أدب

امتنان للأدب: الأدب انتصار على الضرورة

في خضمّ الحديث عن الأدب، لا بدّ من التأكيد على أنَّ الوجود البشري محكوم بضرورات كثيرة، أولويتها أن الإنسان في صراع دائم مع الموت ودوافع البقاء.

هذا المقال ليس تنظيرًا عامًا عن الأدب وصناعته، بل إطلالة هادئة على عظمة الأدب ودوره في الحياة البشرية وإثرائها، ولزوميّته للإنسان المتصارع مع الموت وحتميّات الحياة.

الأدب: انتصار على الضرورة

الضرورة هي الأكثر قدرة على الفتك بالإنسان بطريقة مباشرة، يهدّد حياة الإنسان الجوع والحاجات البيولوجية كخط أوّلي، قد لا يموت أحدهم من الحنين، وبالتالي تأخذ العواطف والخصائص الروحية موقعًا ثانويًا.

الأدب يمنح التفاصيل الإنسانية البسيطة معنًى متجاوزًا لقيم الصراع اليومي مع الموت ولوازم البقاء البيولوجية.

ولعلَّ أعظم أسباب امتناننا للأدب أنه يمنح الحياة اعتبارها، وللإنسان كرامته، يقيم للأشياء الهامشية احتفالًا يوازي المتون الرتيبة.

بدون الأدب، كانت الحياة ستصبح قائمة من الالتزامات المادية، سجنًا كبيرًا نمارس فيه الأعمال الشاقّة دونما اعتبار للتفاصيل الحميمة، الفرح العابر، الضحكة البريئة، الحزن النبيل، وأشياء كثيرة تملأ القلب، لكنها تبدو كهوامش صغيرة نتجاوزها في صراعنا الوجودي للبقاء.

الأدب هو ما يصون الحياة بكل عناصرها، أو قل إنه يمنحها اعتبارًا في عالمٍ يتجاوز كل شيء ويقضي عليه بالفناء.

إن الأدب صراع مع الفناء المحتوم والعدم، إنه سلاح في حربنا على الضرورة الرتيبة والقاسية، ومحاولة لتجاوز الموت وكل ما يمثّله.

يمضي الزمن بلا رأفة، يفني كل شيء، ووحده الأدب يقف صُلْبًا في وجه هذا التوحّش، يُخلّد التفاصيل، من نظرة فتاة حزينة إلى حذاء قديم ممزّق على قارعة الطريق، يحكي بعنفوان قصة نضال نبيل عن صاحبه ومحاولته في ترقيع الحياة كلما شجّها الموت.

كيف سيكون العالم دون أدب؟

إنَّ عالمًا بلا أدب سيكون خاليًا من العاطفة البشرية الأثيرة، ومن الإرث التاريخي المجيد بكل ما يحمله من عواطف وتجارب وروح، وبالتالي، لن يكون العالم سوى قفص حديدي. سيصبح عالمًا إجرائيًا، تقنيًا، باردًا ورتيبًا ومملًا، ما قيمة الوجود بلا حكايات؟

ستكون البشرية حينها عبارة عن ذئاب لا يشعر أحدها بالآخر.

صرخ الكاتب ماريو بارغاس يوسا: “لن يكون هذا العالم من دون أدب سوى عالم غير حضاري، بربري يخلو من العاطفة، وذو خطاب جلف، جاهل ومأساوي، يعيش من دون شغف، حتى في حبّه.

هذا الكابوس الذي أحذّر منه وأرسم معالمه سيكون سمته الأساسية الانقياد والتسليم العالمي للبشر للسلطة.

بهذا المنطق، سيكون عالمًا حيوانيًا، ستحدّد الغرائز الأساسية لدى الإنسان مشواره اليومي باتجاه سدّ الجوع والشقاء للبقاء، وستحدّده بالخوف من المجهول وإشباع الحاجات المادية. لن يكون هناك مكان للروح في هذا العالم.

وفوق ذلك، ستولد رتابة العيش المسحوق الإحباط، وستلقي بظلال شريرة للتشاؤم، وسينمو شعور بأن الحياة البشرية ما كان لها أن توجد، وأنها ستكون هكذا دائمًا، وأن لا أحد يمكنه تغييرها.”

