمالًا، وأخذ عدد من المناطق من مُنافسيه آل المُؤيدي، وفشل في السيطرة على حص مُدَع بالقرب من ثلا، وكحلان عفار، وعِزَّان، وعاث في المناطق المجاورة قتلًا، وفسادًا، وأنهى جولته تلك بصلح مُؤقت مع الحمزات، وعاد – هو الآخر – أدراجه إلى صنعاء، مُكثفًا استعداداته لجولة؛ بل لجولات حاسمة.
توفي الأمير عامر بن عبد الملك – أواخر رمضان 925هـ / سبتمبر 1519م؛ فآل الأمر لقريبه وغريمه الموالي للإمامة، أحمد بن محمد، وعن الأخير قال كاتب سيرة يحيى شرف الدين أنَّه كان مواليًا لسيده الإمام، «وممن رقى في طاعته ومناصرته إلى رفيع المقام»، ثم عاد فاستدرك: أنَّه نقض العهد، وسيطر – في ذات العام – على ذمار؛ وذلك بعد أنْ كاتبه جماعة من أهلها، وأكمل ذلك المشهد بقوله: «فلما رجع الإمام إلى صنعاء، شن عليه الغارات.. فهرب الطاهري.. والتجأ إلى شيخ بني مسلم.. وكان من أنصار الإمام، فأخذ له أمانًا..».
لم يُشر بامخرمة – وهو مُؤرخ عاصر تلك الأحداث – إلى ذلك، واكتفى بالقول أنَّ أحمد بن محمد فشل – بداية العام التالي – في أخذ مدينة تعز من قبضة المماليك؛ الأمر الذي جعل حاكم عدن مرجان الظافري وعدد من مشايخ القبائل يتخلون عن مناصرته، ويختارون الأمير عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن داؤود خلفًا له.
بحلول العام 926هـ / 1520م قام البرتغاليون بمحاولتهم الثالثة للسيطرة على البحر الأحمر، تحت قيادة لوبر سكويرا، لم يتوقف الأخير – كعادة من سبقه – في ميناء عدن؛ بل توجه مُسرعًا صوب ميناء جدة، إلا أنَّ الرياح التي أراد – بتصرفه السابق – أنْ يتلافى خطرها؛ أجبرت أسطوله على الانسحاب، وكذلك فعلت الحشود الكبيرة التي كانت بانتظاره، وقد تَرك قبل عودته إلى الهند بعثة برتغالية في جزيرة زيلع، مهمتها عقد تحالف مع مملكة الحبشة المسيحية.
دخل بقايا الطاهريين – خلال ذات العام – في صراع زاد من إنهاكهم، وجعل الإمام يحيى شرف الدين يأخذ حصن ذي مرمر (الغراس) من تحت أيديهم 19 شوال 926هـ، وجعل حاكمهم على عدن مرجان الظافري يتمرد عليهم، وكان الأخير قد منع أحمد بن محمد من دخول ذات المدينة، وأذن بعد ذلك، وبعد تدخل الوسطاء، لخلفه عبد الملك بن محمد بأنْ يُقيم فيها أيامًا، لتشهد عدن صِراعًا خفيًا بين الحاكم والضيف، لم يذكر المُؤرخ بامخرمة نتائجه؛ لأنَّ تسجيله للأحدث توقف عند نشوبه.
دخل بقايا الطاهريين – خلال ذات العام – في صراع زاد من إنهاكهم، وجعل الإمام يحيى شرف الدين يأخذ حصن ذي مرمر (الغراس) من تحت أيديهم 19 شوال 926هـ، وجعل حاكمهم على عدن مرجان الظافري يتمرد عليهم، وكان الأخير قد منع أحمد بن محمد من دخول ذات المدينة، وأذن بعد ذلك، وبعد تدخل الوسطاء، لخلفه عبد الملك بن محمد بأنْ يُقيم فيها أيامًا، لتشهد عدن صِراعًا خفيًا بين الحاكم والضيف، لم يذكر المُؤرخ بامخرمة نتائجه؛ لأنَّ تسجيله للأحدث توقف عند نشوبه.
