أدب

الوصل السرمدي: في رثاء الشيخ محمد المقرمي

يمضي العارفون بالله خِفافًا، كأنهم سحابة صيفٍ مرَّت على ديار القلوب فأنبتت فيها نورًا ثمَّ ارتحلت. وشيخُنا العارف بالله محمَّد المقرمي واحدٌ من أولئكَ الذين إذا ذُكروا هبَّت مع ذكرهم نسائمُ الإيمان، وإذا غابوا تركوا في القلبِ أثرًا لا يُوارى.
كنتُ قد كتبتُ قبل مدَّة يسيرة مقالةً عن شيخنا المقرمي، عقب رحيله عن تركيا، وقد حملني على كتابتها شجنُ الاشتياق، ولوعةُ الفقد التي نزلت بي ساعة ودَّعناه. فقد كُحِّلت أعينُنا برؤيته، وجالسته، وسمعتُ منه، ورافقناه أيَّامًا لا تُنسى. وممَّا كتبتُه يومئذٍ: “لقد تنفَّسَ بي العمرُ، ورأيتُ الشَّيخَ المهندسَ محمَّدَ المقرمي، وجالستُه، وسمعتُ منه، وأفدتُ من فيوضِ ما أولاه الله من بصيرةٍ نافذةٍ، ثمَّ مضى في طريقه، فأضحى ما كانَ بيننا شطرًا من ذاكرةِ الوصلِ الممتدَّةِ إلى اللقاءِ السَّرمدي!”. وقد طار المقال في الآفاقِ لمكانة الشَّيخ في صدور النَّاس، حتى كان من أثره أن اتصل يقول لي: “أسعدَ اللهُ لحظتكَ أيها الحبيب. قرأتُ ما كتبتَه عني، فرأيتُ محمَّدًا المقرمي الذي عرضه الدكتور خالد ليس هو محمد المقرمي الذي أعرفه! ولكن أسأل الله سبحانه أن يجعلني خيرًا مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون”.
وقد بلغنا نبأُ رحيله إلى الله في فجرِ يومنا هذا الأربعاء الحزين: 05 جمادى الآخرة 1447هـ. فارقَ الدنيا بعد أن وُفِّق لعمرةٍ مباركة، وزيارة مسجد النبي ﷺ، والسلام على الحبيب المصطفى ﷺ، ثم قَفَلَ راجعًا إلى جدة، فاختاره الله إليه وهو يتأهَّبُ لصلاةِ الفجر؛ دون عَرَضٍ من مرض، أو شكوى من ألم. وإنما قبضَه الله قبضَةَ المُحبِّ المُشتاق، في ساعةٍ هي أبهى ساعاتِ الختام.
وإني لأشعر بالعجز عن رثائه، ماذا أقول؟
أي رثاءٍ يفي بمكانته، وأي كلمات تترجمُ ألمَ الفقد، وأي نصٍّ يليقُ به؟ فأمثال الشَّيخ المقرمي لا يجيئون في كل عصر، ولا تُشبه سِيَرُهم سِيَرَ النَّاس، لأنهم عاشوا بالله ولله، ورحلوا على وعد اللقاء. وإنَّّ هذا الذي نكتبه اليوم شهادةُ قلبٍ عرَفَ قدر الرَّجل، وذاقَ من نور معرفته نصيبًا.
أجدني حائرًا في الكتابةِ عنه؛ يشبه الأمرُ أن يتمكَّنَ الشَّيءُ من نفسك ثم تعجز الإبانةُ عنه، وهذا ما أشعر به. وإني والله ما ظننتُ أن أنعى الشيخ؛ فقد أمضَّني الرحيل، وأصابني الحزن، وركبتني الكآبة، ولا نقول إلّا ما يرضي الإله. كنا نؤمِّل حياةً طويلة لرجلٍ – نحسبه – سيجري الخير على يديه؛ لم نشبع بعدُ من معينه الثرّ، ولم نرتوِ من كلامه العذب، لكن لله الحكمة البالغة، قبضه إليه في عزِّ ظهوره وتعرّفِ النَّاس إليه من كلِّ الأقطار، قبضه إليه شفيفَ الرُّوح، مخمومَ القلب، نقيَّ السِّيرة، مصانَ الجانب، موفورَ الكرامة، سيرته الطيبة على كل لسان، رحل فجأةً، ليلتقي الحبيبَ بعد طولِ اشتياق.
