أدب

اللغة العربية في بريطانيا.. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب

الوقت تمام التاسعة صباحاً في خريف عام 2024، والمكان جامعة يورك وتحديداً في كينغز مانر (King’s Manor)، وتعني بالعربية نُزُل الملك، والمقصود بالملك هنا هو هنري الثامن وهذا المَعلم التاريخي هو أحد إقطاعياته التي أصبحت اليوم جزءاً من جامعة يورك وتضم عدة أقسام منها قسم دراسات العصور الوسطى. أما الطلبة الذين يدرسون اللغة العربية هنا فهم مزيج متباين من طلبة الدراسات الأولية (البكلوريوس) والعليا (الماجستير والدكتوراة) ممن يحتاج إليها في دراسته وبحثه سواء في التاريخ أو الفلسفة أوالأدب أو الأديان وغير ذلك من العلوم والمعارف. اسم المادة (عربية العصور الوسطى) حيث أن الاسم هنا يلائم ما يدرسه الطلبة في الأقسام المذكورة آنفاً، والحقيقة أنها ليست سوى العربية الفصحى.

العربية في بريطانيا. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب 2 1 اللغة العربية في بريطانيا.. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب
((مدخل بناية كينغز مانر التاريخية في قلب مدينة يورك))

يدخل الطلاب الى القاعة الباردة الرطبة، لأن البنايات القديمة والأثرية يصعب تدفئتها، وهو ما كان في ما مضى أحد أسباب الوفاة المبكرة عند الانجليز نظراً لإصابتهم بأمراض الصدر والعظام المزمنة بسبب البرد. وعادةً ما أكون قد حضرتُ إلى قاعة الدرس قبل الطلاب، فأرى في عيونهم وهم يدخلون الى القاعة فرحاً و إثارة وترقباً.. تماماً مثل زبائن مقهى أثري في دمشق ينتظرون الحكواتي ليخبرهم بقية حكاية اسطورية كسيرة أبي زيد الهلالي أو عنترة بن شداد. لكن ما قد ينغص عليهم وعلى جميع الطلاب دون استثناء، صعوبة المادة وتحدياتها وطبعاً سيرة الامتحانات. وبسبب معضلة البرد وارتفاع تكاليف التدفئة فقد وفرت الجامعة في كل قاعة من قاعات هذا الصرح التاريخي بعض الأغطية كي يستخدمها الطلاب، أما الأستاذ المسكين فقد نصحته الجامعة بعدم خلع معطفه أثناء التدريس. ورغم ذلك تبقى تجربة التدريس في كينغز مانر ولذتها من أروع التجارب وأجملها. أما ترقبي لرؤية الإثارة في عيون الطلبة فهذه قصة أخرى سأرويها في السطور التالية.

العربية في بريطانيا. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب 6 اللغة العربية في بريطانيا.. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب
((كينغز مانر في الخريف))

اليوم مضى على عملي محاضراً للغة العربية وآدابها في المملكة المتحدة عقد ونصف تقريبا. دَرّستُ في هذه المدة طلاباً من جميع الأعراق والجنسيات. والمثير للاهتمام هنا أن الطلبة الذين كانوا يختارون العربية لدراستها يرون أنها كانت تجربة فريدة في حياتهم, وبعضهم يشبهها برواية اليس في بلاد العجائب، فمنهم من ينسحب سريعاً عندما يصطدم بصعوبة اللغة، أو لنقل براعتها وعبقريتها، ومنهم من تعجبه التجربة و تستهويه فيختار أن يستمر في تعلمها لينزل في جحر الأرنب رويداً رويداً فيزداد تعجباً وانبهاراً عندما يكتشف كم هو عميق هذا الجحر ولما يصل بعد الى نهايته ليرى بلاد العجائب. وهو ما عنيته انفاً بقولي أنني أرى في عيون الطلاب شيئاً من بريق الإثارة. فاللغة العربية بالنسبة لكثير منهم ممن لا يعرف عنها شيئاً البتة ولكنه يقرر فجأة أن يخطو هذه الخطوة الجريئة فيتعلمها، عالماً جديداً لم يسمع عنه من قبل أو بالأحرى آثر تجَنَبه إما بسبب جهل الطالب بهذا العالم أو بسبب هيمنة الصورة النمطية التي يفرضها الإعلام في الغرب والتي تصور العرب إرهابيين متخلفين ورجعيين.