كان التحالف الإمامي بين آل المُؤيدي والحمزات، قد وصل حينها إلى أوج قوته، نقض الأخيرون في أواخر عام 927هـ صُلحهم مع يحيى شرف الدين، وتوجهوا بمُعاضدة من المماليك والإسماعيليين جنوبًا، وقد نجح إمام صنعاء – كما أفاد كاتب سيرته – في صد زُحوفاتهم، حاصرهم في عمران مدة؛ حتى أذعنوا للسلم، ثم وقع معهم هدنة لستة أشهر، وبعد مرور عامين، وبعد عدد من المُناوشات، وقع معهم صلحًا آخرًا مُدته عشر سنوات، مُعترفًا هذه المرة بسيطرتهم على قاع البون، وجبل عيال يزيد. وبين الهدنة الأولى والصلح الأخير، توجه ولده المُطهر بداية عام 928هـ / 1514م إلى عمران، فأخذها – كما أفاد حفيده المُؤرخ ابن لطف الله – أخذة رابية، قتل من قتل، وأسر من تبقى، وعاد إلى صنعاء وقد تركها أطلالًا دارسة، وخرابات عابسة، وغنم فيها سلاحًا، ونقدًا، وبقرًا، وغنمًا، وخيلًا.
وبالعودة إلى ذكر صراعات بقايا الطاهريين، فقد وجدنا لعبد الملك بن محمد ذكر في الأحداث التالي والآتي ذكرها؛ وهذا يُرجح أنَّه خرج من صراعه مع مرجان الظافري (الذي انتهى ذكره) ظافرًا، حيث قام بالسيطرة على منطقة الحقل – القريبة من ذمار رجب 929هـ، ليعود أدراجه خائبًا؛ وذلك فور سماعه بتوجه المُطهر إليه. أما ابن عمه ومُنافسه أحمد بن محمد، فقد كان له موقف مُغاير، لخصه المُؤرخ الإمامي ابن المفضل بقوله: «ووصل ابن عمه.. الذي كان في رداع إلى حضرة المطهر مُسلمًا ومُستسلمًا، فأحسن إليه، وخلع عليه، وأركبه فرسًا من الجياد، وأعاده إلى محله أحسن معاد».
أعداء الله
كمن سبقه من أئمة، صير يحيى شرف الدين نفسه مُدافعًا عن العقيدة، داعيًا أنصاره إلى قتال مُعارضيه، الذين أسماهم بـ (البغاة، والطغاة، وأعداء الله)، رغم أنَّ أغلبهم كانوا من بني عمومته، ومن مُعتنقي مذهبه، واستباح تبعًا لذلك نفوسهم، وأموالهم. وكم من أرواح أزهقت، وقبائل هُجِرت، وقُرى دُمرت، ومدن نُهبت، بذرائع واهية، ما أنزل الله بها من سلطان.
كان عداء يحيى شرف الدين الأكبر، وتنكيله الأشنع والأفظع في حق الإسماعيليين، الذين أسماهم بـ (الطائفة الغوية)، والمُنتشرين حينها في همدان الصغرى، ويريم، وإريان، ونجران، وحراز، وقام بالتنكيل بهم في مراحل زمنية متفاوتة، وبنفس التراتبية المكانية المذكورة. وقع في البدء مع كبيرهم الداعي حسين بن إدريس بن حسن بن الأنف صلحًا مُدته عشر سنوات رجب 929هـ / مايو 1523م، ليعلن بداية العام التالي حربه عليهم، ناقضًا لذلك الصلح.
بالتزامن مع إعلان إمام صنعاء حربه على الإسماعيليين، قام عدد من المماليك من طائفة اللوند بقتل والي زبيد كمال الرومي، وجعلوا اسكندر القرماني بدلًا عنه، وصارت البلاد – كما أفاد المُؤرخ النهروالي – مخبطة غاية التخبيط؛ الأمر الذي جعل نائب جدة حسين الرومي يتوجه – مرة أخرى – إلى ذات الجهة رجب 930هـ، مسنودًا هذه المرة بسلمان الريس، القادم لتوه من القاهرة، ولم يكادا يسيطران بعد معركة كبيرة على زبيد، وينفيان حاكمها السابق؛ حتى دبَّ الخلاف بينهما، وقد رجح المماليك وسكان المنطقة كفة حسين، في حين عاد سلمان أدراجه خائبًا.