ولا أحسبُ إلّا أنَّ الشيخَ قد اشتاقَ إلى لقاء ربِّه، فلبّى اللهُ شوقَه، وأجابه إلى ما أراد. فقد ذكر بعض من كان بقربه أنَّ آخر كلمة سمعها منه: (يا ابني.. اشتقتُ لرؤية الله). كان الشيخ بيننا بجسدٍ حاضر، أمَّا روحه فكانت تُقيم في أفقٍ آخر، تحلقُ في علو مهيب، كأنها تتنسَّمُ من رياضِ الغيب أنسامًا لا ندركها.
قلتُ له يومًا: هل تشتاق إلى لقاء الله؟
فقال، وهو يبتسم ابتسامةَ مَن عرفَ الطَّريق:
إذا قبضني الله إليه، وجاء الملك يسألني: من ربُّك؟ سأقول له: تسألني أنا عن الله، تسألني عن حبيبي؟! اجلسْ إلى جواري، أُحدِّثْكَ عن اللهِ حقَّ المعرفة!
كلمةٌ كهذه لا يقولها إلا قلبٌ عَرَفَ ربَّه معرفةَ المحبِّين، وذاقَ من أنوار القرب ما يجعلُ سؤال الملك مهولًا عند غيره هيِّنًا عنده؛ لأنَّ الله كان أنيسه في الدُّنيا، فاستحيا أن يُسأل عنه وهو الذي شغل ليله ونهاره. إنما يتكلم هكذا مَن امتلأ يقينًا، واستقرَّ التَّوحيد في سويدائه، فأضحى سؤال “من ربّك؟” عنده سؤالَ محبٍّ عن حبيبه، لا امتحانًا، ولا رهبةً، وإنما شهادةٌ على صِدقِ الوصل وقدره.
وإنا والله قد ودَّعنا رجلًا قلَّ نظيره، ولا أقول هذا تأثرًا بالحزن، وإنما عن معرفةٍ بحال الرجل. نحسبه من الأولياء الصَّالحين العارفين الذينَ عاشوا لله ومن أجلِ الله، وعاشوا خدَّامًا لكلامه. وأحسبُ أنَّ الله منحه من الهباتِ والأعطيات ما لا يعلم بها إلا هو سبحانه.
ورحيله خسارة بكلِّ ما تحمله الكلمة من ظِلالٍ: خسارة على طلابه ومحبيه، وخسارة على العلم، وخسارة على اليمن؛ فمن يسدُّ مسدَّه؟ ومن مثل شيخنا المقرمي في تعلقه بالله، وحبه للقرآن، وسماحته مع الخلق، ونأيه بنفسه عن التفرقة والتشظي، وقدرته على جمع القلوب؟ ثمَّ خسارة على الأمَّة؛ فقد فقَدَت رجلًا يدلُّ على الله بحالِهِ قبلَ قاله. لكأني به رجلٌ من أصحابِ الجنيد والحسن وابن أدهم… جاءنا من ثقبِ التَّاريخ!
وما سمعتُ أحدًا يتحدَّثُ عن الله وحبّه، والشوق إليه، مثله؛ كان يتحدث حديث معرفة ومحبة ورجاء ويقين. ومن أعظم ما سمعته منه قوله: “والله حرام أننا لا نستثمر ربّنا. الله موجود، فممَّ نخاف؟ الله حاضر معنا، فممَّ نشكو؟ نحن لم نعرف الله حق معرفته”.

السرمدي في رثاء الشيخ محمد المقرمي 2 الوصل السرمدي: في رثاء الشيخ محمد المقرمي

وأمّا كلامه في القرآن وعن القرآن، فهذا مما طارت به الأخبار وسمعه الناس. لقد طبّق الرجل معادلة يسيرة: “اعطِ القرآنَ كُلّك، يمنحْك القرآنُ بعض أسراره وهباته ومَددِه“، وهذا ما فعله الشَّيخ؛ عاش عمره كلَّه في رحابِ الذكر العظيم، فرفعَه الله به، مصداقًا لقول النبي ﷺ: “إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين”. وقد سمعته مرةً يقول: الله يقول لنا عن القرآن: «فِيهِ ذِكْرُكُمْ»، أي ذكري وذكرك، فلماذا لا نبحث عن أنفسنا في طيّات الكتابِ العظيم؟
وقد يعجل بعضُ المشتغلين بالدَّرس التَّفسيري إلى محاكمة تدبُّرات الشيخ ورُؤاه في القرآن، فيعرضونها على قواعد التَّفسير، وكأنَّ الشَّيخ يفسِّر القرآن تفسيرًا على المعهود عند أهل الفن، وهذا خطأ. فالشَّيخ لم يزعم أنّه مفسِّر، وإنما كان يسمي ما يقدِّمه: “تجربتي مع القرآن”؛ أي: كيف أفهم هذا القرآن الذي طُلِبَ منّي تدبّره، والعمل به، وامتثاله في كل حياتي. كيف أعيش القرآن وأُفعِّله كما صنَعَ النَّبي ﷺ والجيلُ الأول. ومن هنا نَظَر إلى القرآن نظرةً كلّيةً موضوعيّة، لا نظرةَ مفسِّرٍ يُعنى بالكلمةِ والآية وسبب النزول وغريبها؛ فليس هذا مجال اشتغاله، وإنما كان يحفر في لُبِّ الخطاب، وظلاله، وهداياته، ورسائله، والمسكوت عنه، ويحفر في أسراره المضنون بها على غير أهلها، وما تحمله من معانٍ تصلحُ للإنسانِ المعاصر البعيد عن رحابِ الذِّكر. وكان الشيخ يردِّدُ دومًا: “هذا ما خلصتُ إليه… قد أكون مخطئًا، لكنه ما وقر في نفسي بعد تتبّعٍ للآيات وربطٍ بينها والنظرِ فيها”، ولا يمنع أن يقع الخطأ أحيانًا في تجربةٍ فريدةٍ كهذه؛ وإنما الخطأ الحقيقي هو محاكمة الشَّيخ وكأنه في درسٍ تفسيريٍّ خالص، مع إغفال البُعْد الإيماني، والتَّربوي، والإرشادي الذي أراد الشيخ أن يبلّغه للخلق من بوابةِ القرآن الكريم. فتأمل.
وقد بدأ رحلته المباركة في صحبة القرآن الكريم، يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، ثمَّ بحثَ عن العِلَّة المانعة التي تحجزه عن فهم الكتاب، فعالجها، وتخلَّصَ من آثارها؛ فزالت العقبات والجدران التي كانت تحول بينه وبين الكتاب العظيم. ولعلّ ما يميّز تجربة الشيخ أنه دخل إلى القرآن من بوابة الهداية، والبحث عن الله، وصلاح النفس، واستقامة القلب؛ ولذا تراه إذا حدَّثك عن الآية شعرتَ كأنك تسمعها لأول مرة، وتَرْكَبُك الدهشة وأنت تسمعه يضمّ الآية إلى أختها، ليخرج بمعنى مشرق يحيي القلب، وتسمو به الروح، وتنهض به همةُ المرء في السير إلى الله. لقد أعاد الشيخ تثوير القرآن وفق أغراضه الأولى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1، 2].
وقد انعكس هذا النهج في تعامله مع الناس؛ فلا تراه مُحرِّضًا، ولا باثًّا لمعاني الكراهية، يجمعُ ولا يفرِّق، ويلتفت إلى القضايا الكبرى الجامعة، ولا يأبه بالتَّفاصيل التي تُغذِّي أمراض القلوب. وأحسبه كانَ رحيمًا بالخلق، يتحدَّثُ إليهم ليكونوا مع الله، لا معه هو! لا يتعالى على البعيدِ الغائب عن كرمِ الإله، وإنما يشفقُ عليهم، ويلتمسُ لهم المعاذير، ويرجو لهم حسن الاستقامة، والعودة إلى طريقِ الحق؛ طريق الله، لأنه يشعر بعِظَم الفقد. وكان يقول دومًا: “أتدري ما معنى أن تكون بعيدًا عن الله؟ كيف يحتمل المرء البُعد عن خالقه؟”. ولهذا لا تعجب إذا علمتَ أنَّ من أجمل ما قدَّمه الشَّيخ محاضرة شهيرة بعنوان: “الله هو الحل الوحيد”.

وأمّا كلامه عن الرزق، وحسن التوكل على الله، فهو مما يُكتبُ بذوْبِ الذَّهب. تخيَّل أن يتحدَّثَ إنسان عن العمل مع الله في زمن تغوُّلِ المادَّة، وانتشارِ الأثَرَة، والتعلق بالأسباب والانقطاع إليها، وغيابِ المعاني الكبرى؛ فإذا بالشيخ يأتيك يقول: “اشتغل مع الله، بكِّر من الصَّباح، وقل: يا رب، شاشقى معك”،  ثمَّ يضيف: “من يسمعني يقول هذا مجنون؛ لأنهم ما جرّبوا حقيقة العمل مع الله”.

المقرمي سيرةٌ من ضياء الوحي 1 الوصل السرمدي: في رثاء الشيخ محمد المقرمي

وقد عُرف عن الشيخ – طيب الله ثراه– خروجه بعد الشروق من قريته «للعمل مع الله» كما كان يسميه؛ يركبُ سيارته، فيحمل كلَّ من أرادَ المدينة، أو ينهض للإصلاح بين المتخاصمين، مُقبِلًا على ذلك بقلبٍ سمحٍ لا يعرف الضَّجر. وممَّا يجهله كثيرون أنَّ الشيخ كان يكفُل بعض الأيتام، ويحنو على الفقراء والجرحى، ويتعهَّدُ أمورهم بنفسه. وقد حدَّثني عن شؤونٍ في هذا الباب لا يليق كشفُها، ولا يحسن إفشاؤها. وقد كان يتعاهد القرى المجاورة تعاهد الراعي لأهله؛ فيطعم الطعام، ويكفل اليتامى، ويقضي الحاجات، ويشدُّ من أزر الضعفاء، ويُغيث المكروبين؛ كلُّ ذلك في صمتٍ جليل، لا ضجيجَ فيه ولا تصوير، ولا طلبَ شُهرة. بل لعلّ الخُلَّص من خاصَّته وحدهم من كانوا يعرفون هذا الفضل المكنون الذي أخفاه عن أعين النَّاس، وابتغى به وجه الله وحده.
وممَّا هو متِّصلٌ بهذا السِّياق أنِّي رأيتُ رؤيا لأحد أساتذتي الفضلاء، فطلبتُ من الشَّيخ تأويلها، فقال لي: “أستاذك يمرُّ بظرفٍ ماديٍّ عصيب، تعاهدْهُ”. فسألتُ عن أستاذي مَن هو قريبٌ منه، فقالوا لي: إنَّ حاله لا يسرّ. ولم تكد تمضي أيّامٌ حتى فوجئتُ بالشَّيخَ يسألني عن اسمه، فأرسلَ إليه مبلغًا من المال؛ إعانةً له، ووقوفًا إلى جانبه.
وإني لأشهد أنَّ الدنيا ما ملأت قلبَ الشيخ، ولا فَتَنَتْه، وهو الرجل الذي ارتحل إلى أقطار واسعة من العالم، فما رأى فيها إلا بَهْرَجًا زائلًا لا يعني له شيئًا. ولما زار إسطنبول في آخرِ أيَّامه، كنَّا نقول له: ما رأيك بها؟ فيجيب: “مدينة جميلة، رأيتُ مثلها كثيرًا، وكلّ هذه الزخارف لا تعني لي شيئًا. ليس هنا مكانُنا… مكانُنا هناك!”. وكان إذا وَدَّعه أحدهم قال له: “ولا عليك… شَنَلْتَقَى هِناك – أي في الجنة – ومَشْ نِفْتِرِقْش خالص”.
وقد اتّخذ من قوله: “علامةُ الإذنِ التيسير” منهاجًا يسير عليه؛ فلا يحزن لفوات شيءٍ من أمور الدنيا، ومتى رأى التيسير في أمرٍ أقبلَ عليه. وكنتُ قبل أيَّام يسيرة من وفاته قد حدّثتُه عن قومٍ يريدون عقدَ مخيّمٍ إيمانيٍّ تربويٍّ معه في إسطنبول مطلع الشهر المقبل، فقال لي: “لا مشكلة عندي… فرصة نراكم مرَّة أخرى”. ثمَّ تعسَّر خروج التَّأشيرة، فاتّصلتُ به معتذرًا، فقال لي: “علامةُ الإذنِ التيسير… لا تعتذر، فالإذن لم يأتِ، فعلامَ الاعتذار؟”. وكان يقول دومًا: “مشكلتي في الحياة أنّه لا توجد لديّ مشكلة”؛ ومقصده أنَّ كلّ ما يأتي من الله يُسلِّم به، ويقتفي الحكمة من ورائه، ويذعن لأمر الإله.
وأزعم –والله حسيبه– أنَّ الشَّيخ ممن تحلَّى بالولاية، ولا أحسبه إلا من الأولياءِ الأصفياء الخُلَّص. وقد هيأ الله له الخروج من قريته ليلتقي الناس في تركيا ومصر، ثم يعود إلى أطهر البقاع ليُقبض بعد زيارة الحبيب ﷺ. وأقول هذا لأنِّي أقللتُ الشيخ إلى مطار إسطنبول بعد منتصف الليل، وكانَ الطَّريق مظلمًا، ومعنا الصَّديق الدكتور أسامة عبد الغني، يسائل الشيخ ونحن نسبح معه في كلامٍ عرفانيٍّ إيمانيٍّ بديع. ودخلتُ دون قصد طريقًا معاكسًا، وما كان بيننا وبين الموت إلا بضعُ ثوانٍ، بل والله الذي لا إله غيره لا أعرفُ إلى هذه اللحظة كيف نجونا، مع استحالة ذلك؛ لأنَّ الخطَّ الآخر كان خطًا سريعًا. فقال الشيخ بهدوئه المعهود: “لا تخافوش… الله هو الذي أخرجنا من فم الموت. لا أحد رأى السيارة المقبلة، ولا أنتم رأيتم الشارع، ولم نشعر أصلًا أنّنا أخطأنا الطَّريق. الله هو صاحب الأمر… واصِلِ المسيرَ يا ابني”.
وقد كنتُ بين حينٍ وآخر أهتبل الفرصة لطلب نصيحة نبلّغها من خلفنا، ومن أجلِّ ما سمعتُه منه قوله: “ثلاثةُ أمورٍ التزمْ بها تنجُ: لا تتركِ الصلاةَ والفرائض، لا تؤذِ الآخرين، لا تكذب. إنِ التزمتَها كنتَ من أهلِ الله، ولن يضيعَك الله”، وله كلامٌ بديع عن آفة الكذب، وأثرها في حجب الإيمان عن معرفة الرحمن، يُرجع إليه في آثار الشَّيخ المسموعة. وأذكر أنَّه أخذ بيدي بعد صلاة المغرب وقال لي: “الناسُ في كلّ أقطار الدنيا يتحرّون التوجّه نحو الكعبة، فإذا بلغوها توجّهوا إليها من كلّ مكان؛ وكذلك الواصل… يصل إلى الله من كلّ الطرق! فلا تترك طريقًا يوصلك إلى الله إلا أخذتَ به، ولا تنتظر ثناءً من أحد؛ فما كان لله لم يُصِبْه الانقطاع”. وكان من كلامه المستمرّ لنا: “ينبغي أن نعيش اللحظة على مُراد الله”؛ وهي جملةٌ كثيفة، تشرحها حالُ الشيخ، وكلامه، ودروسُه، وآثارُه الممتدّة على مدى عقود.
وإنه لمن البرِّ أن تُنشَر دروسُه ومحاضراتُه وكلُّ تراثه؛ حتى يكون أثرًا خالدًا وصدقةً جارية، ويبقى ذكرُ الشَّيخ حاضرًا. فكلّ ما خلّفه من تراثٍ نافع كان يحمل هدفًا واحدًا: كيف يوصلك إلى الله في ظلِّ تزاحمِ الطُّرق، وتعثّرها، وفسادها، وزينتها. كيف تعرف الله وتأنس به في عالم يموج بالفتن والمحن والماديّة، وفي زمنٍ غلب فيه النأي عن الغيب، والتمسّك بالدنيا تمسّكًا مَرَضيًّا، نابعًا من هلعِ إنسانٍ خائفٍ يركضُ بلا بوصلة.
وها نحن نطوي صفحة رجلٍ ما كان من أهل الدنيا، وإن خالطَ أهلها؛ مَنْ علَّمنا أنَّ الطَّريق إلى الله لا يُقطع إلا بالصِّدق، وأنَّ القلبَ إذا صَفَا أضاء، وأنَّ العيشَ على مرادِ الله هو الغاية الكبرى.
اللهم اجعل قبره روضةً من رياض الجنة، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، واجعل ما خلّفه من نور وهداية سببًا لرفعة درجته، ودوام ذكره، وحسن لقائه بك.
سلامٌ عليه في العالمين، حتى نلقاه عند ربٍّ رحيم.

‫11 تعليقات

  1. إنا لله وإنا إليه راجعون
    تعرفت على شيخنا محمد المقرمي منذ ثلاثة أسابيع فقط قبل وفاته
    من أول يوم عرفته فيه عن طريق اليوتوب والتحول يقع في نفسي أدمنت عليه ليل نهار
    واليوم كعادتي أنتظر من القناة أن تنشر ما تيسر من علمه، ففجئت بخبر وفاته، بكيته وبكيته وبكيته حزنا عليه وعلى نفسي التي لم تعرفه من قبل لدرجة أني لم أصدق الخبر، ومن خلال مقالك عرفت لماذا أنا أدمنت الاستماع إلى الشيخ، شكرا لك صاحب المقال كل التوفيق لك في كل حرف وكلمة تكتبها وأو تقولها،
    أعزي نفسي وأعزيكم أهل اليمن السعيد في عالمكم الذي سد الأفق بنور علم القرآن
    محبكم في الله من الجزائر
    الخثير داودي

  2. جزاك الله خيرا أخي خالد على ماكتبت ..
    قرأته ولكأنك تحدثني ولكأن الشيخ معنا ..
    لا إله إلا الله ..
    اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس واغسله من الخطايا بالثلج والماء والبرد ..
    إنا لله وإنا إليه راجعون الحمد لله على قضاء الله وقدره ..
    أحسن الله عزاءكم وجبر مصابكم
    ياحبيب ..

  3. والله يا أستاذ خالد لقد وفقك الله لصياغة هذه المرثية الرائعة للشيخ المهندس محمد المقرمي صياغة تليق به رحمه الله تعالى واسكنه فسيح جناته ، صياغة عبرت فيها عما يكنه له قلبي كزميل دراسة أولا وكعالم يقظ منحه الله بصيرة في فهم القرآن وتدبره قلما منح مثلها لغيره، فقد انصفته بصدق بما أوردته من مواقفه وصفاته وغزارة عمله وفهمه مما أعجز انا عن قوله او كتابته. فجزاك الله الله خيرا وبارك فيك وكتب اجرك وجعل ذلك في ميزان حسناتك.

  4. سينفعون منه جمّ كثير خصوصاً بعد وفاته العلم الذي يبقى ولا ينقطع حسناته . رحمك الله ياشيخ محمد ونفعنا الله بما نفعك الله به اللهم صل وسلم وبارك وزد كرما على سيدنا محمد النبي الأمي الكريم الذي ارسلته رحمة للعالمين وجعلته بالمؤمنين رؤوف رحيم وعلى آله وصحبه

  5. اولا اشكرك ي أخ خالد
    لأنك سبب في اضهار الشيخ وخروجه من اليمن
    وكان يوجد من يعرف الشيخ من قبلك بسنوات طويله ولم نسمع منهم اي توصيه او اظهار للشيخ
    لاكن سبحان الله كان الفضل بعد الله لك وهذا توفيق الله لك جزاك الله خير ورحم الله الشيخ محمد المقرمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى