ثمة رجالٌ يولدونَ من رحمِ الأرض، فتسري في عروقهم عذوبةُ تربتها، ويشبّون في حضن السَّماء، فتشرق في أرواحهم أنوارها، رجالٌ لا تحدُّهم قُرى ولا تحجزهم حدود، إذ امتدّتْ خطاهم من كُتَّابٍ صغير في قريةٍ نائية، إلى مدارج العلم في حواضرِ الإسلام، يحملونَ معهم رياحين القرية، وصخب المدن، ونفحات الحرمين.
إذا ذُكرت الأسماءُ المغمورةُ، برزوا كالكوكب الذي يضيء وإن غاب عن أبصار الناس، وفي زحام السِّنين، يظلُّ لهم وقْعٌ خفيٌّ، وهمسٌ عميقٌ في جنباتِ الأزمنة، لا تسمعه إلا القلوبُ التي اعتادت الإصغاء لصدى العلماء العاملين.
ومن هؤلاء، يطلُّ علينا البروفيسور إبراهيم بن إبراهيم بن بكر القُريبي… حكايةُ عمرٍ نسجته المهاجر والأسفار، والكتبُ والأفكار، والمدارسُ والمساجد، حكايةُ رجلٍ وَهَبَ عمره ليكون جسرًا بين القريةِ والمدينة، بينَ الماضي والحاضر، بينَ النَّصِّ والنَّاس، فكان عالمًا معلِّمًا، وداعيةً مصلحًا، وزاهدًا عزيزًا، لا يعرفُ الأضواء ولا تعرفه إلا ميادينُ العلم والعمل.
هنا تبدأ الحكاية...
البروفيسور إبراهيم بن إبراهيم بن بكر القُريبي، ولدَ في العام (1363هـ ) بدير كزابة(1)، ناحية القناوص(2)، قضاء الزيدية. نشَأ الشَّيخ في رعايةِ والديه -رحمهما الله- نشأةً كريمة، وأولياه اهتمامًا بالغًا، فطلبَ العلم منذ نعومة أظفاره، حيث كانت البداية على يد والده -رحمه الله- وأخيه الأكبر أبكر فقرأ عليهما جزء (عم). ولما بلغ السَّابعة من عمره التحق بالكتَّاب في قريته، وأفاد من علماء بلدته، فدرسَ القرآن الكريم وشيئًا من الفقه فيما يتعلقُ بصحَّة الصَّلاة كما هي عادة الدِّراسة في تلكَ الحقبة، فكانَ لتلكَ العناية المبكرة من أسرته الأثر البالغ في تكوينِ شخصيته العلميَّة.
في شرخِ الشَّباب شَخَصَ إلى بلادِ الحرمين، لأداءِ فريضة الحج، في العام (1378هـ- 1958)، ثمَّ استقرَّ به المقام في جُدَّة، لأجلِ العمل، وبقي طيلة هذه الأعوام بين جُدَّة ومكَّة للعمل، وطلب العلم في بعضِ المساجد. وفي العام (1385هـ) ارتحلَ إلى المدينة النَّبوية، واستمرَّ بها حتى أنهى رسالة الدكتوراة (1980) في رحلةٍ طويلةٍ مليئةٍ بالجدِّ والاجتهاد، وتحمل الصّعاب، والعزمِ في الطَّلب. وقد تلْمَذَ على جلِّ كبارِ علماء المدينة، لمقامه فيها(3).
وفي ثمانيناتِ القرنِ المنصرم؛ قدِمَ أستاذنا العلامة إبراهيم القريبي، منَ المدينةِ المنوَّرة، حاملًا شهادة الدكتوراة، بتفوقٍ مشهود، في تخصُّصِ السُّنَّةِ النبوية! فورَ وصوله؛ زارَ السُّهول، والجبال، والقرىٰ النَّائية، المتناثرة في أطرافِ تهامة(4)، داعيًا، ومعلمًا، وصانعًا للوعي، أزاحَ كثيرًا من الأفكارِ المغلوطةِ التي اعتنقها النَّاس بفعلِ مرورِ السِّنين، وتراكمِ الجهلِ الممتد؛ فنفعَ الله به الخلقَ، والبلاد.
أسهمَ العلامة القريبي في تطويرِ المناهجِ الدراسيَّةِ في جامعةِ الحديدة، وترأسَّ مدةً طويلة قِسْمَي “الدِّراساتِ الإسلاميَّة والقرآنيَّة”، فكانَ غايةً في الاِنضباطِ والتَّفاني والحرصِ على الارتقاءِ بهما، كانَ يُعلِّمُ في “الجامعِ والجامعة”، طلابه بالآلاف، وهمَّته حديثُ المجالس، آتاهُ الله جَلدًا في البحثِ والتَّأليف، فخرجَ إلينا بمؤلفاتٍ نفيسة، وأبحاثٍ مميزة، قبلَ أن تأتي وسائلُ البحثِ الميسَّرة!
للعلامةِ القريبي حضورٌ مهيبٌ في الجامعةِ وخارجها، يمضي جل وقته في التَّعليم، والدَّعوة، والفتوى، ومن عرفه عن قرب؛ عرَفَ همَّتَه، وحرصه على العلمِ ونشْره، وتبليغه. فهو يدرِّسُ نهارًا في الجامعةِ، ويرأسُ قسمَي الدِّراسات الإسلامية وعلوم القرآن، وباقي يومه يدرِّسُ في بعضِ المساجد، والمعاهد، والمراكز العلميَّة، وفي منزله العامِر، وفي مكتبه العلمي الدَّعوي الذي كانَ يستقبلُ فيه الاِستشارات الشَّرعية، ويلقي فيه الدُّروس العلميّة.
ناقشَ شيخنا القريبي أكثر من “80” رسالة علمية في مختلفِ الجامعاتِ اليمنية، وترقَّى على يديه للأستاذية وغيرها، ثلةٌ من خيرةِ أساتذةِ وعلماءِ اليمن، كالبروفسور حسن شبالة، والدكتور غالب القرشي، والدكتور عبد الرحمن الخميسي، والدكتور الشُّجاع، والدكتور حيدر الصَّافح.
ومن نعمِ الله علينا، أن وُفْقنا للدِّراسةِ على يديه في الجامعةِ، في مختلفِ المواد التي كان يدرِّسُها في مرحلتَي البكالوريوس والدراساتِ العليا، وكذا فتراتٍ متقطعةٍ في شتى جوامعِ المدينة، التي كان يحيي فيها دروسَ العلم.
ما يميزُ شيخنا في تدريسه؛ حسُّه الفكاهي، ولهجته التِّهامية المميزة، وقصصه المدهشة التي يلقيها أثناءَ شرحه، وذكرياته الغائرة في عمقِ التَّاريخ، ومواقفه المختلفة التي تلقَّاها في سنيِّ عمره العامرِ بالعطاءِ، والبذْل!
وهكذا تمضي الأيامُ شاهدةً على رجالٍ صنعوا مجدهم بصبر العلم، ونور الفكرة، ونقاء السِّيرة، حتى غدوا أعلامًا تتفيأ الأجيال ظلالهم، وتقتبس من وهجهم الطريق. وما الحديثُ عن شيخنا الجليل إلا نفحةُ وفاءٍ لعالمٍ نَذَر عمره للعلم والدَّعوة، فحُقَّ لنا أن نخلّد ذكره، ونروي سيرته، ليبقى نبراسًا للأفهامِ والقلوب.
وهو درَّةٌ من دررِ المدينة، بلِ والبلادِ كلها، وإنه ليحقُّ لنا أن نفاخرَ به، وأن ننشرَ سيرته، ونحكي مكانته، ونتحدث عن فضائله، ومكارمه، وهو شيءٌ يسيرٌ من حقِّه علينا.
الهوامش:
- بنو كزابة: فرع من قبيلة صليل، إحدى قبائل عك، من قراهم دير كزابه في الغرب الشَّمالي من مدينة القناوص بتهامة. معجم البلدان (١٣٤٢/٢).
- القناوص: مدينة في بطن تهامة على خطِّ طريقِ السَّيارات بين “حَرَض” و”حجَّة”، وهي عاصمة مديرية “القناوص” إحدى المديريات التابعة لمحافظة الحديدة، تبعد عنها شمالًا بمسافة ٨٦ كم، ويحدها من الشَّمال “الزهرة”، ومن الشرق مديرية “الطور” من أعمال حجَّة ومن الجهة الجنوبية والغربية مديرية “الضِّحي” و “الزيدية”. ينظر: معجم البلدان (١٣٠٠/٢).
- ينظر: في ترجمة وأسانيد ومرويات العلامة الأستاذ الدكتور إبراهيم بن إبراهيم القريبي، اعتنى به تلميذا الشيخ: علي حسن مهدي، محتار حظاء، ص9 وما بعدها.
- زار الشَّيخ عددًا من المدنِ السَّاحليَّة داعيًا، معلمًا، ومرشدًا: “ميدي، اللحية، كمران، الصَّليف، الخوبة، ابن عباس، الدريهمي، اللاوية، التحيتا، السويق، المخاء”، كما زار الشَّيخ كلًا من: “مدينة حرض، حجَّة، إب، عَبْس، خميس الواعظات، المعرس، الزهرة، مخرش، القناوص، الزيدية، المنيرة، الضِّحي، المغلاف، الكدن، باجل، المراوعة، القطيع، المنصورية، العبَّاسي، بيت الفقيه، الحسينية، زبيد، المدمن، التُرَيْبَة، حيس، مشرافة، الجراحي”.
الإمام الزاهد شيخ الجامعة والجامع، أصلح الله على يديه عقائد أمم من الناس، وكسر ببأسه وجلده كثيرا من الخرافات والبدع، كان وما يزال مصباح السنة ومنار الحق.
إلى شيخنا في غيابه: شفيت وعوفيت ومتعت بتمام الصحة وحسن الثناء.