لن تكون الحياة سجنًا كأفق خارجي فحسب، بل ستكون سجونًا في آفاقنا الداخلية.

خيالنا سيصبح متصلّبًا، تفكيرنا محدودًا، وكل انفعالاتنا الشعورية ستتفاعل مع عالم قاسٍ مكشّر الأنياب.

سنختنق في لحظتنا.

في لحظة جوع سينتهي التاريخ.

حين يحزن امرؤ ما، سيكون الكائن الوحيد الذي يشعر بالحزن. سنصبح كائنات تعاني وحدها، بلا شك سنكون وحيدين بشكل يبعث على الرثاء.

فقط عبر الأدب ينشأ الرابط الأخوي بين البشر. يولد ذلك الشعور بأننا جزء من كل، وأن حياتنا وما نمر به امتداد لجنس بشري مجيد.

“الرابط الذي ينشأ بين البشر بسبب الأدب هو ما يجعلهم يتحاورون، ويوعّيهم بالأصل المشترك وبهدفهم المشترك، وبالتالي فهو يمحو جميع الحواجز التاريخية.

ينقلنا الأدب إلى الماضي، إلى أولئك الذين عاشوا في عصور سابقة، خطّطوا، استمتعوا، وحلموا.

تلك النصوص التي تجعلنا نستمتع ونحلم تُشعرنا بالانتماء لهذه التجربة البشرية التراكمية عبر الزمان والمكان. هذا أعظم إنجاز للمدونة البشرية، ولا شيء يساهم في تجددها كل جيل إلا الأدب.”

دور الأدب في إيقاظ الحس النقدي

الأدب وقود التمرد وأفق الحرية، إنه الصوت الأكثر أنينًا بكون الوجود ليس على ما يرام.

حتى دون قصد كاتبه، يزيد الأدب من حساسيتنا، يغادر بنا خارج حياتنا الواقعية، ويسمح لأحلامنا وافتراضاتنا بالتسرب، مما يزيد من تصعيد التمرد والرفض للظلم وكل أشكال اللامساواة.

يؤكد يوسا: “بدون الأدب، سيعاني العقل النقدي، وهو المحرّك الحقيقي للتغيير التاريخي والحامي الأقوى للحرية، من خسارة لا تُعوّض.

الأدب الجيد كله متطرف، ويطرح أسئلة حادّة عن العالم الذي نعيشه.

في كل النصوص الأدبية العظيمة، وغالبًا دون قصدٍ من الكتّاب، توجد نزعة تحريضية.

الأدب هو قوت الروح المتمردة، هو إعلان عدم الانقياد، هو ملاذ من لديهم القليل جدًا أو الكثير جدًا في الحياة. نبحث عن ملاذنا في الأدب حتى لا نكون هادئين ومطمئنين.”

يمكن لكاتب ما أن يجعلنا نعايش ونشعر بفظاعة ما يعانيه الآخرون.

يُعطي يوسا مثالًا على كيف أن “كافكا”، أو صفة “كافكاوي”، تجعلنا نشعر بأننا مهدّدون، أفراد لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا ضد أجهزة السلطة القمعية. تلك القصص والروايات لذلك اليهودي المعذَّب من براغ، الذي كتب بالألمانية، تجعلنا نفهم الشعور بالعجز لدى الفرد المعزول والإحساس برعب الأقليات المضطهدة.

تعرية الأدب للوجود الإنساني

برغم مساهمة الأدب في توسيع أفق وجودنا وتوفير مساحات للروح وللحياة، إلا أنه يعري الوجود البشري بما فيه من حقائق مخيفة من مثالب وأطماع، بل وشر دفين.

هذا جزء أصيل في البشرية، وتعرية الأدب له تساعدنا في فهمه ومحاولة تغييره ومعالجته.

ختامًا:

يظل الأدب والفن عمومًا أجمل وأنبل ما حدث في الحياة منذ الوجود الأول.

إنه انتصار الإنسان وتعاليه على الموت ولوازمه، وأفق خالد لحياة أكثر عظمة وقدسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى