أدب

أحمد زكي .. والبيانُ في ميدان العلم

ليس البيانُ مقصورًا على الأدب وحده؛ بل هو شيء ينبغي أن يجلو كلَّ ضروب الفكر حتّى ما كان منها علمًا صرفًا؛ من أجل أن يحسنَ تداوله، ويأخذ مداه؛ ذلك أنَّ نقصَ البيانِ يرجع على الفكر بالنُقصان.

وقد كان أهلُ الفكر يُعنون بلغتهم وبيانها، ويضعون الألفاظ مواضَعها؛ من دون أن يزيد اللفظُ عن المعنى أو ينقُص؛ ويجرون الإبانةَ على وجهها. كان ذلك حين كان الفكرُ والعلم لا ينفصلان عمّا يعبّر عنهما من لغة؛ فلمّا أفلَت الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وتقلّص الفكر، وذبلَت شجرةُ العلم؛ وهتِ اللغةُ، وانفصلتْ عن محتواها، ويبستْ حتّى مطالع عصر النهضة إذ شرعت الأمّة تستفيق بنحو ما،  وتدبّ فيها الحياة شيئًا فشيئًا، وجعلت اللغةُ تستعيد مقدرتَها على حسن البيان. وقد كان للصحافة الناشئة يومئذٍ، حميدُ الأثر، في إشاعة لغة فصيحة مبينة ليّنة الجانب، قادرةٍ على صياغة أدبٍ ناهض، وعلى استيعاب معارف العلم الحديث. وقد كان ليعقوب صرّوف ( 1852 _ 1927 )، منشئ مجلّة “المقتطف”؛ الريادةُ في إيجاد لغة عربيّة سليمة تُبين عن موارد العلم، تتّسم بالوضوح والوجازة. ثمّ أتى سلامة موسى بنحوٍ من لغة مقتصدة، تريد استيعاب المعارف الحديثة، والإعراب عنها إعرابًا واضحًا ، لا يريد شيئًا من صنعة الفن ، ويكفيه من اللغة سلامتُها وحسن أدائها. ولا يخفى ما لهذا المنحى من تعزيز قدرة العربيّة في حقل العلم، وأنّها كغيرها من اللغات لا يقعد بها عنه إلّا ضعفُ أبنائها، فإذا اشتدت مُنّتُهم، وكان لهم شيء في العلم، وشيء في اللغة عبّروا بها عن كلّ ما يريدون.

وقد نشأ أحمد زكي ( 1894 _ 1975 ) وهو يرى مجلّة “المقتطف”، وحسنَ صنيعها في نشر المعرفة العلميّة؛  فأقبل عليها وتشرّب بما كانت تنشره، وكان له، إلى جوارها، ما يكتبه طليعةُ أدباء العصر؛ ممّن كان يسلك سبل تجديد اللغة، والارتقاء ببيانها، وتيسير مداخل الفكر إليها؛ فاستقر لديه منحى العلم ومنحى الأدب، وأنّهما شيئان لا غنى عنهما؛ يتكاملان ولا يتناقضان، وأنّ من حاز أحدهما دون الآخر بقي فقيرَ العقل والروح؛ وآلى أن يحوزهما معًا، وأن يضرب في كلّ منهما بسهم، وأن يكون له خيرهما. فكان أن بنى قراءته على سعة المدار؛ يقرأ الأدب، ويقرأ التاريخ، ويقرأ الفلسفة، ويقرأ العلم الصرف؛ لا يريد أن يقصر معرفته على حقل دون غيره. يقرأ في ذلك كلّه، وفي غيره غيرَ مكتفٍ بأطراف المعرفة، وبما يسنح منها؛ بل إنّه يهبط في كلّ حقل من الفروع إلى أصولها حتّى تستقيم المعرفة الصحيحة المتماسكة.

درس أحمد زكي الكيمياء، ونال فيها أرفعَ الشهادات، وتمرّس بالعلم التجريبي؛ يجري التَّجارِب، ويُعيدها، ويصل بين الأشباه والنظائر، ويستنتج منها الفكر. ولم يكن علمه حبيس مختبره، بل خرج به إلى الناس؛ يكتب المقالات، وينشئ الكتب؛ يؤلّف ويترجم. فقد زاول الكتابة منذ فجر حياته، من قبل أن يبلغ العشرين، وبقي، ما عاش، يكتب، ويمهّد سبل المعرفة؛ فلقد كان ممّن أنشأ “لجنة التأليف والترجمة والنشر” في سنة 1914، ووضع أسسها المتينة. وكان أوّلَ ما طبعت اللجنة ونشرت؛ كتاب مدرسيّ في الكيمياء ألّفه مع زميله أحمد عبد السلام الكرداني.

كان أحمد زكي غزير الكتابة؛ يأخذ القضيّة من قضايا العلم ويبسطها، وربّما خرج بها إلى أفق من الفكر والفلسفة؛ على طراوة من اللغة، ومهارة في إدارة الكلام من حيث الفصل والوصل؛ بما يجعل القارئ مشوقًا مقبلًا على ما بين يديه. كان يكتب في مجلّة “الرسالة” منذ أن نشأت فلا يهبط بيانه عن بيان أساطين الكتابة الذين يلتقون كلّ أسبوع على صفحاتها.

كتب: “مع الله في السماء “؛ ينظر في ظواهر الفلك، والنجوم، وما بينها؛ ويفسّر، ويعلّل؛ وقبل ذلك يبسط ما يريد معالجته بسطًا واضحًا طريًّا يأخذ بذهن القارئ وذوقه. ومع الكتابة زاول الترجمة من الإنكليزيّة إلى العربيّة؛ فنقل: “قصّة الميكروب”، و”بواتق وأنابيق”، والأوّل يتّصل بعلم الأحياء، والثاني إنّما هو قصّة الكيمياء، وقصّة علمائها؛ وكلا الكتابين جرى في مجرى البيان الرصين الواضح، الذي تدلّ فيه الألفاظ، والجمل على المعنى المراد من دون قصور؛ فلا غرو أن يلقيا كلاهما من حسن السيرورة شيئًا كثيرًا . ولا يريد أن يُخلَّ بعقد الأُلفة بين العلم والأدب لديه ؛ فترجم “غادة الكاميليا” للكساندر دوماس، وترجم “جان دارك ” لبرنارد شو. إنَّ الأدب والعلم لا ينفكّان يؤلّفان نسيج حياته!

ولم يبعد عن الصحافة الأدبيّة منذ أن شرع يكتب فيها في سنة 1914 ؛ كان يكتب، ويحرّر، ويمدّ صحفًا ومجلّات بما يكتب؛ ثمّ ولي رئاسة تحرير مجلّة (الهلال) من سنة 1946 إلى سنة 1950. وكان له مع العلم ومختبراته، والأدب وصحافته، شأن كبير مع الإدارة ؛ فقد زاولها في مفاصلَ رفيعةٍ منها، وبلغ أن صار وزيرًا يملأ مكانه علمًا وفضلًا. ثمّ عاد فأصبح رئيس جامعة القاهرة حتّى بلوغه سن التقاعد .

وإذا كانت سن التقاعد إيذانًا بالانقطاع عن العمل ، والركون إلى الراحة ؛ فإنّها عند أحمد زكي إيذان بشوط جديد ؛ إذ ليس لمثله أن يُلقي قلمه قبل الأجل المحتوم .

كانت دولة الكويت ، في أواخر الخمسينيّات ، تريد أن تُصدر مجلّة يُقبل عليها القارئ العربيّ في المشرق والمغرب ، ويكون لها شأن ؛  فبعثت رُسُلَها إلى البلاد العربيّة تنتقي رئيس تحرير ؛ ينشئ لها ما تريد على أسس متينة صحيحة ؛ وقد كان الرسول حصيفًا حكيمًا فاهتدى إلى أحمد زكي ، ودعاه أن يتولّى الأمر ، وأن ينهض به من كلّ جوانبه ؛ فقبل ، وابتدأ عملًا جديدًا لم يدّخر في سبيله وسعًا حتّى تكامل ، واستقرّت معالمه ، وصدرت مجلّة ( العربيّ ) في سنة 1958 على نحو يسرّ القارئ .

وقد كان يكتب في كلّ عدد من المجلّة ؛ ” حديث الشهر ” ؛ يتناول به قضيّة من القضايا ممّا يدور به الكلام ، وتتجاذبه الآراء ،  وينفذ إلى جوهرها ، وملتقى عناصرها . ويكتب أيضًا في باب ثابت : ” مع الله في الأرض ” يعالج في كلّ مرّة شأنًا من شؤون الحياة على الأرض معالجة الخبير البصير بلغة واضحة مبينة تمسك بقارئها . من مثل حديثه عن مخ الإنسان ؛ يقول : ” ومخ الإنسان أكبر نسبيًّا من مخ سائر الحيوان ، وهو أكثر أعضاء الجسم تخصصًا ، ويزن 3 أرطال ، ومسكنه الجمجمة ، وهي من عظم . وهو يتألّف من أغشية رقيقة تقوم بينه وبين عظم الجمجمة تحمل له الدم والغذاء ، وتكون له عند الصدام وقاء . والمخ يتألّف من نصفي كرة متّصلين اتّصالًا وثيقًا . وهو يتألّف من مادتين ؛ سطحيّة سمراء ، وباطنيّة بيضاء … ” ،  وقد يكتب في بعض الأعداد تحت عنوان : ” في سبيل موسوعة علميّة ” فيقف عند مورد من موارد العلم باسطًا فيه القول بما يحيط به من كلّ مناحيه بلغة سلسة عذبة يقبل عليها القارئ متمتّعًا مفيدًا .

وبقي يكتب كلّ شهر في قضيّة من قضايا العلم ؛ وقد تمّت له لغة فصيحة مشرقة واضحة الدلالة قادرة على النهوض بأعباء العلم …

إنّ لغته لخير مثال لما ينبغي أن تكون عليه لغة العلم…!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى