من مقدمة عبد العزيز الدوري في الجذور التاريخية للشعوبية
ألَّف كتاب عبد العزيز الدوري: الجذور التاريخية للشعوبية لأول مرة سنة 1960م، في 105 صفحة قام من خلالها بتقديم دراسة حول الحياة السياسية والثقافية للحركات الشعوبية ومحاولة تصويرها في قالبها الواقعي خلال فترات زمنية متتالية، نشر عن دار الطليعة سنة 1961م.
يطرح عبد العزيز الدوري قاعدة في دراسة التاريخ الإسلامي والعربي في مقدمة كتابه معتبرًا أن تاريخ الأمة متصل مترابط إذ يكون سلسلة حلقات متتابعة أو مجرى متصل، يؤدي بعضه إلى بعض، ويرى أن حاضر الأمة نتاج سيرها التاريخي، وبداية طريقها إلى المستقبل، ولذا فلا انقطاع في التاريخ، ولا ظاهرة تبدو فيه دون جذور وتمهيد. (1)
وبهذا المنطلق يؤسس الدوري لمهمة لبحث في (الجذور) لأي مفهوم تاريخي، فلا مجال للتسليم بالقطيعة التاريخية بين السابق واللاحق، بل كل مفهوم ناشئ ضمن حقبة معينة، إنما هو وليد جذور وتمهيدات أدت إليه، وهو نفس المسار الذي حول ارتسامه في كتابه (الجذور التاريخية للقومية العربية) ولكن هذا الأخير لم يكن بذلك الاتزان في معطياته، ولا عانى فيه استقراء مختلف المحطات الأساسية لتكوُّن مفهوم (العربية) عبر التاريخ بشكل تفصيلي، فأضحت نتائجه منفصلة عن واقع التاريخ القديم والمعاصر لفهوم (العربية).
بدأ عبد العزيز الدوري في مقدمة كتابه بالاقتباس عن الجاحظ، الأديب البصري والمعتزلي الشهير، وهو قول أن الله قد “جعل اسماعيل وهو ابن أعجميين عربيًا لأن الله تعالى فتق لسانه بالعربية المبينة على غير التلقين والترتيب ثم حباه من طبائعهم، أي العرب، ومنحه من أخلاقهم وشمائلهم” (2) وهذا تحليل من الجاحظ لمفهوم العروبة، ومحاولة لبناء تصور نظري للجواب عن السؤال “من هو العربي” ليكون: هو من تكلم العربية، وقد طرح الدوري نفس هذا المفهوم في كتابه (الجذور التاريخية للقومية العربية) تجد الدوري يعتبر الجاحظ (255ه) من المتصدين لهجمات الشعوبيين على العروبة 4 مع أنه من أبرز من ألف تحت عنزان “مناقب الترك”.
ولا يعرض الدوري أفكار الجاحظ على النقد، بقدر ما يحاول تسويغها، فلجعل المصادرة أوسع من الحجة، يستأنس بمقولة للجاحظ أن “العربي هو من تكلم العربية”5 فهذا أقرب من جعل مفهوم (العرب) مرتبطا بـ (اللغة) فإن تكلم فارسي العربية، صار عربيًا! فكيف لو جعلنا مفهوم (الفُرس) مرتبطًا باللغة؟ وفقا لهذا المنطق سيكون من تكلم الفارسية فارسيًا ولو كان عربي النسب، فهذا أسلوب ذاتي غير موضوعي.
سبب تأليف عبد العزيز الدوري لكتاب الجذور التاريخية للشعوبية
يعتبر الدوري أن فترات الأزمات في تاريخ الأمة، تكشف عن تياراتها الخفية، أو عن جذور عريقة لا نحس بها إلا أثناء الأزمة، إن الأزمات تلقي أضواء على جوانب القوة الضعف في حياة الأمة بصورة قد تكون أخّاذة أو مريعة. ولم يقيد في الجذور التاريخية للشعوبية أسبابا خاصة لتأليف الكتاب، ولكن أوضح شيئا من أبعاد الحركة المستنيرة في الثقافة العربية المعاصرة، ورأى فيها امتدادا لبعض التصورات الشعوبية المتقدمة.
إذ اعتبر أن “الحركة المستنيرة المعاصرة، تعتمد على فهم الذات، وعلى استيعاب تجارب الأمم وخبراتها، وقد ارتفعت أصوات تدعو إلى نبذ التراث والاستهانة بالثقافة العربية وحملوا على المثل العربية الاسلامية واعتبروا كل التفات إليها رجعية، وتهجموا على الوعي العربي وعلى مفهوم الأمة العربية وراحوا يثيرونها فتنة باسم العنصرية والاقليمية […] ورسموا خطوطا بعيدةً عن التكوين التاريخي المفهوم” (3)
هذا النص، يمثل شعورًا بأزمة تجلي التيارات الغربية في الوسط العربي في صورة النشاط السياسي المنطوي على خلفية أيديولوجية مقاطعة للتاريخ الإسلامي والثقافة العربية، وعليه فقد كان الدوري يفكر بمنطق إبراز الجذور التاريخية لذي الفئة، ولكن هل كان مثل هذا النمط سليمًا في تقصي الشواهد؟
إن الحركات المستنيرة كما أسماها، تدعو إلى نموذج تغريبي على مستويات عدة، كاللغة، والأسرة، والمجتمع، وبنية الدولة ونظامها الاقتصادي أيضا، هي شخصيات عربية تعيش في أوساط عربية، ولم تقدم أدنى تبرير تاريخي لسلوكهاالتغريبي، فالأمر يمثل ثقافة توفيد، على خلاف تلك الأطروحات الشعوبية التي راح الدوري يناقشها، فهي شعوبية خالصة، بمعنى أنها ترمي إلى إعادة إحياء تاريخها القديم، الذي يربط بينها وبينه موضوع العرق، فارسيا كان أو تركي، لا أنها عملت على توفيد تجارب معاصرة لها وأجنبية عن بيئتها. فإعطاء هذه الحركات المعاصرة صفة الشعوبية، ومحاولة رسم تاريخها على هذا الأساس، يضحي العمل النقدي منفصلا عن واقعه.
نطاق الشعوبية، ومسألة التسوية
يرى الدوري أن الحركة الشعوبية من حيث نطاقها، قد “بدأت أول الأمر في أواخر الدولة الأموية وقد اندفعت بقوة في العصر العباسي” (4) لكن هذا الطرح دوما ما يرمز إلى وجود نظامين ينظران لتطور الحركات الشعوبية بنفس المسافة، والصواب أن الثورة العباسية، التي توجت بإسقاط الدولة الأموية وإعلان دولة العباسيين، هي أحد تلك الحركات الشعوبية، بل هي الثورة التي اكتسى فيها الوعي الشعوبي بشيء من الواقعية في التطبيق.
وفي خطبة قحطبة بن شبيب (132هـ) إلى أهل خرسان، وهو أحد نقباء الثورة العباسية، كان يخاطب الثوار قائلا “يا أهل خراسان، هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين، وكانوا ينصرون على عدوهم لعدلهم وحسن سيرتهم؛ حتى بدلوا وظلموا، فسخط الله عز وجل عليهم، فانتزع سلطانهم، وسلط عليهم أذل أمة” يستنفر القوات الخرسانية، لمواجهة العرب في صورة بني أمية.
لم تكن الثورات التي قامت على الحكم الأموي، تفترق من حيث البنية الأيديولوجية إلا بشيء طفيف، فوصال الخط الشعوبي بينها كان بارزا إلى أن تمظهر في صورته القصوى ضمن الثورة العباسية، يقول عبد العزيز الدوري “شارك الموالي في حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي (64ه- 47ه) وفي ثورة ابن الأشعث (83هـ)، وفي حركة الحارث بن سريج المرجئي (116هـ)” (5)
وبهذا أضحت كل ثورة في وجه النظام الأموي، تقوم شرعيتها على محاولة كسر الوعي العربي، مستغلةً الاختلاف العرقي، لتطويعه ضمن رؤى أصحابها السياسية، وفي حين كان بني أمية يعزلون الثورات باعتبارها أقلية انفصالية، كانت القيادات الثائرة حريصة على جعل مثارات الثورة، ذات دوافع عرقية.
فشلت أغلب الثورات التي قادها الشعوبيون الذين كانوا عجمًا، أو تلك التي ساهم الموالي في تشكيل جيوشها بشكل واسع، لكن ثورةً قامت في آخر أيام الدولة الأموية؛ تلقت ذلك المزيج القائم على الرئاسة العربية، والوزارة الأعجمية، وهذا ما سمح لثورة بني العباس أن تلقى استجابة واقعية.
وعوض أن يتحول الأمر إلى الاقتلاع الجذري للعرب، كما سبق في الثورات الراديكالية، صارت السلطة العباسية تعمد إلى تطويع الجانبين، العربي والأعجمي، وتقديم مقاربة بينهماـ تمثلت في التسوية التامة بين الطرفين، وبهذا اتجه الوعي الشعوبي في بدايته إلى نوع اتزان، وتخلى عن الراديكالية، ورضخ إلى مفهوم التسوية في الأعطيات والحقوق والواجبات والمناصب القيادية من حجابة ودور وزارة، بين العرب وبين الأعاجم.
تعاملت الدولة الأموية فيما سبق مع تلك الثورات بمنطق سياسي، فصلت الحركات الثورية عن خلفيتها العرقية باعتبارها أقلية انفصالية لا أقلية عرقية، ولشعورها بخطر من هذا الجانب، عمدت إلى تعريب الدوواوين بشكل كامل، لتضمن حدَّ ورقة الضغط التي كانت تتمثل في العصبة الأعجمية المتغلغلة داخل مؤسساتها.
كان الكتّاب في دواوين الخراج والنفقات في العراق بعد الفتح من الزردشتية، واستمر هؤلاء يحتكرون الكتابة ما دامت بالفارسية حتى تم تعريب الدواوين في العراق في ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي. وقد أدى التعريب إلى استعمال العربية والتأكيد على إتقانها من قبل الكتاب والثانية دخول جل هؤلاء الكتاب إلى الاسلام وإن بقيت منهم قلة تحتفظ بدينها(6). وكانت هذه السياسة التي تمت في ولاية الحجاج، بأمر من عبد الملك بن مروان، ذات صدى سياسي.
كانت عمليات التعريب تمثل تحجيمًا لنفوذ تلك اللوبيات، وبالتالي كان الحقد على شخصية الحجاج بن يوسف الذي ابتدأ ذي السياسة بالغا الآفاق في الدوائر الأعجمية، بصفته أبرز من انتهج سياسة بيروقراطية تقلب موازين القوى في الدواوين ودور الضرب والنفقات.
في موقف الدولة الأموية من الموالي
يقول عبد العزيز الدوري: “كانت قيادة الجيوش في الدولة الأموية مقتصرة على العرب ومع ذلك فإن بعض القادة كطارق بن زياد ومقاتل بن حيان النبطي وبعض الأمراء مثل يزيد بن مسلم أمير أفريقيا كانوا من الموالي. أما مجال القضاء وهو ضرب آخر من الرئاسة يستند إلى العلم والفقه فقد فتح أمام الموالي حتى أن قاضي الكوفة في زمن الحجاج كان سعيد بن جبير وهو مولى، وبعد هذا فإن احتفاظ العرب بالرئاسة يبدو طبيعيا في ظروفهم السياسية والفكرية في العصر الأموي” (7)
في مرحلة الإسلام المبكر، إلى بروز الدولة الأموية، لم يكن للفرد كيان ولا منزلة اجتماعية خارج نطاق القبائل فانتسب الموالي إلى هذه القبائل أفرادا أو جماعات وهو انتساب ينطوي على الحلف يضمن للمولى مكانا في المخطط الاجتماعي فالولاء في هذه الحالة ولاء حلف لا ولاء عتق، إن هذا الحلف فيه شيء من عدم التكافؤ إلا أنه لا ينطوي على مهانة أو احتقار.
وبخلاف ذلك كانت ينتشر في صفوف الموالي والأعاجم أن السلطة العربية متمثِّلةً في الدولة الأموية كانت تعاملهم بشكل مضطهد ومحتقر، حيث الغرهاق بالضرائب والإبعاد عن الإدارة، ومثلت الدعاية الأعجمية لذلك بأمثال عدة؛ منها أن الوعي العربي ضمن الدولة الأموية كان يمنع العرب تزويج بناتهم للموالي، كما كان يطبق عليهم فرض الضرائب بشكل متجاوز لما كان عليه قبل ولاية الحجاج بن يوسف.
ناقش عبد العزيز الدوري مثل هذه الآراء بالعودة إلى المبدأ الذي كان عليه الأمويون؛ لقد استعمل بنو أمية الموالي بكشثرة في الدواوين، والتي مثلت عماد الإدارة المحلية، كما جرى استخدامهم في الجباية والأمور المالية على نطاق واسع، وجرى افتتاح المجالات التعليمية أمامهم، ولكن من دون تسليمهم الرئاسة، فإن السلطة كانت مقتصرة على العرب دون غيرهم، باعتبار هوية الدولة وهوية السلطة، كما أن سمعة الموالي في شقها السياسي لم تلق تقبلًا لدى السلطة الأموية، لما سبق من محاولات دؤوبة لقلب النظام.
ومع ذلك قلدت الدولة الأموية مناصب قيادية لموالي يدينون بالولاء لمصالحها وكفاءتهم كانت مساهمة في استمرار شؤون الدولة، ولم يكن يظهر منهم أي نزوع انفصالي، أو ثوري، أو أي بوادر أدلجة كالتي تمظهرت في الدوائر الأعجمية سابقا، وقد سبق ذكر منصب طارق بن زياد، ومقاتل بن حيان النبطي، ويزيد بن أبي مسلم الذي كان أمير الأمويين على أفريقيا.
أما فكرة عدم تزويج العرب لبناتهم من الموالي، فهذا يرجع إلى التكوين الاجتماعي والأسري للعائلة العربية منذ القدم، خصوصا في بيئة قبلية، تهتم بشكل واضح بالعناية بالأنساب، وفكرة الحرص عدم تزويج البنات من الأجانب، لا تزال متجذرة إلى اليوم في أذهان كثير من العائلات البسيطة، ما يسمى بالزواج من أبناء العمومة، أو زواج الأقارب حصرًا، فكيف بمجتمع كامل يتمحور حول فكرة (النسب).
وبالمقابل قد تجد شعوبا أعجمية وغير عربية، لا ترى بأسا في استبعاد الزواج من الأجانب، ولا يرى في ذلك أي نوع من أنواع الامتهان أو الاحتقار، مع أن الدولة الأموية حينها لم تسن قوانين في منع ذلك، وإنما كانت الفكرة وليدة تفاعلات مجتمعية، ناتجة عن تفكير الرجل في الأخلاق التي سينشأ عليها حفيده، أو حفيدته، في بيت لم يخالط هو ذهنيته وثقافته بالشكل الكامل، وأكثر المناطق التي انحدر عنها هؤلاء الموالي لم يستمر على فتحها قرن حتى.
وفيما يتعلق بالجزية، فإن فرض الحجاج للضريبة كان نتيجة الأزمة المالية التي تعرضت لها الدولة حينها، وقد انتشر في الوعي الشعوبي فكرة أن يتقدم الأعاجم الكتابيون وغيرهم إلى الإسلام في الشهر التي تتم فيه جباية الجزية، ثم يعودون إلى دياناتهم من جديد، الأمر الذي صار معيقا بشكل بليغ لسيرورة العجلة الاقتصادية في الدولة الأموية، وساتدعى ذلك أن يكون الحجاج جناحا بيروقراطيا يعرض هؤلاء المسلمين الجدد على اختبار صحة انتقالهم إلى الاسلام؛ بالنظر في حسن إسلامهم من عدم، وقد جرى اختبارهم بالختان، وإقامة الصلاة، وقراءة القرآن. ومع ذلك كانت الضريبة تفرض بشكل عام، على المسلم، وعلى غير المسلم، لغرض سيرورة مصالح الدولة؛ متمثلة في تحركات الجيش الدفاعي، والفاتح.
هل كان الموالي صنفًا واحدًا؟
عند التعرض لتعامل السلطة العربية مع الموالي في العصر الأموي، يفترض كثير من الكتَّاب أن الموالي قد مثلوا طبقة واحدة، من حيث العرق، واللغة، والمكانة الاجتماعية، وغير ذلك من العوامل المؤثرة، كما كانت الحركات الشعوبية تتعامل مع الموالي عل أنهم صنف واحد تتكلم باسمهم.
تفسير مكانة الموالي، يفترض أن يتعلق أولًا بتباين مكانتهم الاجتماعية بالنظر إلى مصادرهم هم والحالة الاجتماعية التي كانوا عليها حتى قبل دخولهم ضمن الهيمنة العربية، فمنهم من انحدر عن السبي، ومنهم من كان من أسرى الحرب الذين استرقُّوا ثم أعتقوا لعوامل ثانية، ورغم أنهم قلة، لكن الفوارق بينهم وبين غيرهم من العرب، أو بقية الموالي كانت باقية وقوية لهذا العامل.
ومن الموالي من كانوا قياديين في الجيوش، وضباط ذوي مراتب عليا، ومنهم من كانوا من كتّاب الدواوين، أثبتت كفاءتهم في المجال البيروقراطي تميزهم؛ بأن ينالوا أعلى المناصب الإدارية في ظل الدولة الأموية. فتمكُّن هؤلاء ونفوذهم كان أعلى من تمكُّن ونفوذ العرب البسطاء من عامة الناس، فالفوارق الاجتماعية كانت تقع بين العربي والعربي، كما كانت تقع بين المولى والمولى، وبين العربي والمولى في اتجاهين.
وبالمناسبة، كثيرون يفترضون أن الموالي قبل السلطة العربية كانوا يعيشون حالة المساواة الاجتماعية على أكمل وجه، الصواب أن المجتمع الفارسي قبل الإسلام، كان يتشكل من سبع طبقات، طبقة الأكاسرة، وطبقة الأشراف، وطبقة رجال الدين، وطبقة ضباط الجيش ورجال الحرب، وطبقة الشعب وذي تشكل 90% من الفرس قبل الإسلام وكانت طبقة مطحونة اقتصاديًا واجتماعيًا، وطبقة أخرى تسمى بالدهاقين؛ وهم رؤساء القرى وجامعو الضرائب، ويشبهون على الأغلب رؤساء العشائر والقبائل، وإليهم كانت مسؤولية الإدارة الاقتصادية في كل مدينة أو قرية.
وشق كبير من الموالي ممن دخلوا الإسلام في أرض فتحها العرب، وجدوا أن التركيبة الاجتماعية للدولة الفاتحة تقوم على مفهوم القوة العسكرية، والتي كان يشكل أبناء القبائل عمودها الفقري، فضلا عن المساهمة الاجتماعية للقبيلة في النفوذ؛ إذ لا معنى لترقي سلم النفوذ من دون جذور قلبية في كل المجتمع، فصار تحقيق حياة اجتماعية مكينة، بالنسبة لهؤلاء الموالي متعلقا بالدخول ضمن نطاق القبيلة، عبر الانتساب لهذه القبائل انتساب ولاء، وبعد 80 سنة من سقوط دولة بني أمية.
كان أحمد بن حنبل (241هـ) يقول “السنة لا يتزوج العرب إلا بعضهم فأما أن يتزوج الموالي العربيات فإنا نكره ذلك” (8) وهذا راجع لإثارة تلك الدوائر استحقاق المساواة الشاملة في الفترة العباسية عند اتساع الوعي القومي للشعوبيين، ليهيمن على كل ترسبات الفترة الأموية، حتى على مستوى بنية الأسرة العربية كما عهد قبل العصر العباسي.
وبحكم نجاح العرب السريع، وشعورهم بتفوقهم الديني والسياسي والعسكري، اكتسى وجودهم آنيًا بمفاهيم الاعتزاز، ولم يكن طبيعيا أن تحقق الشعوب الأخرى، التي دخلت ضمن السلطان الأموي ذلك التكافؤ الشامل.
وأضحى انتساب الولاء ضرورة اجتماعية، ولم يكن يحمل في طياته معاني الاحتقار أو المهانة، فهو ولاء حلف لا ولاء عتق، وبالتالي حافظ هذا الشق الواسع من الموالي على مكاناتهم، وصاروا بهذا الولاء محصِّلين للحماية وبالمقابل يعززون مكانة أحلافهم ويساندونهم ماديًا إن لزم الأمر.
أسباب تذمُّر الموالي
لم يكن الموالي يعانون من مشاكل عامة، أو اشتراك عام في الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، بل كانت حالتهم متباينة، بين فلاحين، وتجار، وذوي مناصب سياسية وعسكرية، وكان لهم امتداد جغرافي واسع في أرض الخلافة الأموية، عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا، ولم توحدهم أي أيديولوجيا مرجعية، ولكن المنطقة الشرقية؛ أي بلاد فارس كانت تتصف بجذور ميزتهم عن غيرهم من الموالي وكان الدافع الشعوبي الأيديولوجي لديهم متدفقا بشكل بارز.
يقول عبد العزيز الدوري: “إن جل المنضمين إل الدعوة العباسية كانوا من العامة، وهناك مجموعة من الأشراف الفرس أيَّدتها، خاصةً في منطقة خرسان، وبينهم الدهاقين، وهم نبلاء القرى والمناطق، وقد عهد إليهم العرب بجباية الضرائب في قراهم، كما كانوا يفعلون في العصر الساساني، ولذا كانت لهم امتيازات اقتصادية واجتماعية، وقد خسر الدهاقين امتيازاتهم نتيجة التنظيمات التي وضعها نصر بن سيار في أواخر العصر الأموي. وذلك لأنه فرض الخراج على الأرض مهما كان مالكها، وأبقى الجزية، والتي كان الدهاقون وأعوانهم يتخلصون منها فتقع على العامة، فانقلب الدهاقون في السنين الأخيرة على الأمويين وانضم كثير منهم إلى العباسيين” (9)
وبالتالي اكتسبت القوى الشعوبية الفارسية، نوعا من الثقل بانضمام هذه الفئة إلى الثورة، والملاحظ أن عبد العزيز الدوري لم يطل شرح مفهوم الدهاقين ولا اسهب في حقيقة مكانتهم، وكيفية تشكلهم، حتى تكوينهم للوبيٍّ فارسيٍّ متغلغل ضمن مؤسسات الدولة الأموية، وهذا الموضوع يستحق مقالًا خاصًا.
المجتمع الفارسي قبل الإسلام، كان يعبر عن طبقيَّة قاسية، من أكاسرة، إلى طبقة الدهاقين، والدهاقين هم رؤساء القرى وجامعو الضرائب، ويشبهون على الأغلب رؤساء العشائر والقبائل، وإليهم كانت مسؤولية الإدارة الاقتصادية في كل مدينة أو قرية. والدهاقين هم قدماء الإيرانيين ممن ينتمون إلى سلالتي التاجيك والسارت من قاطني القرى التي كانت منتشرة فيما مضى ضمن المنطقة الواقعة الآن بين بلوجستان وأفغانستان، ودهقان تعني الشخص القوي على التصرف ورئيس الاقليم، أو مقدم القرية.
غلاة الشعوبيين من منظور عبد العزيز الدوري
تناول عبد العزيز الدوري موضوع الغلاة من الشعوبيين، قاصدا بهم ذوي الأسس النظرية، والتي لا تعود إلى نزعة العرق الفارسي وحسب، بل إلى المعتقدات التي تتقاطع مع الإسلام، ومنهم الزردشتية، والمانوية، والخرمية، وهي الحركات التي كانت تحمل عبوة فلسفية، كانت تهدف إلى تكوين خاصية عقدية متسقة مع الظرف الجديد: الإسلام.
كانت حركة المختار الثقفي، واحدة من أبرز الحركات التي ثارت على بني أمية، واستغلت الفراغ الذي تعانيه تلك الجموع الحاقدة على الأمويين، فاستحدث لنفسه شقّين؛ العلوي لرمزيته على الثورة على السلطة، ولذا يشرح الدوري أن “الشعوبية حاولت أن تصبغ حركتها صبغة علوية ما دامت الراية العلوية ترمز إلى الثورة على الأوضاع ومقاومة السلطان القائم” (10) والشق الثاني هم الزنادقة الذين كانوا يمثلون مزيجا بين العقائد الفارسية القديمة، وبين الإسلام. ومنهم رئيس شرطته كيسان.
يرجع هؤلاء الغلاة إلى أصول مزدكية وزردشتية ومانوية، وقد كانوا يعانون قمعا متواصلا أيام السلطة الأموية، ما جعل الاعتكاز على روح الثورة التي كانت فتيّة فيهم؛ محل قبول لدى قيادات الدعوة العباسية، وكان أبو مسلم الخرساني، تلك الشخصية التي أعادت إحياء الحركات المزدكية في صورتها الجديدة؛ الخرمية.
كان من أبرز ما قدمه المختار الثقفي من تنازلات، مساواته في العطاء بين العرب وبين هذه الفئة من الموالي كعربون صدق على الوحدة السياسية بين الطرفين، ونتج عن ذلك امتعاض أشراف الكوفة، وجميع العرب من هذا الصنيع، الأمر الذي أفقد حركة المختار الدعم العربي. ودخل الخرمية في الدعوة العباسية منذ بدايتها بتأثير داعية من الموالي يسمى خداش، ثم بتأثير أكبر من أبي مسلم الخرساني، والذي كان في عصره رجل العباسيين الأول، واستمر نفوذهم من بعده أيضا.
شعوبيون في الحقبة الأموية
وضع الدوري تسلسلا تاريخيا لذكر أبرز الشعوبيين الذين نشطوا في الفترة الأموية، ووضع لكل فرد منهم ما يؤثر من أفكاره التي انتشرت في العامة من الفرس، كاسماعيل بن يسار، وحماد الراوية، وحماد عجرد، وحماد الزبرقان، ويونس بن أبي فروة، وكان ممن كتب كتابا لملك الروم في مثالب العرب. ومنهم عمارة بن حمزة، ومطيع بن إياس والبقلي. وأبرز هؤلاء اتزانا، وأوغلهم تأثيرا، شخصيات مثل ابن المقفع.
تطور الشعوبية ضمن الدولة العباسية
إن انتصار العباسيين ووصولهم إلى السلطة، أعقب سياسة جديدة تجاه تلك الحركات الشعوبية، لقد كانت هي أساس الثورة، بحكم أن جيش الدعوة كان عماده من أهالي خرسان، بشرت الدعوة العباسية بمبادئ المساواة، ونادت بالتسوية بين العرب والموالي، وقد توجت هذه الدعوات بجلوس وزير من الموالي، إلى جانب الخليفة العباسي العربي، كدلالة على بداية نظام جديد، ورمز إلى المشاركة في السلطة.
وفي حين خففت الدولة الأموية سلطة القبائل، بالاتجاه نحو مركزية الدولة العربية، لا القبلية، استحدث بنو العباس طريقًا سياسيا ثانيًا، فصار الولاء منسحبا إلى العائلة العباسية بشكل حصري، لا إلى أيديولوجية عربية، ولا قبلية، وبهذا وجدت الحركات الشعوبية، والنزعات العرقية طريقًا إلى السلطة ما دام الولاء إلى العائلة الحاكمة محل اتفاق.
وفي حين كان اعتماد بني أمية بالدرجة الأولى على القبائل العربية في تكوين الجيوش، استحدثت الدولة العباسية وجهة مخالفة بتكوين قوات نظامية تتألف بالدرجة الأولى من فرس خرسان، وبعض العرب، وأحكمت نظاما بيروقراطيًا يقوم على سلطة الدهاقين الذين كان لهم امتعاض من سياسات هشام بن عبد الملك وإصلاحات واليه على خرسان، نصر بن سيار، فأعيد إرساء معالم دولة العباسيين على أساس شعوبي، وتغلغل هؤلاء الدهاقين بصفتهم نخبة الكتّاب ضمن أركان الدولة.
وما أن ثبتت الدولة العباسية، حتى عادت الحركات الشعوبية لمواصلة مدّها فرأت في أبي مسلم الخرساني إعادة إحياء ذلك الملك الساساني الذي أسقطه العرب، وهذا ما يفسر ظهور حركات مثل (المسلمية) و(الراوندية) ونحوهم، حركانت كانت ترى حلول الإله في ذات أبي مسلم، لمحاولة الأخير أن يرى طالعه بعد موت أبي العباس، في الثورة على حكم أبي جعفر محتميًا بهذه الحركات، وبعد مقتله نشأت فرق من الشعوبية، أوغل في الزندقة، كانت ترى فكرة (الرجعة) في شخص أبي مسلم، وكل ذي الرؤى كان مبعثها زردشتي، ومانوي. وتعلق الأفكار المزدكية بالثورات التي بادرها الفرس بعد مقتل أبي مسلم، كان بالدرجة الأولى ضمن إطار المطالبة بجعل الأراضي مشاعية وغير مقتصرةً على العرب من الملاك، أو على الدهاقين.
البرامكة
إن التغلغل الشعوبي في مؤسسات الدولة العباسية، وسقوط شق الإدارة والوزارة في أيدي الفرس، نتج عنه صعود تيار فارسي متقن لأجنداته، ومنهم العائلة البرمكية. تعود أسرة البرامكة إلى مدينة بلخ الفارسية، وهي تقع حاليًا في أفغانستان، كانوا مجوسًا قبل الإسلام، ومن آثار النهج العباسي، صارت لهم وزارة الدولة العباسية لمدة 17 سنة، واقتربوا من بيت السلطة إلى الحد الذي كان فيه يحيى البرمكي مسؤولا على تربية هارون الرشيد، وكان ابنه الفضل البرمكي أخًا لهارون.
عمل البرامكة في فترة المأمون على تسهيلات لتمكن الأسر المجوسية في المناصب العليا في الدولة، مثل عائلة بني سهل، وكانوا فرسا مجوسا حينئذ، ومنهم الفضل بن سهل، الذي رأى البرامكة أن يخلف يحيى في شؤون الوزارة، وكانوا بهذا رسل التراث الحضاري الفارسي ومعيدي إحياء الثقافة الفارسية، وبدأ ذلك بفكرة ترجمة التراث الفلسفي الفارسي استئنافًا لأعمال الشعوبيين الذين كانوا ينشطون بشكل سري في المرحلة الأموية، فجرت الترجمة عن الفهلوية إلى العربية، في الأدب والتاريخ. وانتهت سياسة بني سهل، إلى انتقال المأمون نحو مرو وترك بغداد، واعتبر مثقفو العرب ذلك انتقالا للدولة نحو المجوسية.
بين نظامين
قام الحجاج بن يوسف الثقفي بتعريب الدوواين، وحرص على جعل العربية لغة الديوان، ولغة التأليف، وهذا في عهد عبد الملك بن مروان، فما الذي أسفرت عنه الثورة العباسية بعد سنوات من تقريبها لموالي فارس وخرسان وتقبلها للمد الشعوبي في الوزارات والدواوين؟
انتشر على إثر ذلك فن جديد، يعرف بالشعر الفارسي زمن الصفارين، في صورة أبي سليك الجرجاني، وفيروز المشرقي، وتمت ترجمة كتابي الطبري؛ في التاريخ والتفسير إلى الفارسية، وأفتي بجواز الصلاة بالفارسية، وجمعت حينها تواريخ الفرس القدماء في كتاب الشاهنامه منصوري.
وفي عصر المعتصم العباسي يرتقي حيدر بن كاووس في المناصب العسكرية، وهو من أسرة اشروسنه الفارسية، فصار قائد قواته المسلحة، وكان له دور في ثورة بابك الخرمي، كان يحتفظ رغم إسلامه بكتبه القديمة، التي تحتوي عقائد المجوس، وكان له موقف حاد من القادة العرب في دولة بني العباس، وحاول اغتيال بعضهم كأبي دلف العجلي.
وبذلت بدافع من الكتاب والأدباء الشعوبيين كل السبل لبعث الثقافة الفارسية، بتحويل بث الطابع الفارسي في الإدارة والمراسيم العباسية، هذا مع التقليل من شأن الثقافة العربية، وامتد ذلك ليصل إلى مجالات مثل علم الحديث، وهنا نجد بعض ما يذكره الرامهرمزي (362هـ) في كتابه المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، وهو فارسي الأصل، فيقول: “حدثني أبي… عن سعيد الجُرَيري، قال: فقلنا: هذا سعيد الجريري. قال: كاني بيع الجرار ثم صار يبيع الحرير. فقلنا: هذا رجل من العرب، من بني جُرير. فقال: فعل الله بالعرب، ما أقبح أسماءها” (11) وكان يروي:
وهذه محاولات لإضفاء الطابع الفارسي على علم الحديث دراية ورواية، كان تقدم في ثناياها إشارات للتقليل من شأن العرب، كما سبق من ذكره لتقبيح اسمائها.
ونشاط الشعوبية استمر في اتجاهات عدة، واتسعت فكرة الترجمة عن الفارسية لأوسع نطاق، مثل ترجمة سير ملوك الفرس، وخداينامه، وهما كتبان ينطويان على كثير من التمجيد للفرس وملوكهم وتاريخهم، وكذلك كتاب المراسيم والتقاليد الفارسية، وكتاب مزدك، وهو يتضمن أدبا ومثلا أخلاقية مجوسية، مخالفة لمفاهيم الإسلام، وكتاب سيرة الفرس الذي ترجمه اسحق بن يزيد، وكان سهل بن هارون وابن المقفع وأبو عبيد الله وعبد الحميد وغيلان يولدون ويمحلون رسائلًا وكتبًا على ألسنة الفرس.
ومن المراسيم الفارسية التي صارت معتمدة بشكل رسمي في بلاط المأمون، أن الفضل بن سهل الشعوبي، كان يُحمل على كرسي مجنَّح إذا أراد الدخول على المأمون، فلا يزال يحمل عليه حتى تقع عليه عين المأمون فينزل، وهكذا كانت سنة الأكاسرة. ويرمز الجناحين إلى أجنحة اهورامزدا؛ إله الخير عند الزردشتية. وكان علان الشعوبي، فارسي قد ألَّف بعنوان: هتك العرب وإظهار مثالبها. وألف تحت عنوان: فصل العجم على العرب. وتطاول فيه على عمر بن الخطاب، وعلى العثمانيين.
المراجع:
- الجذور التاريخية للشعوبية، عبد العزيز الدوري، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة 1981م، ص5 ↩︎
- الجذور التاريخية للشعوبية، عبد العزيز الدوري، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، ص4 ↩︎
- الجذور التاريخية للشعوبية، عبد العزيز الدوري، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، ص6 ↩︎
- الجذور التاريخية للشعوبية، عبد العزيز الدوري، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، ص9 ↩︎
- الجذور التاريخية للشعوبية، عبد العزيز الدوري، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، ص10 ↩︎
- الجذور التاريخية للشعوبية، عبد العزيز الدوري، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، ص22 ↩︎
- الجذور التاريخية للشعوبية، عبد العزيز الدوري، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، ص16 ↩︎
- الجامع لعلوم الإمام أحمد، ج10، ص627 ↩︎
- الجذور التاريخية للشعوبية، عبد العزيز الدوري، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، ص20 ↩︎
- الجذور التاريخية للشعوبية، عبد العزيز الدوري، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة 1981م، ص21 ↩︎
- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، أبو محمد الرامهرمزي، ص308 ↩︎