لم يعد أمام (حامد) مفر من العودة إلى المنزل؛ فقد انتصف النهار، واستوت الشمس كرة من النار في كبد السماء، وتلاشى آخر أمل في نفسه أن يجد مكتب عقارات يقبل بشراء منزله!
قبل ثلاث سنوات لم يكن يخطر بباله أبدا أن فرحته بالعثور على منزل واسع سوف تتحول إلى غم ونكد ومشاكل لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.. فقد كان حظه أن سكن في حارة (السعداء)، وهو اسم على غير مسمى إطلاقا، وهي فاجعة لم يعرف شرها إلا بعد وقوع الفأس في الرأس.. ليس لسوء الخدمات الموجودة فيها ولكن لسوء العلاقات بين الجيران؛ حتى لا يكاد يمر يوم إلا وينفجر فيه خصام تسمع به المدينة الصغيرة، أو تحدث مشاجرة بين الأطفال تتحول بعد دقائق إلى حرب بين الكبار تبدأها النساء من النوافذ بأسلحة اللسان والشتائم، وينهيها الرجال عند عودتهم من العمل بالتهديدات النارية، والاشتباكات بالأيدي أحيانا حتى يصل الجميع إلى قسم الشرطة!
تحمل (حامد) وأسرته عنت أجواء الشقاء والمشاكل على أمل أن تكون سحابة صيف ومرحلة عابرة؛ لكن الأيام توالت والحالة كما هي؛ بل تزداد كل يوم سوءا وتدهورا في أخلاقيات الجيران ضد بعضهم بعضا، وزاد الأمر قبحا أن وجد نفسه يتورط هو الآخر وأسرته في مشاكل مع هذا الجار أو ذاك بسبب تصرفات بسيطة وأشياء لا تستحق أن تكون سببا لمشاكل بين الجيران.. أو هذا ما استقر في نفسه وعقله من تجربة الحياة الماضية في حارة (اللبن)، ولولا ضيق المنزل الذي كان يعيش فيه وبعده عن مكان العمل ومدارس الأولاد لما فرط أبدا في جيرانه السابقين الذين ودعوه بالبكاء يوم غادر الحارة، وودعهم هو بوجه حزين لكن باطنه كان يكاد يطير سعادة بالبيت الجديد!
كان اتخاذ قرار جديد ببيع المنزل ومغادرة الحارة، والانتقال إلى مجهول جديد؛ قرارا صعبا عليه لكنه في الأخير خضع لتوسلات زوجته (عفاف) التي كادت تصيبها أزمة نفسية بسبب شتائم نوعية وجهتها إليها إحدى الجارات التي غضبت منها لمجرد أنها عنفت ولدها الصغير بعد أن ضبطته يخدش بمسمار كبير باب منزلهم الخشبي! وعبثا حاولت (عفاف) إفهام جارتها الغاضبة أن ولدها ارتكب خطأ ولا عيب في أن تعنفه أو حتى تضربه فهي في مقام أمه.. وما يزال يتذكر بكاء زوجته وهي تقص كيف هددتها بالضرب، وسردت عليه أخف ما قالته تلك الجارة الشريرة لها:
– في مقام أمه؟ ولم تستحين أن تقولي في مقام أخته الصغيرة؟ حرمة طويلة عريضة مجنونة تنفعين أن تكوني عمود كهرباء ثم تضربين طفلا يمكنك أن تبلعيه مثل الشوكولاتة؟ وقسما عظما لولا أنها أول مرة تحدث منك لمسحت أرض الشارع بشعر رأسك.. مفهوم؟
وفي المساء هرول (حامد) إلى الباب بعد أن سمع خبطا عليه خشي أن يقتلعه أو يكسره، وأمام الباب وجد رجلا متجهم الوجه كأنه خارج من قبر، عرف من صراخه أنه زوج المرأة وبجانبه كان يقف طفله المشاغب، ولم يسعه إلا مدارة الرجل الذي كانت عيناه تشعان شرا وهو يستكمل تهديدات زوجته المرعبة بأنه سيأتي هو وكل أفراد العائلة ويقلبون بيته حلبة كارتيه ضد الجميع!
لم يقتصر السوء المستشري في حارة (السعداء) على سوء العلاقات بين الجيران بسبب مشاكل الأطفال؛ فحتى العلاقات الإنسانية بين الجيران كانت مزرية، ويندر أن تتزاور العائلات أو أن تتبادل النساء أشياء مما تطبخه هذه أو تلك على الغداء، أو يلتقي الرجال للمقيل في منزل أحدهم أو السمر في ركن الشارع كما هو الحال في كثير من الحارات. ولأن الوضع في الحارة السابقة كان على خلاف ذلك تماما فقد تحولت الحياة في حارة (السعداء) إلى شقاء حقيقي، ولم يعد هناك من مفر من مغادرتها وبيع المنزل، والبحث عن مكان آخر.. وخاصة بعد أن جاءت أم الزوجة خصيصا وهددت بأخذ ابنتها معها بعد أن رأت سوء الحالة النفسية التي صارت عليها!
وبدوره اقتنع (حامد) بضرورة الرحيل بعد أن شاهد منظرا مخيفا لمعركة بالأيدي والأسنان وقعت بين عدد من نساء الحارة بسبب مشاكل الأطفال؛ ساعتها خرجت النساء إلى الشارع بثياب المنزل التقليدية، وبدون حجاب ولا غطاء على رؤوسهن، وتبادلن اللطمات، والبصقات، والعض.. وأمسكت كل واحدة منهن بشعر رأس غريمة لها، وكل واحدة راحت تنزع شعر الأخرى وكأنهنّ يردن اقتلاع الشعر من الأصل! كان منظر رعب حقيقي جعله يحسم موقفه نهائيا، ويهرول إلى مكاتب العقارات المنزلية!
❃❃❃
استفاق (حامد) من هواجسه وهو يقترب من مدخل الحارة، وكالعادة تعوذ من الشيطان الرجيم ومشاكل شياطين الإنس، وعلى غير العادة لاحظ هدوءا يجثم في أركان الحارة فسره بأنه من جمائل الشمس اللاهبة التي أجبرت السكان على الفرار إلى المنازل.. وتذكر كيف خرج في الصباح من منزله وصراخ الأطفال يضيق به الشارع وهم يلعبون الكرة ويركلونها على المارة دون اهتمام بأحد، ويتبادلون أسوأ الشتائم التي لا تتناسب مع أعمارهم.. وعندما كان يغادر ركن الحارة وصل إلى سمعه بداية مشاجرة بين أحد جيرانهم ورجل النظافة! وساعتها توقع أن يكون اليوم أسود بعد أن وصل إلى مسمعه تهديد رجل النظافة بإحضار شرطة البلدية لتنظيف الحارة من سكانها القذرين! ورد الجار عليه بمجموعة من الشتائم التي لم يسمع بمثلها من قبل!
حلم (حامد) بقيلولة هادئة هذا اليوم يريح فيها جسده المنهك من التجوال في الشوارع مع دلّال العقارات لرؤية المنازل المعروضة للبيع، لا يزعجه صراخ الأطفال، ولا ضربات الكرة على الباب والنوافذ! لكن كان عليه أولا امتصاص غضب زوجته التي كانت تنتظره بالتأكيد لتسمع منه خبرا سعيدا عن نجاح مهمته، واقتراب موعد مغادرة حارة (الجن والعفاريت) كما تسميها والدتها! وعول على حالته البائسة ومظاهر الإرهاق الشديدة على وجهه وجسده لإقناعها بالصبر والتحمل حتى يحين موعد الفرج!
أكمل (حامد) وأسرته تناول طعام الغداء، وسحب جسده المرهق بصعوبة ليستلقي على سريره، وأغمض عينيه ليبدأ نوما اشتاق إليه أكثر مما اشتاق للطعام والماء البارد.. ولا يدري كم مر من الوقت حتى فتح عينيه مرعوبا على صراخ مخيف مزق هدوء الحارة الطارئ.. وقبل أن يستوعب ما يجري كان ابنه الصغير يقتحم الغرفة عليه ويخبره أن مصيبة حدثت في منزل (زكريا) جارهم، وأنه شاهد زوجته تخرج بثياب المنزل وهي تصرخ: يا مسلمين.. وشعرها مكشوف وليس على جسدها عباءة ولا حجاب!