قال المُؤرخ النهروالي إنَّ خطر البرتغاليين امتد – حينها – إلى جنوب البحر الأحمر، عبر جيوب لهم تمركزت في جزيرة كمران، وأنَّ سلمان الريس دفع فور وصوله ضررهم، وقتل منهم جماعة، وأسر جماعة، ونظف ساحل اليمن منهم. وأشاد ذات المُؤرخ بحسين الرومي، وقال: أنَّ أهل اليمن أحبوه، وأنَّ نيران الفتن سكنت في عهده.
وصلت في العام التالي حملة برتغالية إلى ميناء عدن (931هـ)، وقد أجبر قائدها هايتوردي سلفيرا عبد الملك بن محمد على عقد معاهدة يلتزم فيها بدفع جزية سنوية، وأنْ يفتح ذات الميناء لسفنهم، إلا إنَّ نائب ملك البرتغال في الهند الطامح لفرض السيطرة التامة على المراكز التجارية اعترض عليها.
بالتزامن مع وفاة حسين الرومي 932هـ، ولمُواجهة الخطر البرتغالي، جهز الوزير إبراهيم باشا حملة عسكرية مُكونة من 20 سفينة، و4,000 جندي، وأرسلها من السويس إلى اليمن، وجعل عليها الأميران سلمان الريس، وخير الدين حمزة، وقد وصلت مطلع العام التالي إلى وجهتها، وذلك بعد أنْ عاثت – وعلى مدى أربعة أشهر – في مدينتي جدة ومكة نهبًا وخرابًا؛ الأمر الذي مهد لفشلها، وجعلها مطية لأطماع قائدها الأول.
سبق أنْ تحدثنا عن خلاف الأميرين سلمان الريس وحسين الرومي، وما لم نتحدث عنه أنَّ الأول جاء من القاهرة مُنتقمًا، وأنَّ الأخير أناب عنه قبل وفاته مصطفى شلبي، لتشهد سواحل اليمن الغربية – بمجرد وصول تلك الحملة – جولة من الصراعات المملوكية، انتهت – كما سيأتي – بمقتل شلبي.
كانت مدينة تعز خلال السنوات الماضية خاضعة لسيطرة المماليك، وتَعاقب على حُكمها عدد من أمرائهم، أبرزهم: رمضان الرومي، ودلو علي الطويل، وما أنْ أستعاد الأمير الطاهري عبدالملك بن محمد السيطرة عليها، وعلم – أثناء مكوثه فيها – بتوجه 200 فارس مملوكي إلى موزع، حتى توجه بقواته إليهم، قتل من قتل، وأجبر من نجا منهم على العودة إلى زبيد؛ الأمر الذي أثار غضب مصطفى شلبي، استمال الأخير المماليك الذين قدموا مع سلمان الريس، وتوجه بقوات كثيرة إلى تعز، وحظي بمولاة الأمير الطاهري أحمد بن محمد، ووصلت قواته بمساعدته إلى المقرانة، ونشر الرعب في معظم المناطق الشمالية، وتمكن بعد معارك محدودة من أسر الأمير عبدالملك، الذي تحصن لمدة في حصن مَصْرح بالنادرة، وقام بعد أنْ سامه سوء العذاب بقتله.
حاول المماليك – حينها، وكما أفاد المُؤرخ بافقيه – السيطرة على عدن، إلا أنّهم فشلوا في ذلك، ليقوم بقايا الطاهريين في ذات المدينة باختيار أحمد بن محمد بن عبد الملك خلفًا لأخيه القتيل، وهو غير الأمير أحمد بن محمد بن عامر السابق ذكره. كان ذا شخصية ضعيفة، خذل من اختاروه من أول وهلة، وتوجه بعد أنْ عجزوا عن ثنيه إلى بلاد المهرة، وذلك بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الصراعات المملوكية، التي انتهت جولتها تلك بمقتل مصطفى شلبي محرم 934هـ / أكتوبر 1527م، وحلول سلمان الريس محله.
