إنا مُحيــــــــــوكِ يا سلمى فحيِّينا
وإن سقيتِ كِرامَ الناسِ فاسقينا
في تلكم القصيدة جاء فخر الشاعر “نهشل” بنفسه وقومه وفعالهم فخرًا عذبًا مستساغًا، لا تكلف فيه ولا تصنّع، إذ إن أحسن الفخر وأجمله ما جاء عفو الخاطر، لا يتكلفه الشاعر ولا يتطلبه.. فليس الفخر، إذا جاء مجردًا لذاته، كالفخر الذي يمازجه الشاعر بذكر المرأة؛ فإن هذا الأخير يكتسي حلة من العذوبة والظرف، فيجيء أوقع في السمع وألطف في النفس.
وقد كان إنما يحدث سلمى، فالفخر لما مزج بخطابها ازداد حسنًا وعذوبة، وقد فتح له بابًا من أبواب الحديث عن ذاته وقومه وفعالهم، فبدى الفخر حينئذ مقبولًا سلسًا، لا يستثقله السامع، في حالة من استعراض كرام الشمائل للمحبوبة وهذا مما يُستملح، إذ لا يعدو أن يكون حديثًا لها عن نفسه، لتراه بما يُحب أن يُرى به، ويُسمعها ما يودّ أن يثبت في خاطرها، فهو كما قال الشاعر:
وَيَرتاحُ لِلمَعروفِ في طَلَبِ العُلى
لِتُحمَـــــــــــدَ يَومـــاً عِندَ لَيلى شَمائِلُه
وكثيرًا ما نجد هذا المعنى في أشعار العرب، فهذا عنترة لا يفتأ يحب أن تراه عبلة بعين الرضى، وكأنه لا يهوى أن يرى نفسه إلا في عيون عبلة، ولا يكتسب ثقته إلا من صورتها له، ويجعلها سببًا ووصلًا لذكر مكارمه للناس كلها ويحدث بها العالمين في شعره، بل إنه إن فخر بين يديها، فلا تثريب عليه، وله أن يبالغ ما شاء من المبالغة وله أن يتزيد، إذ هو إنما يحادثها ليكسب ودّها، ويثبت عندها ما يراه في نفسه من شرف وبأس، فلا يكون إلا ضربا من ضروب الاستمالة واستدعاء الإعجاب، حتى أنه قد يسترضيها بحديث عن بطولاته، ويقول:
فلئن صرمتِ الحبلَ يا ابنةَ مالكٍ
وسمعتِ فــــــيَّ مـــــــــــــــقالـــةَ العـــــذّالِ
فَسَلي لِكَيمـــــــــــا تُـــــــخبَري بِفَعــــــــائِلي
عند الــــــــــــوغى ومــــــواقفِ الأهـــــــــوال
وهذا الملمح تبين لي بعد مطاولة النظر في أشعار الفخر، ولا سيما أبيات عنترة، ففي بيت آخر لطيف يبين أنما مشغلته أن تعلم عبلة ما جهلته عنه في ساح الوغى، ولا يزال يفخر ويحدثها بفعاله؛ فيقول:
هلّا سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ
إن كنتِ جاهلةً بما لم تَعلمي
إذ لا أزالُ عـــلى رحالةِ سابحٍ
نهدٍ تعــــــــــــــاورُهُ الكماةُ مكلَّمِ..
وخطر لي أن ليس الفخر وحده هو الذي يَحسن بين يدي المرأة، بل تُستطاب لها الشكوى وتُستعذب في الشعر حين توجه إليها أو منها، ولأن الشاعر يأنف أن يكون شكّاءً نواحًا، كانت المرأة خير من يخلص إليها في غرض الشكوى، إذ يبث إليها وجده بلا غضاضة، ويفتتح بذكرها أبواب التأسّي والتوجّع، ويستهل بها سبل الضجر والتبرم، وطالما شكى لها الفقر وضيق ذات اليد فهي تستفزّه في الشعر بسؤال، فيبث لها ما يختلج في صدره، أو تقول له قولة، فيجد في حديثها ذريعة للشكوى، فيشكو ويطيل، غير هياب ولا متردّد، ويذكر لنا ما به من لوعة ووجد في قصائد طوال ونستأنسها منه، وكم يستحضرها أو يسميها ليفتتح بها حديثًا عريضًا عن همه وأحزانه.
قالت أميمة ما لجسمك شاحبًا
منذ ابتذلتَ ومثل مالك ينفعُ
أم ما لجنبك لا يلائم مضجعًا
إلّا أقضّ عليك ذاك المضجعُ
فأجبتُها أن ما لجسمـــــــــي أنّه
أودى بنيّ مِن البلاد فودّعوا
وأما اللوم والعذل فذلك باب عريض يعرف الشاعر كيف يبث ما في نفسه ويستفتح بلومها له على كذا أو في كذا، وشكوى الأرق وطول الليل، وذم المشيب ويا للوعة من ذم المشيب، وذكر الهموم والتململ من الكرم، وخوف السفر وما فيه من مهلكة حتى الحث على القعود عن الحروب رهبةً من المنية، أو دفعه للأخذ بالثأر وحثه على طلب المعالي، فالمرأة ولاسيما إذا كانت محبوبة هي مبعث ذكر الحمية والمروءة، ويحسن بين يديها بث الأحزان، وربما كانت مرآته التي يرى فيها ضعفه قبل قوته، وهوانه قبل بأسه، فيكون حديثه إليها مُفتتحًا صادقًا لكل غرض من أغراض الشعر، وحتى أنني أحيانًا أفهم في بعض القصائد أن الشاعر حينما يُمعن في ذكر الوفاء والإخلاص لمحبوبته إنما يريد أن يقول أنا الوفي الكريم، فنعرف منه هذه الصفة، ولكم يتباهى الشاعر بمكانته عندها، لنراه مُعجبًا وفاتنًا، وعلى كل حال يبقى غرض الفخر أجمل الأغراض إن اشتبك بالمحبوبة.