تعوذ (حامد) من المشاكل، وظن للوهلة الأولى أن مشكلة عائلية انفجرت كالعادة بين جارهم (زكريا) وزوجته وصلت إلى حد الضرب.. لكن تصاعد الأصوات والصراخ القادم من الحارة جعله يستبعد هذا الخاطر، وقام متثاقلا من سريره نادما على ضياع القيلولة، وفي الشارع عرف حقيقة المصيبة التي حدثت، فقد انفجرت أسطوانة الغاز في منزل جارهم، واشتعل حريق هائل في المنزل الذي يقع في الدور الثالث في إحدى عمارات الحارة القديمة، ولشدة الحريق فلم يتمكن من النجاة إلا الزوجة التي كانت قريبة من باب الخروج، أما الزوج وأولاده الأربعة الصغار فقد انحبسوا في الغرفة المطلة على الشارع، ولم يتمكنوا من الهروب بسبب اشتعال الحرائق في كل أنحاء المنزل فحالت بينهم وبين الهروب!
انقلب حال الحارة رأسا على عقب بعد ساعات الهدوء النادر في حياتها.. واحتشدت النوافذ برؤوس النساء والبنات وهن يبكين ويولولن، وتجمع العشرات من الرجال وهم في حالة فزع أمام المنزل الذي كانت أخشاب سقوفه تحترق بسرعة، وتصدر أصوات قرقعة مرعبة، وتصاعدت أعمدة الدخان من منافذ عدة منه. وبدأ الرجال يتشاورون عن كيفية إنقاذ جارهم وأطفاله، وأعلن بعض الفتيان استعدادهم لاقتحام الحريق وإنقاذ الموجودين في المنزل؛ لكن كبار السن رفضوا الفكرة فقد كان واضحا أنه من المستحيل تنفيذ الفكرة إلا بالتضحية بالفتيان!
لاحظ بعض المتجمهرين أن سيارة المطافئ تأخرت كالعادة، وظهر (زكريا) في النافذة مفجوع العينين، عاري الصدر، منكوش الشعر وهو يستصرخ جيرانه المتجمهرين في الشارع أن ينقذوا أطفاله.. وسمع صراخ زوجته من منزل أحد الجيران التي آوت إليها وهي تدعوه لإنقاذ نفسه وأطفاله بأي طريقة.. وطالب بعض الناس الأب الملهوف أن يقفز من النافذة، ويترك الأطفال فحياته هي المهمة.. لكنه رفض الفكرة، واستنكر أن يترك فلذات كبده يحترقون وينجو هو بنفسه!
وتأزم الموقف مع تأخر سيارة الإطفاء، وامتدت ألسنة اللهب إلى كل المنزل وبدأت تصل إلى الغرفة المطلة على الشارع حيث يحتمي الأب وأطفاله.. وفي لحظة حرجة تاهت فيها العقول، واضطربت النفوس، وتعالى صراخ النساء والأطفال؛ خطرت ببال أحد المتجمهرين فكرة فصرخ مطالبا بإحضار ملاية كبيرة، وتسابق كثيرون إلى منازلهم لإحضار المطلوب، وخلال دقائق قليلة جدا وصلت عدة ملايات كانت يبدو عليها أنها جديدة وجميلة، وتم اختيار بعض منها لما يبدو أنها قوية وكبيرة.. وشرح الرجل فكرته، وطلب من مجموعة من الشباب والرجال الأقوياء أن يمسكوا بأطراف ملايتين وضعتا فوق بعضهما، وأن يفردوهما أسفل النافذة التي كان الأب المفجوع ملتصقا بها وهو يحتضن أطفاله الصغار، وصرخ الرجال يطالبون (زكريا) بأن يرمي أطفاله إلى الملاية واحدا واحدا.. وأبدى الرجل في البداية خشيته من إلقاء الأطفال الصغار من مكان مرتفع لكن جيرانه أقنعوه بأن هذا هو الحل الوحيد الممكن وإلا فعليه وأطفاله السلام.. وظل الرجل ثواني مترددا في الاستجابة للفكرة، وصرخ يطالبهم باستعجال المطافئ.. وازدادت الحالة حرجا.. وتعالى صراخ النساء وبكاؤهن، واقتنع الأب بالفكرة وهو يرى من خلفه ألسنة اللهب قد بدأت تزحف داخل الغرفة الأخيرة التي يحتمي فيها هو وأولاده.. ولم يعد هناك من مفر إلا تنفيذ الفكرة.. وظهر (زكريا) في النافذة حاملا طفلا رضيعا في اللفة، وألقاه بعد لحظات تردد كان خلالها يتلفت فزعا بين النيران التي اقتحمت الغرفة حيث هو وأطفاله والمسافة الكبيرة التي سيلقي خلالها بأطفاله.. وصرخ فيه جيرانه محذرين ومشجعين، وتدلى من النافذة لأقصى ما يستطيع وهو يدلي بطفله الرضيع تقريبا له ثم أفلته وهو يصرخ: يا الله.. يا الله.. والناس يصرخون معه: يا الله.. يا الله! وفي لحظات قليلة جدا ساد السكون الشارع وهوى الرضيع إلى حيث تلقفته أيدي الرجال.. وتعالت صيحات التكبير والتهليل.. وهرع أحدهم بالطفل إلى أمه التي كانت تنتظر عند باب المنزل الذي استضافها وآواها حينما هربت من النيران، وتلقته بيديها وسقطت معه إلى الأرض والنسوة من جاراتها يحطنها بالاهتمام والرعاية!
وشجعت الرمية الناجحة الأولى الأب على إلقاء بقية أطفاله الثلاثة واحدا واحدا.. وتكررت نفس الصرخات والتكبيرات.. ولم يبق إلا الأب نفسه.. وكان صعبا أن يرمي نفسه إلى البطانية المنبسطة تحته ففي الأمر مخاطرة واضحة.. وبرزت فكرة ثانية أن يؤتى بسلم ليساعده على النزول.. وفي لحظات كان أحد الجيران يهرع إلى منزله ويحضر سلما لكنه كان قصيرا ولا يكاد يصل إلى المسافة المناسبة من النافذة.. وتعاضد بعض الرجال الطوال الأقوياء على حمل أسفل السلم بأيديهم وجعلوها متكئا له، ورفعوه بقدر ما يستطيعون ومع ذلك لم يصل إلى الارتفاع المناسب.. لكن (زكريا) بعد أن رأى أن النار تكاد تلامسه خرج من النافذة وتعلق ببعض القضبان الحديدية الخارجية للنافذة، وتدلى مستفيدا من طول جسمه حتى وصلت قدماه إلى رأس السلم، وانزلق بحرص حتى تمكن من التشبث بالسلم وبدأ الرجال في إنزاله بهدوء حتى وصل إلى أحضان جيرانه بسلام!
ولم يصدق أحد يعرف حقيقة حارة (السعداء) ما حدث لحظتها.. فقد تبادل الجيران الأحضان والقبلات.. وارتفعت زغاريد النساء من نوافذ المنازل.. وسالت الدموع، وتعالت الضحكات كما لم يحدث في تاريخ الحارة التي لم تكن تعرف إلا صراخ المعارك وشتائم المنازعات!
وفجأة سمع الناس الصوت المميز لسيارة الإطفاء.. فأفسحوا لها المكان لتقوم بمهمتها.. وانصرف الجميع لمواساة جارهم المنكوب والأسرتين الساكنتين في الدورين الاول والثاني واضطرتا أيضا لإخلاء منزليهما.. فأخلى (الحاج مهدي) الدور الأول من بيته للأسرة المنكوبة، وتوزع الآخرون عند جيرانهم.. وسارع آخرون لإحضار ما تيسر من الطعام والماء.. وشارك بعض فتيان الحارة في عملية الإطفاء ونقل ما سلم من متاع المنزل المنكوب لحفظه من الضياع!
❃❃❃
عاد (حامد) إلى منزله منهك القوى، مشتت المشاعر بعد أن أسهم مع جيرانه في إنقاذ الموقف، ونادى زوجته لكنها لم تكن موجودة في البيت، وأخبرته ابنته أن أمها أخذت بعض الطعام والملابس وهرعت لتساعد الأسرة المنكوبة.. فحمد لها في نفسه هذا الصنيع، ووجدها فرصة لينعم بنومة سريعة قبل أن يستأنف البحث عن بيت جديد!
غرق (حامد) في النوم، واستيقظ مع غروب الشمس، وأعادت رائحة الحريق التي كانت تملأ الأجواء إلى ذهنه تفاصيل ما حدث قبل ساعات قليلة.. وابتسم رغما عن المأساة وعن الإرهاق الذي يفتك به وهو يتذكر حالة الوئام والتعاون والغيرة التي تفجرت بين الجيران الذين لم يكونوا يطيقون بعضهم بعضا.. حتى الأطفال نزلت عليهم السكينة والطاعة لأي أوامر تصدر لهم بإحضار شيء ما أو الابتعاد من الطريق.. ويا سلام على الأدب الذي سمعه منهم وهم يرددون: حاضر يا عم.. أمرك يا جد!
وتذكر موعده مع دلّال العقارات فانتفض سريعا ليبدأ مشوار البحث عن منزل جديد.. وفي اللحظة التي كان يخرج فيها من باب المنزل وجد زوجته تدخل منه، واضطر للرجوع لسماع تفاصيل أخرى لما حدث وهو مندهش من أنها قضت كل هذا الوقت عند الجيران! وسرعان ما استرسلت (عفاف) في الحديث عما شاهدته من أفعال التعاون والتراحم بين جاراتها والأسرة المنكوبة، وكيف تكفلت بعض الفتيات برعاية الأطفال الصغار لتأخذ أمهم قسطا من الراحة! وكيف تسابق الجيران لإحضار بعض مستلزمات الحياة الضرورية لتعين الأسرة المنكوبة على العيش! وأخبرته كذلك أن رجال الحارة قرروا أن يلتقوا مساء في منزل (الحاج مهدي) ليتدارسوا كيفية مساعدة جارهم (زكريا) على مواجهة المحنة التي ضربت عائلته واستقرارها في الصميم، وازدادت دهشة (حامد) وهو يسمع زوجته تحثه على المشاركة في اللقاء والقيام بواجبه تجاه جارهم المسكين!
– لكني سأكون مشغولا في البحث عن المنزل الجديد، وقد وعدني الدلّال أن يريني اليوم عددا من المنازل التي قال إنها ممتازة جدا!
رد حامد على كلام زوجته وهو يراقبها وهي تبدأ في إعداد ما فهم أنه طعام عشاء بكميات أكبر مما هو معتاد!
– اسمع: لقد وعدتهم بإعداد طعام العشاء لأسرة زكريا.. يا ربي على أطفالهم الحبوبين ما أجملهم! ولو شفت كيف تعاركنا – بالكلام طبعا- على من تقوم بإعداد العشاء! كل واحدة تريد أن تكون صاحبة الحظ، وفي الأخير عملنا جدولا يوميا لتخفيف العمل على الجميع.. يا سلام على جيران وعلى أخلاقهم!
كانت (عفاف) تتكلم بهدوء عجيب وكأنها ليست المرأة التي كادت تصاب بأزمة نفسية بسبب جيرانها.. ولم يجد (حامد) مدخلا لإثارة موضوع البحث عن بيت جديد.. لكن رنين الهاتف أيقظه من تأملاته، وعندما وضع السماعة على أذنه جاءه صوت دلّال العقارات يبشره أنه وجد له المطلوب بأحسن المواصفات وبأفضل سعر غير متوقع، وأن عليه الحضور فورا لإتمام الاتفاق الذي سيكون عملية تبادلية يأخذ كل طرف بيت الآخر!
أدلى (حامد) يده الحاملة لسماعة الهاتف وأشار بها لزوجته وهو يقول بصوت كأنه يصدر من مغارة:
– هذا الدلّال.. مبارك علينا وجدنا منزلا ممتازا وبشروط مريحة جدا!
وكانت إجابة زوجته مفاجأة:
– قل له: شكرا جزيلا.. خلاص سنبقى في حارتنا.. معقول نترك حارتنا وإلى أين نذهب.. خلينا في حارة السعداء ولا يغير الله حال أحد؟
– وماذا نقول للرجل المنتظر على الهاتف؟
– قل له أي شيء.. اعتذر له.. قل له: غيرنا رأينا.. أو الأفضل قل له: الحريق الذي حدث في حارتنا شل معه الأوساخ التي كانت في الرؤوس والصدور!
– طيب.. وأمك.. ماذا سنقول لها؟
– ولا عليك شيء.. خلينا نفكر كيف نقنعها تجيء وتسكن معنا في.. الحارة..
ثم أكملت وهي تضحك:
– حارة الجن والعفاريت!