بعد مُغادرة حَاكمهم الضعيف، أراد أهالي عدن تسليم مَدينتهم للمماليك، إلا أنَّ عبدالصمد بن إسماعيل، من أجمعوا على اختياره خلفًا لذلك الحاكم، لم يوافقهم، وبصفته أحد موالي بني طاهر، دعاهم لمُراسلة الأمير الشاب عامر بن داؤود، وقبل مقدم الأخير بعدة أيام، زار عدن صفر سلمان صفر 934هـ، مُوفدًا من قبل سيده سلمان الريس، وعقد مع عبدالصمد صلحًا، نص على أنْ تكون السِّكة والخطبة باسم السلطان سليمان القانوني، وبوصول عامر نُقض الصلح، ونُفي عبدالصمد إلى زيلع.
استغل الأمير الزيدي المُطهر شرف الدين تلك الأحداث، وتوجه – خلال ذات الفترة – جنوبًا، وغزا – كما أفاد كاتب سيرة والده – بلاد هداد، واستولى على ما فيها، وأضاف ذات المُؤرخ مُتحدثًا عن ذات الأمير: «وانبسطت اليد الإمامية على صوافيها، وغنم أغنام البدو آل ضبيان، وأسر من شياطين الأسناف خمسة عشر رجلًا، ولما رجع إلى مخيمه، أمر بقطع أيديهم، وأرجلهم..».
واصل المُطهر توغله جنوبًا لمُحاربة الإسماعيليين، وبقايا الطاهريين، وأسر في يريم الداعي الإسماعيلي علي بن جعفر، وسيطر بعد أنْ راسله المماليك المتواجدين في المقرانة، وأظهروا له الموالاة، على ذات المدينة 13 صفر 934هـ / 7 نوفمبر 1527م، ثم رداع، وقبلها دمت، وجبن، وفي الأخيرة نهب مكتبة السلطان عامر بن عبدالوهاب، العامرة بآلاف المُصنفات، كما أخرب خلال حملته – التي استمرت أربعة أشهر – عددًا من الحصون والقلاع، وذلك بعد أنْ قام بأخذ ما بها، وكان جملة ما نهبه من حصن المقرانة حمولة 200 جمل، جلها مَدافع وآلات رفيعة من النحاس الغساني المُرصع بالفضة.
وبالعودة إلى أخبار سَلمان الريس، فلم يكد ينتهي ذلك العام حتى لقي مَصرعه، وعلى يد أنصار من قدم معه، خير الدين حمزة؛ ليؤول حكم المماليك إلى ابن أخته مصطفى بيرم، الذي استولى على زبيد شعبان 935هـ، وأخذ بثأره، ولأنَّه كان ذا نزعة وطنية، مُستشعرة للخطر البرتغالي، أناب عنه علي الرومي، وتوجه – قبل أنْ ينتهي ذلك العام – جنوبًا، ومعه حشد من أنصار خاله، وصفر سلمان الذي جعله وزيرًا له.
كانت وجهة بيرم الأساسية، مملكة كجرات الإسلامية في الهند، مُساندًا لسلطانها بهادر شاه، وقد عَرَّجَ قبل وصوله إليها على مدينة عدن ذي القعدة 935هـ، وحاصرها لخمسة أشهر، وفشل في أخذها. لتشهد مدينة زبيد – حينها – صراعًا بين – نائبه عليها – علي الرومي واسكندر بن سولي، وهو الصراع الذي انتصر فيه الأخير، وقد كان سولي – كما أفاد المُؤرخ النهروالي – نافذ الأمر، مقبول الكلمة، باسط اليد.
بعد مُغادرة الأمير بيرم بخمسة أشهر، وصلت إلى عدن حملة برتغالية بقيادة هايتوردي سلفيرا 11 شعبان 936هـ / 9 أبريل 1530م، وقد أجبر الأخير الأمير عامر بن داؤود على توقيع معاهدة جديدة، ألزمه فيها بالخضوع، ودفع ضريبة سنوية، وأنْ لا تتجاوز سفنه عتبة باب المندب.
ولم يمض من الوقت الكثير، حتى قام الأمير عامر بالقبض على الأربعين برتغالي الذين استبقاهم في مدينته، واستخدمهم في صناعة أسلحته، وزاد على ذلك بأنْ دخل تحت طاعة العثمانيين، وبدأ بشن غاراته على مناطق الإماميين، وتعرض بالقرب من مدينة ذمار لهزيمة قاسية 15 شوال 938هـ، على يد المُطهر شرف الدين. وقد أثنى عليه المُؤرخ النهروالي قائلًا: «كان شابًا كريمًا، جوادًا حليمًا، مُحسنًا إلى الناس، باسطًا لهم وجه اللطف والإيناس، يُعظم الشرع الشريف، ولا يخرج عن حكمه، ويوقر من وفد إليه من العلماء، ويكرمه لعلمه».
اقتناص اللحظة
الإمامة الزّيدِيّة تاريخ طويل من انتهاز الفُرص، واقتناص اللحظة، وتجدد الأحلام، تفاصيل تمددها وانكماشها خلال الـ 1150 عامًا الفائتة، تتشابه، تتكرر، مات إمام، قـُتل إمام، ظهر إمامان، ظهر أكثر من إمام، القوي – في النهاية – يفرض نفسه، ويقضى على مُنافسه، ويستحوذ على كل شيء، والضعيف ينكمش، ويكون مصيره السجن أو الموت اغتيالًا. والهادوية كمذهب لا تعترض على وجود إمامين في وقت واحد؛ ودليلهم على ذلك تعدد الأنبياء في الزمن الواحد! والاستدلال الأبرز لتحقق ذلك التشريع تجسد أكثر خلال الفترة التي نحن بصدد تناولها، حيث شهدت الجغرافيا الزّيدِيّة وجود دولتين للإمامة، واحدة في صنعاء، وأخرى في صعدة، وتنافس على حكمهما عدد من الأئمة.
بعد أكثر من 15 عامًا من الحروب والصراعات بينه وبين بني عمومته الحمزات، وآل المُؤيدي في صعدة، عزم الإمام يحيى شرف الدين على التوجه شمالًا، ولم يعدم المُبررات الدينية المُحفزة لذلك؛ فأهالي خولان الشام – حد توصيف كاتب سيرته – في جاهلية جهلاء، لا يدينون بشرع، ولا يعرفون من القواعد الإسلامية أصلًا ولا فرعا، واستثنى المُؤرخ ذاته سكان مدينة صعدة، فهؤلاء حد توصيفه من أخيار الشيعة، ودعائم الشريعة، لولا أنْ تحكمت بهم الدول الظالمة، وختم ذلك المُؤرخ المُتعصب تشنيعه بالدعاء إلى الله بأنْ يُنقذ هؤلاء من مهاوي الضلال، وأنْ يتفيأوا من الإيمان والهداية في أوسع ظلال.
بعد حروب وخطوب يطول شرحها، تخللها كثير من السلب، والنهب، والتشريد، وبعد عام هجري كامل من دخوله مدينة صعدة، تمكن يحيى شرف الدين من دخول مدينة نجران 22 صفر 941هـ / 1 سبتمبر 1534م، وعن انتصاره ذاك قال كاتب سيرته: «وهذا الفتح من غُرر الفتوح المشهورة، وعظم المنوح المشكورة، فإنَّ أهله – يقصد سكان نجران – أهل عناد للأئمة، ومر على ذلك خلف عن سلف من هذه الأمة»، وقد استمر أهالي نجران وبالأخص الإسماعيليون منهم في المقاومة، حتى نكلت القوات الإمامية بعد ثلاثة أعوام بهم، وقتلت قائدهم يحيى الداعي.
دخل بعد ذلك الحمزات في طاعة الإمام المُنتصر، وأذن لهم الأخير بالعودة إلى الجوف. وكان في المُقابل كثيرًا من آل المُؤيدي قد سبقوهم في إعلان الطاعة، أما إمام صعدة مجد الدين بن الحسن المُؤيدي، فقد انقطع في منطقة الحرجة للعبادة، وفي أواخر العام التالي كانت وفاته. وعلى خلاف هؤلاء خرج الأمير يحيى السراجي عن طاعة يحيى شرف الدين، وانضم لمناصرة الأمير عامر بن داؤود.
وكان الأمير عامر قد استغل توجه يحيى شرف الدين شمالًا، وطول مكوثه في تلك الجهة، وأرسل جنوده للهجوم على الأطراف الجنوبية لدولة ذات الإمام، واستفاد أكثر من انضمام يحيى السراجي إلى صفه، وصيَّره قائدًا لإحدى حملاته، وقد سيطر الأخير على رداع، ثم موكل، وفي الأخيرة باغته الأمير المُطهَّر بجيش جرار 14 ربيع الآخر 941هـ / 22 أكتوبر 1534م، وهزمه شرَّ هزيمة، وقتل 300 جندي من أصحابه، واقتاده و2,300 أسيرًا إلى ساحة الإعدام.
وفي ذات المنطقة، وقبل أنْ ينتهي ذلك اليوم، أمر المُطهَّر جنوده بحزَّ رأس 1,000 من الأسرى، حتى اغتمرت حوافر بغلته بالدم، ثم أجبر من تبقى منهم بحمل الرؤوس الدامية إلى صنعاء، ليأمر فور وصوله باحة قصر والده بإلحاقهم بزملائهم، وقيل حول الجزئية الأخيرة غير ذلك، وأنّه – أي المُطهر – اكتفى بإرسال الأسرى، وأنَّه لم يتوجه إلى صنعاء، ولم يأمر بقتل البقية، وهو ما أكده المُؤرخ يحيى بن الحسين بقوله: «ولما وصلت الأسارى والرؤوس إلى المقام الإمامي المحروس، وجه الإمام ببعضها إلى صعدة.. فعظم شأن هذه القضية في النفوس، وإنفاذ النافر الشموس، وقيلت فيها الأشعار الرائعة، والمدائح الفائقة».
بعد أنْ دانت معظم المناطق الشمالية لوالده، وبعد موقعة موكل بأسابيع معدودة، توجه المُطهَّر صوب المناطق الوسطى، مُكررًا غاراته التي كان قد بدأها قبل 17 عامًا، مُتذرعًا هذه المرة بملاحقة عامر بن داؤود، مُبيحًا لجحافله نهب كل ما يصادفهم من أموالٍ، ومواشٍ، وزروع. سيطر على بلاد خبان، ثم المخادر، ثم حبيش والشوافي، ثم جبل التعكر آخر معاقل الأمير عامر 1 شعبان 941هـ / 4 فبراير 1535م، ثم حصون المخلاف، ثم مدينة تعز، وحصنها المنيع، وذلك قبل أن ينتهي ذلك الشهر، وكان عددٌ من الخدم قد سهلوا لقواته دخول ذلك الحصن؛ وذلك بعد أنْ اختلفوا مع أميرهم الضعيف العائد من المهرة أحمد بن محمد بن عبد الملك، وكان مصير الأخير الأسر والحبس في مدينة صنعاء حتى وفاته.
جعل المُطهر على تعز الفقيه يحيى بن إبراهيم النصيري، بعد أنْ استدعاه من صعدة، ثم أدلف راجعًا صوب صنعاء، وفي بداية العام التالي توجه لمحاصرة عدن، وذلك بعد أنْ دانت له المناطق المجاورة، كلحج، وخنفر، وأبين، وقد نجح عامر بن داؤود في صد زحوفاته، وسارع بمراسلة السلطان سليمان القانوني، طالبًا نجدته.
بالتزامن مع وفاة والي زبيد اسكندر سولي، توجه المُطهَّر بـ 20,000 مُقاتل صوب ذات المدينة، إلا أنَّه مني هناك بهزيمة قاسية 7 جمادى الآخر 943هـ / 20 نوفمبر 1536م، نكل المماليك تحت قيادة أميرهم الجديد الناخوذة أحمد الجركسي به وبعساكره شرَّ تنكيل، وأصابوه إصابة بالغة، اختل بسببها قوامه، وأضحت – تبعًا لذلك – الإمامة مُحرمة عليه.
وهكذا دانت مُعظم المناطق اليمنية ليحيى شرف الدين، باستثناء حراز معقل الإسماعيليين الحصين، وكان عددٌ كبيرٌ من أهالي همدان الذين تم نفيهم من قبل قد استقروا فيها، أرسل ذات الإمام بولده شمس الدين إليها، وقد تمكن الأخير في إحدى المعارك من التنكيل بمعظمهم، قتلًا، وأسرًا، وتشريدًا 28 محرم 944هـ / 6 يوليو 1537م.
بعد مرور عام من تلك الوقائع، قاد والي مصر الوزير الثمانيني سليمان باشا الخادم الأرناؤوطي حملة عسكرية كبرى إلى الهند، للقضاء على خطر البرتغاليين المُتجدد، قدرها البعض بـ 20,000 مُقاتل، محمولين على 76 سفينة، عرَّج بهم وبأوامر من السلطان القانوني على عدن 7 ربيع الأول 945هـ / 3 أغسطس 1538م، وقتل غدرًا الأمير عامر بن داؤود؛ الأمر الذي أثر سلبًا على نجاح تلك الحملة.
ذكر المُؤرخ الموزعي أنَّ سليمان باشا قتل عامر بوشاية من يحيى شرف الدين، الذي راسله مُبديًا رغبته في الدخول في طاعة الدولة العلية، مُتهمًا ذات الأمير بالتحالف مع البرتغاليين، وقال كاتب سيرة ذات الإمام أنَّ سيده أرسل برسالة للقائد التركي، ردًا على رسالة وصلته منه، جاء فيها: «وكنا ممن ابتلي في أول أمره بشر هذه الشجرة الخبيثة اللئيمة، حتى اجتثها الله سبحانه على أيديكم المُباركة الكريمة، فإنَّهم أعانوا علينا طوائف الباطل من الرافضة الباطنية، وغيرهم من الفرق الظالمة الغوية».
جعل الوزير سليمان باشا على عدن بهرام بيك، وزوده بـ 500 جندي لحراستها، ثم أكمل مسيره إلى الهند، ليعود أدراجه مُنتصف ذات العام خائبًا، مُتمًا سيطرته على مُعظم الموانئ اليمنية، ثم أكمل مسيره إلى إستانبول، جاعلًا على زبيد مصطفى باشا، الشهير بـ (قرة شاهين)، بعد أنْ قتل غدرًا حاكمها السابق الناخوذة أحمد 8 شوال 945هـ / 26 فبراير 1539م، وقد ابتدأ بذلك التواجد العثماني الأول في اليمن، الذي استمر 100 عام وبضعة أشهر.
وفي بداية العام التالي، وصل إلى الإمام يحيى شرف فرمان سلطاني بتقرير الأحوال، وإخراج القوافل إلى عدن، والأمان والاطمئنان. ولم يكد ينتهي ذلك العام حتى حاول الأميران قرة شاهين وبهرام السيطرة على مدينة تعز ذي القعدة 946هـ، إلا أنَّ عساكر ذات الإمام تصدوا لقواتهما، وأجبروها على العودة من حيث أتت، وقد خلّد الشاعر الإمامي عبد الله بن الإمام يحيى شرف الدين انتصارهم ذاك بقصيدة طويلة، نقتطف منها:
أتــــتها الـروم فــي عــــدد وعــدٍ
علــــى أجنـاســـها تــركًا وغُـــزا
فلما أنْ دنوا من سورها والصدور
بــــغــيـــــضـهم تـــئــــــــــز أزا
قـرتهم دونــــها الأبطـال مــــوتًا
وصبـــــت فـوقهـم بالنـبل رجـزا
فأضحـوا لا تحس لهـــم بحــس
ولم يسمع لهــم في الخـلق ركزا
حمـــى رب الأنام لنــا تـَــــعـــزا
وحق لهـا العُــديــنــة أنْ تُـــعـزا
وهكذا، وفي الوقت الذي كان فيه بهرام حاكمًا على عدن، كان قرة شاهين حاكمًا على زبيد، وقد أنهى الباب العالي بعد مرور عامين ذلك الازدواج، وأرسل بمصطفى باشا واليًا مُعتمدًا على اليمن ذي القعدة 948هـ، وقد اتخذ الأخير من مدينة زبيد مقرًا له، وسمي بـ (النشار) لحزمه؛ ولأنَّه كان ينشر اللصوص وقطاع الطرق إلى نصفين.
قام البرتغاليون في الشهر التالي بمحاولتهم الرابعة للسيطرة على البحر الأحمر، ووصل أسطولهم تحت قيادة نائب ملكهم على الهند استيفاو داغاما إلى ميناء جدة ذي الحجة 948هـ / مارس 1542م، إلا إنَّ القوات العثمانية المُرابطة هناك تحت قيادة علي بيك، وأبناء المنطقة تحت قيادة الأمير أبو نمي الثاني، تمكنوا من التصدي لهم، وأجبروهم على العودة إلى الهند خائبين.
كانت سيطرة الإمام يحيى شرف الدين قد وصلت بداية العام السابق إلى جيزان، وأبي عريش، ليقوم بتقسيم ما تحت يديه بين أولاده الخمسة الأكبر سنًا، مُوجهًا بذكر أسمائهم في الخطبة بعد اسمه، وما هي إلا سنوات معدودة حتى استعر بينهم الخلاف، انحاز الأب لصالح ولده شمس الدين، مُتحمسًا لتوليه الإمامة 952هـ؛ كونه الأكثر علمًا، والأفضل خلقًا، وكون ولده الأكبر االمُطهَّر غير مستوفٍ شروطها.
وفي الجانب الآخر، وبعد مرور أربع سنوات من ولاية مصطفى النشار، أرسل الباب العالي بأُوَيس باشا بدلًا عنه، وقد قَدِمَ الأخير ومعه جيشٌ كبيرًا مسنودًا بالمدافع، مُهمته السيطرة على اليمن ككل، وكبح الهجمات البرتغالية على البحر الأحمر، وكان دخوله زبيد في 1 ذو القعدة 952هـ / 3 يناير 1546م.
أعلن الأمير المُطهَّر تمرده على والده، وراسل الوالي أويس مُعلنًا الطاعة، طالبًا المساندة، وكتب في ليلة واحدة 80 كتابًا إلى قبائل اليمن، حثهم فيها على المُخالفة، ثم وجه جنوده إلى الجراف لمحاصرة والده 953هـ، خلعه عن الإمامة، وفرغه للعبادة، وأصبح الحاكم الفعلي، تلقب بـ (الناصر)، وصك العملة باسمه، وعزل مُعاوني أبيه، وصار الإمام الأعرج في سابقة لم تشهدها الإمامة الزّيدِيّة من قبل.
استمر العثمانيون في إرسال حملاتهم العسكرية، وتحققت لهم السيطرة على صنعاء، وحاصروا الإمام المطهر في ثُلا، ليصالحهم لعدة سنوات. استغل بعد ذلك خلافاتهم، وأعاد السيطرة على كثير من المناطق، وحصرهم في زبيد؛ فجاءوا بحملة كبرى بقيادة والي مصر سنان باشا 30 رمضان 976هـ / 18 مارس 1569م، وحاصروه مرة أخرى في ثلا، وقد تحالف – حينها – عامله على عدن قاسم بن الشويع مع البرتغاليين، باءت مُحاولة الأخير بالفشل، وكان مصيره الموت بحد السيف.
صالح العثمانيون – بعد ذلك – الإمام المُطهر، واعترفوا به حاكمـًا على بعض المناطق الشمالية، على أنْ تكون الخطبة والسكة باسم السلطان العثماني، وعلى أن تبقى حاميات تركية في المناطق الشمالية، لتثبيت حضور الدولة، لتنتهي بوفاة ذات الإمام 980هـ / 1572م إمامة أسرة شرف الدين، ولم يستطيعوا النهوض من جديد رغم عدة محاولات يائسة.
صحيح أنَّ الخطر البرتغالي انحسر – حينها – من مياه البحر الأحمر، إلا أنَّه ظل – لسنوات طويلة – كامنًا مُترصدًا في المحيط الهندي، والبحر العربي، وخليج عدن؛ ولهذا السبب، ولقرب ميناء المخا من مدينة صنعاء؛ عمل العثمانيون على إنعاش ذلك الميناء، وحولوه من قرية صغيرة إلى مدينة كبيرة، وجعلوه ميناء الولاية الرئيسي، وأصدروا قانونًا طالبوا فيه جميع السفن العابرة في البحر الأحمر بأنْ ترسو فيه، وتدفع ضريبة مُرور، ومنعوا السفن الأوربية من أنْ تتجاوز حدوده؛ منعًا لأي تهديد قد يطال الأماكن المقدسة.