العربية في بريطانيا. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب اللغة العربية في بريطانيا.. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب
((إحدى قاعات الدراسة في كنغز مانر))

ولكن يبقى السؤال.. كيف ينجح الأستاذ في صنع الإثارة والتشويق والاهتمام لدى متعلمي اللغة العربية؟

إن لتدريس اللغة العربية وآدابها في بريطانيا تحديات خاصة، منها ما ذكرته عن الصورة النمطية وهناك تحديات أخرى مثل رهاب الامتحانات وهو ما يدفع الطلبة الى الهروب من كل صعب كدراسة اللغة العربية. ولهذا السبب تحاول المؤسسات التعليمية في الغرب أن تصور اللغة العربية على أنها لغة سهلة نافية صعوبتها. كما يعمد بعضهم لنفس السبب الى تجنب تدريس الفصحى واستبدالها بنماذج أبسط كالعامية المصرية أو الأردنية, أو تدريس نموذج مبسط لما يسمى بالعربية الفصحى الحديثة وهي نسخة مبسطة كذلك من الفصحى تُحجّم اللغة العربية وتصغرها من حيث عدد المفردات والقواعد. وهو كذلك ما يصب في خدمة إدعاءاتهم أن اللغة العربية ليست إلا لغة حديثة لا يتجاوز عمرها الف سنة وأنها ليست سوى لهجة تفرعت من السريانية وغير هذا من خزعبلات هم أنفسهم غير قانعين بها رغم دفاعهم عنها، وسوف نأتي لاحقاً على ذكر هذه المسألة.

وقضية صعوبة اللغة العربية وعزوف المتعلمين عنها بسبب ذلك، كانت إحدى التحديات التي واجهت أولى الخطوات التي خطاها الإنجليز في تعليم اللغة العربية، وذلك في أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر وتحديداً في جامعة كامبريدج ثم جامعة أكسفورد. وقد ظهر الاهتمام بتعلم اللغة العربية بسبب ارتباطها بالعلوم والمعارف الموروثة عن الحضارة الإسلامية والتي كانت محط أنظار الغرب، فقد درس عدد من المستشرقين اللغة العربية مثل وليام بيدويل (1561-1632) والذي يعد من أوائل من أسس لتعليم اللغة العربية في انجلترا.(1) وقد واجه مدرسو اللغة العربية الأوائل في كامبريدج وأكسفورد مثل إدوارد بوكوك الذي كان أسقف حلب والسير توماس آدمز الذي شغل منصب عمدة لندن نفس المشكلة ألا وهي رهبة الطلبة من اللغة العربية وتخوّفهم من دراستها أو عزوفهم عنها لأسباب أخرى مثل مقتهم للإسلام (جذور الصورة النمطية). ولمواجهة هذا التحدي جرت كتابة مقالات وخطب عن أهمية تعلم اللغة العربية وجمالها وروعة الثقافة العربية والتراث والأدب الخ، كخطبة توماس إربينيوس ((عن أهمية اللغة العربية)) عام 1620.(2) ومثل تلك الخطب والمقالات القصيرة، والتي تشبه في أيامنا هذه المقاطع المرئية القصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فعلت فعلها في اجتذاب الطلبة لتعلم اللغة العربية.

العربية في بريطانيا. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب 5 اللغة العربية في بريطانيا.. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب
((ملصق إعلاني يدعو لدراسة اللغة العربية في جامعة يورك))

ومع هذا فإن التحديات اليوم ما تزال قائمة بصورࣩ وأشكالࣩ شتى، حتى مع تطور وسائل التعليم وأساليبه. والسبب أن نَفَسَ الطلاب وهمتهم وصبرهم في طلب العلم قد تغير وضعف كثيراࣧ عن ذي قبل. ومن أهم التحديات التي تواجه الطلبة على مستوى اللغة العربية أمور عدة منها ازدواجية اللغة diglossia بمعنى أن هنالك الفصحى للقراءة والكتابة والعامية للسماع والتخاطب، وأن اللغة العربية لغة معربة declinable  لا لغة مبنية indeclinable  كالانجليزية، فمثلاً كلمة باب door بالانجليزية لا تتغير.. ولكنها بالعربية بابٌ وبابࣩ وباباࣧ والبابُ الخ. وهنالك أيضاً الحروف الأبجدية نطقاً وكتابة والأهم من ذلك حفظها ورسوخها في أذهانهم، وذلك من أصعب التحديات التي يواجهونها في بداية طريقهم لاكتساب اللسان العربي. أما فيما يتعلق بالنطق، تطيش ألباب الطلبة في محاولة التمييز بين السين والصاد والدال والضاد والذال والظاء والهمزة والعين والهاء والحاء وغيرها. كما أنهم يعانون كذلك في محاولاتهم التمييز بين الفتحة والألف والضمة والواو والكسرة والياء نطقاً وسماعاً. وأما من حيث الكتابة فإن الكتابة عكس ما يألفون (من اليمين الى اليسار) صعبة عليهم، ناهيك عن دمج الحروف في الكلمات. هذا كله قبل الدخول في مضمار القواعد والنحو (الجملة الإسمية والجملة الفعلية والضمائر المنفصلة والموصولة والحروف الشمسية والقمرية وهلم جراً). ونحن هنا ما نزال في مستوى المبتدئين!!

ولأجل كل تلك التحديات صار لزاماً عليّ كأستاذ أن أبتكر أسلوباً في التدريس يواجه تلك المعضلات ويحلها. وأظن أن غيري قد فعل مثل ما فعلت. وعندنا في الأدب الإنجليزي مقال للسير فيليب سيدني (1554-1586) وعنوانه ((اعتذار/ دفاع عن الشعر))، وفيه أن سيدني يصف الشعر بأنه وسيلة فريدة في التعلم لأنه يجمع بين التعليم والترفيه teaching through delight إضافة لكونه يتمتع بقدرات التصوير والإمتاع السماعي بالجرس الصوتي وغيره من الأساليب كالقافية والوزن كما أنه أسهل في الحفظ حيث أنه يعلق في الذهن أفضل مما يفعله الكلام العادي.

وقد ألهمني مقال السير فيليب سيدني هذا، لكنني أخذت منه الفكرة ألا وهي أنه لابد من ابتكار وسيلة كان يشبهها أحد أساتذتي بالدواء المغلف بالسكر Sugar Coated Pills، فوضعت لذلك خطة منهج أقسم فيه الدرس الى أربعة أرباع: ربعٌ لمراجعة ما أخذناه في الدرس الماضي وربع لمادة جديدة وربع للمسائل وربع لمادة جديدة خفيفة الوطء على الطالب نختم بها الدرس. وبين هذه الأرباع فترات قصيرة لما أسميتها الفسحة، حيث نتوقف لنتكلم في أمور لا تخرج عن سياق تعلم اللغة بل العكس فهي من جنس ما يتعلمه الطالب في المحاضرة وهي في نفس الوقت ممتعة ولا تحتاج لإعمال الفكر مثل الكلام عن الموسيقى والتاريخ والشعر والأزياء والعلوم وغير ذلك. والمواضيع التي نطرحها لا تكون عامة وإنما منتقاة بعناية.. كالكلام مثلاً عن القهوة والشاي وكيف تم اكتشافهما وما هي عادات شربهما في الدول العربية، ولماذا الخط العربي والزخرفة الإسلامية فن رائج أكثر من غيره كالنحت والرسم، أو الحديث عن ما يسمى بالانجليزية loan words أي المفردات المستعارة.(3)  ومثل هذه المواضيع تزيد من معرفة الطالب وترفع مستوى الوعي والإدراك لديه خصوصاً في فهمه لديناميكية اللغة وطبيعتها، إضافة لكونها ماتعة وتعطيه فرصة لالتقاط أنفاسه استعداداً لتلقي مزيداً من الدروس في قواعد الكتابة والنحو وغيرهما.

أما اللغة التي وقع إختياري عليها فكانت الفصحى الحديثة سماعاً ومخاطبة وقراءة وكتابة. والسبب لأن الفصحى وحتى في نسختها المبسطة المسماة بالعربية الفصحى الحديثة modern standard Arabic ما تزال أفضل من تعلم العامية وذلك لكي لا يكون هنالك تضارب بين القواعد في القراءة والكتابة من جهة وبين العامية في المخاطبة والسماع والتي لا يُعمل فيها بالقواعد كما ينبغي من جهة أخرى. إضافة الى أن الفصحى مألوفة لدى الجمهور في الدول العربية وذلك على عكس العامية التي علاوة على كونها محدودة فإنها قد تشكل بعض الحساسية لدى متحدثها في غير محيطها، كما حدث لبعض الدبلوماسيين الغربيين ممن يتحدث عامية دولة عربية ما في دولة عربية أخرى بينها وبين صاحبة تلك اللهجة أزمة سياسية. وهو ما جعل معظم الدبلوماسيين البريطانيين اليوم يتجنبون العامية ويتحدثون بالفصحى.

ومن الأدوات التي أستخدمها في تدريس اللغة العربية والأدب كذلك، وأثبتت نجاحاً، توظيف الترجمة كأداة لرفع مستوى فهم اللغة والتفاعل معها. وهي كذلك تعطي دفعة معنوية للطالب وإحساساً بالثقة بنفسه وهو يقوم بمهمة الترجمة في مرحلة مبتدئة من تعلمه العربية. فمثلا يقوم الطلاب في المرحلة المبتدئة بإكمال هذا التمرين في الترجمة من العربية الى الانجليزية ثم العكس في غيره وهكذا:

جدول

العربية في بريطانيا. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب 1 اللغة العربية في بريطانيا.. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب
تمرين في الترجمة من العربية الى الانجليزية

مثل هذه التمارين تعلم الطالب تحري الدقة في إبراز المعنى الصحيح لكل من هذه الجمل والعبارات. ومع تكرارها يمتلك الطالب مهارة التمييز بين الجملة الاسمية والفعلية وبين الصفة والمضاف إليه وهلم جراً.

وعوداً على النظرية القائلة بأن العربية متفرعة من الآرامية أو غيرها كالسريانية. فإنه من المؤكد عدم وجود دليل مادي ملموس على قدم اللغة العربية، ولا دليل كذلك على الإدعاء القائل بحداثتها (وهو ما يتبناه الغرب ولا مناص من تبنيهم لهذا الرأي). فأما حداثة اللغة العربية فتنفيه أدلة ملموسة دامغة وهي عدد المفردات الهائل الذي لا تقابله لغة أخرى بل ولا تكاد تدنو منه، وعدد جذور الكلمات، والتركيب النحوي والصرفي بالغ الدقة والتنظيم بلا منازع، وعدد الحروف الأبجدية وأصواتها والحركات كذلك وأمور أخرى لا يتسع المجال لذكرها.

أما عن قدم اللغة العربية، فالمعروف أن عمر أي لغة يُقاس بالعدد التراكمي للمفردات وما ذكرناه في أعلاه من خصائص. وهذا ما قد يجعل اللغة العربية موغلة في القِدمِ حداً لم يبق لها أثراً ملموساً سوى ما ذكرناه، مثلها في ذلك مثل الأنبياء كنوح وإدريس وإبراهيم عليهم السلام، ولولا الكتب السماوية ما عرفناهم لاندثار الأدلة الملموسة على وجودهم. ومما حصل لي أنني مرة تجادلت مع رئيس القسم في هذه المسألة، وهو أستاذ ألمعي ومشهور في علم اللغة والصوتيات، حيث أنه سألني في الصباح وكنا نعد الشاي سوية في مطبخ القسم: “لماذا تقول للطلبة بأن العربية قد تكون اللغة الأقدم على ظهر الكوكب؟” ثم شرع يعارض هذا الكلام بلا بينة واضحة.. فسألته أنا: “ما معنى آدم؟”، فتفاجأ وتلعثم في إجابته ثم قال: بالعبرية يعني إنسان. أجبته بدوري: “ومم خُلق الإنسان؟”، فأجاب: “من الطين”. فأخبرته أنه لا يوجد هذا المعنى لآدم إلا في العربية أي من أديم الأرض ولو قارنا بين المعنيين في العربية والعبرية فمن المؤكد أن المعنى الذي تنفرد فيه العربية أدق وأصح وبالتالي فهو أقدم حيث أنه يدل على المادة التي خلق منها آدم وليس على الهيئة التي أصبح عليها كما تشير الى ذلك كل اللغات ومنها العبرية. وأقسم أنه تعثر وكاد يسقط وهو يخرج من المطبخ فاراً بجلده.

أن ما ذكرناه في أعلاه يدلّ على بطلان فرضية تفرع العربية من الارامية أو غيرها. وأزيد على ذلك أن تنوع اللهجات وتعددها في كل لغة أمر طبيعي ولكن يبقى الدليل على اللغة الأم التي تفرعت منها تلك اللهجات أنها مهيمنة من حيث عدد المفردات وإحكامها وتطور تركيبها النحوي والصرفي مقارنة بالفروع. وهو ما يجعل العكس صحيحاً، بمعنى أن العبرية والآرامية لهجات تفرعت من العربية. ويؤيد كلامي هذا عبد الحق فاضل في كتابه مغامرات لغوية. حيث يذكر أن قلب العين ألفاً والباء ميماً كما في كلمتي (ارامي – عربي) أو جعل حرف مكان الحرف الذي بعده كما في (عبري-عربي) هي من الأمور الشائعة في اللغات، خصوصاً في اللهجات المتفرعة من اللغات.(4) ويؤيد ذلك الحديث المرفوع الى النبي صلى الله عليه واله “أول من فُتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل” وهذا يعني أن اللغة التي تكلم بها إسماعيل هي الأم وهي العربية المبينة وأن غيره كأبيه إبراهيم عليه السلام كان يتكلم بأحد فروع تلك اللغة وهي الارامية.

العربية في بريطانيا. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب 4 اللغة العربية في بريطانيا.. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب
((السور الروماني الملاصق لكينغز مانر من جهة حديقة المتحف))

إن أي لغة تنشأ في محيط صحراوي مجدب يكاد يخلو من المدنية.. وكان معظم متحدثي تلك اللغة أميين لا يعرفون القراءة والكتابة وفوق ذلك فإن أكثرهم بدو متفرقون في الأرض همهم الأعظم الكلأ والماء.. فإن مصير تلك اللغة هو الاندثار أو الاضمحلال بلا شك. ولكن كيف للغة نشأت في مثل هذه البيئة أن تصبح على ما هي عليه، إلا إذا كانت تلك اللغة هي النسخة الأولى archetype أو إن العناية الربانية تعهدتها فحفظتها.

أعود فأقول إن مسيرتي في تدريس اللغة العربية وآدابها في المحافل الأكاديمية البريطانية تجربة متميزة وفريدة، خصوصاً وأن البيئة التعليمية خصبة صالحة للغرس. وقد حضر دروسي طلاباً وطالبات لم يعرفوا عن العربية شيئاً من قبل واليوم أصبحوا متخصصين فيها بعد أن أكملوا الدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية. وقد يكون الأستاذ ملقناً تارة ومعلماً تارة ومُفهّماً تارة أخرى ولكنه لا كان إن لم يكن مُلهماً. وأختم ببضعة أبيات كتبتها يوم مر على عملي مدرساً للغة العربية عشر سنين:

عشرٌ من الأعوام عشت معلماً

للضاد في أرض غزيرٍ قطرها

لم أخلُ فيها من مودة صاحبٍ

ودناء نفسٍ عمّ فيها شرها

ما زلت في هذي الجزيرة راعياً

لبديعها وكلامها وصروفها

وأذود عنها ضد كل مهتكٍ

بالجهل من أثوابها وستورها

ألوي لسان الأعجمي مقوِماً

عوجاً به كي تستقيم حروفها

العربية في بريطانيا. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب 3 اللغة العربية في بريطانيا.. لمحة من البدايات ونظرة في التجارب
((مدينة يورك في الصيف وتظهر هنا كاتدرائية المنستر الشهيرة في يورك))

وهذه الأبيات تأخذنا الى موضوع تدريس الأدب. ففي كثير من الجامعات البريطانية ومنها جامعة يورك، تكون مناهج تدريس الآداب ومنها الأدب العربي انتقائية نوعاً وليست موسوعية كماً. حيث يتم اختيار بضعة نصوص ومن كل نص يتم اختيار نموذج ثم دراسته بعناية وتركيز. والسبب في ذلك يعود إلى أن الطالب يحتاج قبل الدخول الى معترك دراسة الأدب إلى شيء من اللغة العربية مع مدخل ولو بسيط لفهم الثقافة العربية كذلك. وهذا يجري بالتزامن مع دراسة تلك النصوص. وعليه فلا بد من دخول المعترك رويداً وبرفق لتجنب حصول فجوة في الفهم قد تؤدي إلى شعور الطالب باليأس وبالتالي عزوفه عن الدراسة. فالدراسة في بريطانيا أشبه ما تكون بصناعة التحف الخزفية كالمزهريات  والأباريق حيث يتعامل الصانع فيها مع الطين اللزج برقة فلا يكاد يضغط عليه بيده كي لا يفسده بل يلمسه بأطراف أنامله وحسب، وفي مرحلة الدراسات الجامعية وخصوصاً العليا منها يترك للطالب مساحة كبيرة من الحرية كي يكتشف من خلالها نفسه ويتعرف على ذاته وقدراته ليتحول بعدها من مصنوع الى صانع.

الهوامش:

  1.  Loop, Jan, Alastair Hamilton, and Charles Burnett. The Teaching and Learning of Arabic in Early Modern Europe. Leiden: Brill, 2017. P40.
  2.  Ibid, p34.
  3.  Khaleel, Ahmed. How English words entered Arabic through the British Empire in Iraq. The Conversation. https://www.independent.co.uk/arts-entertainment/english-arabic-british-colonial-iraq-language-influence-dialect-a8332536.html 
  4. عبد الحق فاضل. مغامرات لغوية. دار العلم للملايين. صفحة 11

د.أحمد خليل البحر

الدكتور أحمد خليل البحر، أستاذٌ جامعيٌّ عراقي، يعمل أستاذًا مشاركًا في قسم اللسانيات وعلم اللغة بجامعة يورك، بالمملكة المتَّحدة، متخصصٌ في الأدبِ العربي، ومهتمٌّ بترجمةِ ما تُسْتعصى ترجمته translating untranstable مثل النُّصوص الدِّينية والشِّعرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى