منِ اشتغلَ بالأدبِ أو بفنٍّ من فنونِ العِلم، سيجد لا محالةَ أثرًا لبعضِ “الآفات” التي تتولَّد في مَمرَّاتِ الثَّقافة، وتزهرُ في أبراجِ المثقفين، وساحات المتلقين، فتَعلَقُ بهم دونَ تحرُّز، ويتشرَّب سمومَها بعضهم بضميرٍ بارد، فلا تتعجب إن صادفكَ كاتبٌ كبير يبخسُ من سبقه بطيشٍ وتعالٍ، أو باحثٌ يجتزئ قطْعة من جسَدِ النَّص لينتصر بها لنفسه، أو مثقف/ كاتبٌ متخمٌ “بالأنا” لا يرى في الكونِ سواه. أو متلقٍ رافضٌ للعملِ الأدبي بسببِ كاتبه! كنتُ كلما دخلتُ مساحاتهم قبضتُ على أحدهم متلبسًا بآفةٍ من هذه المثالِب، ثمَّ بدا لي أن أكتبَ في بعضِ ما رأيتُ, فدونتُ “تعليقاتٍ عابرة” كما أفضِّلُ أن أسِمَها، خوفًا من عيْنِ الرَّقيب، وإعذارًا قبْليًّا، أضعه بينَ يدي القارئ، لعلي أنشئ من “العابِر” مقامًا للتَّأمُّل الطَّويل، والتَّفكر المثير.
- فض النِّزاع بين قيمة الإبداع وأخلاق المبدع
رأيتني كثيرًا ما أحاولُ أن أفضَّ الاشتباك بين العمل “الإبداعي وأخلاقِ المبدع”، كأن يُنْظَر إلى أيِّ عملٍ أدبيٍّ حسب توجه صاحبه، ومن ثمَّ يُسقَط العمل برمته لا لشيء إلا لأنَّ صاحبه لا يوافقنا الطَّريق ذاته، أو قَدِمَ من أحراشٍ أدبيةٍ مغايرة لأحراشنا، وهنا تموتُ “العملية الإبداعية”؛ لأنها مرهونة بخلفياتِ أصحابها. والإشادة بالعملِ الأدبي الإبداعي ليست تزكية مفتوحة، لكنها مقيَّدة بدائرةِ الاشتغال، وقد يكونُ بينَ القارئ والكاتب فجوة كبيرة من الاختلاف!
الخلطُ بين قيمةِ الأدب الذي تجودُ به قريحة الأدباء وبينَ فضيلة حياتهم أو ما اشتملت عليه من النَّقائِص والعيوب مضرٌّ في العـادةِ بالفنِّ والأخلاق معًا كما يقول الأستاذ الأديب علي أدهم (1)، وذلك لأنَّ المعجبينَ بشعر الشَّاعر سيحاولونَ الدِّفاع عن أسلوبِ حياته وتسويغ سقطاته وانحرافاته أو إخفاءها وإنكارها، كما أنَّ الذين تسوؤهم عيوبه وجوانب ضعفه سيميلون إلى اعتقاد أنَّ نفسًا خاسرةً شريرةً كهذه، أو مزاجًا منحرفًا كذاك، لا يمكن أن يُنتِج شِعرًا جيِّدًا وأدبًا حرًّا بديعًا.
ولعلَّ الأخذ بشيءٍ من أطرافِ “نظرية التَّلقي” يُخفِّفُ حِدَّة الخصومة مع الكاتب؛ لأنها تكثفُ تركيزها على المتلقي ابتداءً، وتفاعله مع النَّص؛ فالمتلقي هو قارئ النَّص، وهو المستهدَف به، له كُتِبَ وإليه وُجِّه، وهو الذي يتأثرُ به ويتفاعلُ مع صوره وأخْيِلَتِه، ويعيدُ إنتاج معانيه وَفْق قدراته الفكرية والأدبية، ومن ثمَّ فهو ليسَ متلقِّيًا فقط، وإنَّما هو شريكٌ للمبدعِ في العمليةِ الإبداعية، وحين يحتفي بنصٍّ أو عملٍ إبداعي – رغم بغضه لمعتقدات كاتبه أو سيرته الأخلاقية– هو في الحقيقة يقدِّم قراءة موزاية، وإنتاجًا للمعنى، تمخَّضَ عن النَّص عند محاولة سبْرِ أغواره، وإعادة اكتشافه، تدويرًا للعمليةِ الإبداعية غير المتناهية؛ لأنَّ الغرض أن تسيل روح المسطور في القرائحِ ليتحققَ معنى التَّلقي المثمِر.
إنَّ الشخصية الإنسانية للأديب تعبر عن نفسها في شكْلَيْنِ مختلفيْن في إنتاجه الأدبي وفي سلوكه الشَّخصي، وكل ناحية من هاتيْن الناحيتيْن يُحْكَمُ عليها بمقياسها الخاص بها، فإذا كان أحد الجانبين جديرًا بالنَّقـد والمؤاخذة فقد يكون الجانب الآخر مستحقًّا للتقدير والإشادة به، ومن الظُّلم أن تحكمَ على أي شخصية بالجانبِ الأسوأ فيها، وتهمل جوانبها الجيدة.
ومِمَّا رأيته يتكرُّر مرارًا، ما يحدث عند رحيل أحد المبرزين في ضربٍ من ضروبِ المعرفة أو الفن أو حلول ذكرى رحيله، إذ المفترض أن نذكر الرَّاحل بما كانَ عليه، ونشيدُ بما خلَّفه وراءه من أعمال مميَّزة! لكنَّ الذي يحدث، هو افتعال معارك ذات بُعدٍ عقدي وأخلاقِي، لماذا يُشادُ بفلانٍ وموقفُه السِّياسي كذا؟ أو موقفه الشَّخصي أو الأخلاقي كذا؟ ولتتضح الصورة نذكر هنا مثاليْن:
أولها ما وقع عند رحيل شيخُ المترجمينَ العرب، صالح علماني، إذ كانَ من الوفاء أن يُذكرَ الرَّاحل بمآثره الخالدة التي تركها في ميدانِ التَّرجمة، ومن حقِّه على المشتغلين بالقراءةِ والأدب؛ أن يشيدوا بجهده العظيم في فضاءِ التَّرجمات الكبرى التي نهضَ بها، مثل “مائة عامٍ من العزلة”، “والحب في زمنِ الكوليرا” و “عشتُ لأروي”، وجميعها للروائي الشهير الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، وغيرها من الكتب والروايات التي قدَّمها إلى القارئ العربي في صورةٍ متقنة.
كان المفترض أن يحدث ذلك، لكنَّ بعض الناس انتفضوا، يريدون منَّا أن نذكره بالسوء، أو نشنَّ عليه حربًا؛ لأنه من الفصيل الفلاني، أو لأنَّ مواقفه السِّياسية كانتْ رديئة..! نحنُ هنا لسنا في صددِ دراسةٍ شاملةٍ حول الرجل، تستدعي بيان كل شيء، وإنما نلمح إلماحًا إلى جهوده في التَّرجمة، الميْدان الذي تميزَ وأبدعَ وبرزَ فيه، ولو أتيحَ لنا الحديث عن مواقفه السِّياسية أو توجهه الفكري، لقلنا ما ينبغي أن يُقال في إطار النَّقد الذي يفهمه العقلاء!
المثال الآخر الذي أسوقه – هنا-لتجليةِ الفكرة، هو الأديبُ المصري العالمي نجيب محفوظ، فكلما تذكرته أو نوَّهتُ بثلاثيته الشَّهيرة، نهضَ أحدهم يقول لي: هذا رجلٌ سيء، ويشْرعُ في تعدادِ مثالبه التي يراها “هو”، وكل مرة أكرِّر أنَّ الحديثَ عن الأدبِ شيء، والحديث عن الشخصية شيءٌ آخر، وما يهمني أدبُ الرجل الذي تركه وراءه، ونصوصه التي تلقاها القرَّاء، ما دام أني أتحدثُ في الأدبِ ودواعيه، وشخصيته ومواقفه تدرسُ في مظانها، وأي نتيجة نصلُ إليها، يفترضُ أنها لا تؤثرُ في العملِ الإبداعي الذي خلَّفه في تاريخِ الأدبِ، ومسيرة الرِّواية العربية.
وقد عرَضَ هذا التساؤل في زمنٍ سالفٍ للأديبِ الكبير علي أدهم (ت: 1981)، أي: الخلْط بينَ قيمة الشِّعر وأخلاق الشَّاعر، فكان مما قاله: “إنَّ العمل الفني ماثلٌ أمام ناظرنا فماذا يهم أكان صاحبه عفيف النَّفس كريم الأخلاق أو كان صاحبه وغْدًا فاسد الطوية؟ إننا نستطيع الحكم على العمل الفني في ذاته دون أن نعرف شيئًا عن صاحبه، وليس معنى هذا أنَّنا نُنكِر أننا نميل إلى معرفة الكثير عن حياةِ كبار الأدباء والفنانين ولا نملُّ سماع نوادر أخبارهم وتمثل صور حياتهم، وذلك لأنَّ التفاصيل التي تعلمها عن حياةِ الأدباء تلقي الكثير من الضوء على آثارهم الفنية وتجعل فهمنا لفنهم أعمق وأدق”(2).
ولو نظرنا إلى الأدبِ بعيونٍ ظاهرية بحتة، ومن زوايا أخلاقيةٍ ترتبطُ بشخصيةِ الأديب صلاحًا وفسادًا؛ فمن الممكن أن نُخرِجَ ثلثَي الأدب العربي من ساحةِ المقروء! ولن نلقي لأصحابه بالًا؛ لأنهم ليسوا من أهل الصلاح والاستقامة كما يَظنُّ بعضهم، بل لدى كثير منهم أفكار ملوثة، أو انحراف أخلاقيٌّ، وتصوراتٌ خاطئة.. لو فعلنا ذلك لوجدنا أنفسنا أمام إشكالٍ كبير في تقييم العمل الأدبي، وسنجد المعيار يستبعد أعمال كبار الشُّعراء والكُتَّاب كالملك الضَّليل امرئ القيْس، مقدم الشَّعراءِ وإمامهم، وكذا شاعر العربيةِ المتنبي، ثمَّ المعري، وركنَا الأدب العربي “الجاحظ وأبي حيان”، وما لا يحصى من المعاصرين كنزار والمقالح ودرويش ومحمَّد شكري..! ولهذا، أرى أنَّ الأدبَ يجبُ أن يُقيَّم من حيث الجودة الأدبية والفنية والفضاء الإبداعي المدهش؛ لأننا نتعاملُ مع نصٍّ قائم بذاته.. لا من حيث آرائنا الشَّخصيةِ في الأديب قبولًا ورفضًا. وإن كان-أحيانًا-استصحابُ الكاتب، باعتباره ركن العملية الإبداعية الأول؛ مُهِمٌّ في كشفِ خبايا النَّص، وتلمسِ مفاتيح العبور إلى جوْهر المكتوب من بوابةِ أنفاسِه، وحيواته المفرغة في صلبِ النَّص!
- استخفاف بالجهود السَّابقة
يؤثَرُ عن الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين (ت: 1533)، كلمة نفيسة، في معالجة النرجسية المعرفية، «بلاء الإنسان هو أن يتباهى بمعرفته»، نعْبُرُ من هذه الجملة الكثيفة، إلى أمر نغفلُ عنه كثيرًا، عندما نرومُ تقويم أعمالٍ سابقةٍ في المجالِ المعرفي ذاته الذي نشتغلُ به، وهو أننا ننسىٰ أو نتناسى بدهية “التَّراكم العلمي” الكبير، والنُّضْج البحثي، والمعرفي عبر سنين طوال، ثمَّ نأتي إلى دراسةٍ بعينها، بيننا وبينها أزمان ممتدة، فنحاكمها إلى واقعِِ اليوم، وقدراته المدهشة التي يسَّرت لنا كل الصّعاب، ونختم عليها بأوصافٍ خارجةٍ عن مقامِ الأدبِ والاحترام.
إنَّ الدراسةَ/ الرِّواية/ الديوان/ الأعمال البحثية والإبداعية السَّالفة التي ننظرُ إليها اليوم باستخفاف، كانت ذات قيمة مهمَّة يومَ موْلدها، قبل “الشَّاملة”، وظهور شيخ المعارف “جوجل”، لقد احتفىٰ بها أهل الفن آنذاك، وأشادوا بها. ونقْضُها اليوم، إن كانت تستحقُّ النَّقض، أمرٌ مطلوب، بل، هو واجب المشتغل بالبحثِ والتَّحقيق والأدب، لكن، لا يعني ذلك نسْف جهود السَّابقين ووصفها وأصاحبها بما لا يليق!
يجب أن نتذكر أنَّ الأخطاء التي وقعَ فيها غيرنا، واتضحت اليوم بفضلِ عوامل عديدة؛ هي نقطة انطلاق الباحثِ الجديد، لإظهار الخطأ، والبناء عليه بناءً صحيحًا، يتجاوز عيوبَ ما سُطِّرَ سَلَفًا، ومن هنا يتضحُ أنَّ الدراسات المتقدِّمة وإن كانت في نظرنا غير صحيحة، أو قائمة على أُسسٍ يعتريها النَّقص أو نظنها كذلك= أسهمت في فتحِِ آفاقٍ جديدة لباحثينَ جدد!
كثيرًا ما أستشهد في هذا الصَّدد ببعضِ الأعمال التي كانت قيمة ولها وزنها وحضورها عند ظهورها، ومع تسارعِ الحياة العلمية، وانفتاح الأفكار، وتلاقيها، وتلاقحها، واتساع دائرة البحث المتخصص؛ باتت في حكمِ القديم الذي لا يحسُن الاستشهاد به، ولا التَّعويل عليه كثيرًا!
من هذه الأعمال على سبيل المثال: “الموسوعة الميسَّرة في الأديانِ والمذاهب”، كتبتُ حولها تعليقًا منذُ زمن، قلتُ فيه: “إنه لا ينبغي على الباحثِ الاكتفاء بها، وتناولِ ما وردَ فيها بثقةٍ شديدة. ففي الوقت الذي صدرتْ فيه، كانت جيدة في بابها، لقلةِ المصادر في ذلكَ الوقت، وندرة الأبحاث، أمَّا اليوم وقد اتسعت دائرة تلقي المعلومة، وتطور المصطلحات والمفاهيم، وسَهُلَ الوصول إلى المراجعِِ الأصيلة للفرقةِ أو الدِّين أو الجماعة المبحوث عنها، فلا يحسُن جعلها مصدرًا أساسيًّا، إلَّا إذا تعذَّر على الباحثِ أن يقفَ على مصدر آخر”.
وقل مثل ذلك في البواكير الأولى لفنِّ الرواية العربية، ومحاولة بعض الكتَّاب اجتراح ساحتها، وتقديم رواية للقارئ العربي الذي لم يأْلَف هذا النَّمط من الكتابة؛ لأنَّ الرواية فنٌّ غربيٌّ خالص، نضجَ لدينا إثر الاجتراحات الأولى التي قرَّر أصحابها البدء!
أجدني أسوق ما حدثَ في ندوةٍ فكرية تحدثَ فيها أحد الباحثينَ عن “الاستشراق بين وائل حلاق وإدوارد سعيد”، وكان مما قرَّره في اللقاء؛ أنَّ دراسة حلاق قد تكون أكثر تماسكًا وتمكنًا من دراسةِ سعيد. وأتذكر أني علقتُ في مداخلةٍ على هذه الجزئية؛ بأنَّ إدوارد سعيد له شرفُ السَّبْق، وخلق الفكرة، وابتكارها، ويومها-أي يوم صدرت الدراسة-كانت فائقة الأهمية لدىٰ القرَّاء في الشَّرق والغرب، وتفوُّقُ حلاق-إن كان ذلك صحيحًا-هو حصيلة التَّراكم المعرفي، والبناء، والاستفادة من طرْح إدوارد وتجاوزه إلى آفاقٍ وأفكارٍ أخرى..!
ربما يُحمَدُ في هذا الباب، توجُّسُ الكاتبِ من كتاباتِه الأولى، ونقْدِها, فإنَّ الكاتبَ ينظرُ دوْمًا، إلى ما سَبقَ أنْ كتَبَه على أنَّ فيه شيئًا لا يستقيم، فيه دومًا إغفال أو تضييع فرصةٍ سنحت، أو حتّى عدم انتباه إلى أمورٍ كانت تبدو جليَّة واضحة، أو ضعف كانَ بالإمكان جبْره.
وقد استدركَ الأديب المغربي كيليطو على أحدِ عناوين كتبه السَّابقة، وفي معرِض استدراكه قال: “لم أكن واعيًا بذلك، كنتُ غافلًا تمامًا.. لكنَّ اللغة لا محالة واعية ودائمًا بالمرصاد، تنتظر الفرصة والوقت المناسب للإفصاحِ عن المعنى المستتر»(3). وهذه الاستدراكات التي يعالج بها الكاتبُ أعماله؛ تساعده على الارتقاء، وتجاوز عثرات البدايات.
وجِماعُ القول في ما بدأناه: أنَّ العلمَ تراكميٌّ، وطريق المعرفة طويل، يستفيد المتأخر ممن سبقه في علاقةٍ تكاملية، تسهمُ في البناء، وتساعد على تطور العلوم، والفنون، والمعارف، ولو ضربتُ أمثلة في هذا المقام لطالَ الأمر؛ لأنَّ هذا هو الناموس الذي تسير عليه الأمم منذ بدء الخليقة!
- تضخُّم الأنا
سأنقلكم إلى ظاهرةٍ/ آفة أخرى، تلتقي مع مثيلاتها في غيابِ أدبِ التَّقدير، و التَّواضع المعرفي، وخفض الجناح في حضرةِ العلم. قرأتُ مرةً في بحثٍ جيد، لكنَّ (الأنا) لدى صاحبه كانت متضخِّمة تضخمًا ملحوظًا؛ حتى إني هممتُ أن أتركَ القراءة لولا ضرورة الإكمال لأهميةِ الموضوع لي!
من آداب البحثِ العلمي أن يحذر الكاتب من نفْخِِ الأنا، ويقرُّ بالفضْلِ لأهله، وينسبُ نفسه إليهم، لا العكس، فمن جرأة ذاك الكاتب الغريبة، أنَّه يكرِّر مرارًا: “وقد ذهبَ إلى قولنا فلانٌ من العلماء”.. ووافقنا فيما قرَّرناه فلان، ويذكر أئمةً في القرنِ الثَّالثِ والرَّابعِ الهجْرييْن!
ثم ذكرَ مسألة خلافية لفظية، ليسَ فيها كبير عمل، وجهده في تحريرها جيد، لكنه خاطَبَ القارئ بقوله: “ولا يصدنَّكَ كثرة استعمالها على الألسنةِ عن ردِّها، واستعمال ما صحَّ بدلًا منها، فكم من خطأٍ شاعَ وذاع، لاسيما على ألسنةِ الهمج الرعاء…”. قال هذه الكلمات بعد ذكره لأقوالِ بعضِ أهل العلم كالزركشي والسيوطي والشَّاطبي والزرقاني، وأنا أجزم أنَّه لا يعنيهم بهذه الألفاظ التي ذكرها؛ لكن لا مكانَ ولا معنى لها في ميدانِ المناقشة، لاسيما إن نصصتَ على أسماءٍ بعينها؛ حتى لا يتوهم القارئ أنكَ تُعرِّض بهم..! ثمَّ من هم الرعاع والهمج الذين تعنيهم؟ والمسألة برمتها مسألة علمية لغوية مبثوثة في كتبِ العلم، فما الدَّاعي لهذه العبارة التي لا أجد فيها إلا حشوًا باردًا؛ يرادُ من ورائه رفعة النَّفس، والتدليل على تمكُّنه والإزراء بغيره، ودليل ذلك: أنه أشار في نهاية الكلام إلى أنه فُتحَ عليه ما أغلقَ على من قبله!
ولا يُفهمُ من كلامي أني أدعو إلى التَّقليدِ المحض، أو المتابعة دونَ تحريرٍ وتدقيقٍ وتثوير، لا أعني هذا ولا يخطر ببالي؛ لأني أدرك أنَّه لو كانت مهمَّة الباحث/ الأديب هي تكريس النَّماذج السَّائدة وتقديس الأنماط المهيمنة دون تطوير أو نقد وتمحيص لفقدت (الفكرة) وظيفتها في تحرير الوعي الإنساني من آليته، وفتح آفاق المستقبل أمامه. ولكنها دعوة إلى أن نتخيَّر الألفاظ التي تليقُ بالباحث، وتحفظُ مكانةَ من سبَقَ في مضمار المعرفةِ الواسع، والابتعاد عن “الأنا” المتضخمة؛ لأنها مفارقة لمعاني الطلب وما يجتذبه هذا المعنى من ظلالٍ سامية، والتَّحرير بطريقة متوازنة تدل على أدب الباحث، واحترامه لمحراب العلم والمعرفة. وما أجمل أن تجتمعَ قوة البحث، وأدبُ الباحث، وجمالُ العبارة! فذلكم هو المطلوب في ميدانِ البحث، والدَّرس المعرفي.
ثمُّ يصدر عن ذلك أنَّ من تصدَّرَ وزعمَ لنفسه ما ليسَ لغيره، وخرجَ إلى النَّاس بدعاوى قد يقبلها بعضهم ويردها آخرون، فما عليه إلا الصَّبر، وترك الانتصارِ للنَّفس، وتسفيه المخالف، هذه ضريبة لا بدَّ أن يدفعها من يزعمُ أنَّ لديه شيئًا جديدًا لم يُسبقْ إليه..! وضيقُ الصَّدر، والانفعال والشَّطط الذي يخرجُ بصاحبه عن جادةِ الطَّريق؛ أي طريق المعرفة، والعدل، والأخلاق، والاستمرار في البحثِ والتنقيب؛ دليل ضعفٍ، وبضاعة رديئة تهزها سخرية قومٍ أو ردُّ آخرين، ولا ينبغي أنْ يلتاعَ إذا مسَّته حرارة النَّقد ولو كانت في نظره سَفَهًا، لأنَّ السَّفه يموتُ بمرورِ الأيام، فلا ينبغي أن يتركَ أثره فيه، وإذا تأملنا ضخامة الانتصار للنَّفس في سحْقِ المخالفين، لدى من يدَّعون المعرفة وبُعد النَّظر، تتضحُ لنا حقيقة النَّرجسية العتيقة التي تقبعُ في خبايا نفوسهم.. ومن له هذه الرُّوح الهشَّة لا بقاءَ له-عادةً-في عالمِ المعرفة!
- غواية الاجتزاء
ومن الآفات المهلكة التي يتوجبُ على طالبِ المعرفة والباحث أن يحذر فخاخها، “آفة الاجتزاء”, وهي خصلة من أقبحِ ما يُبْتَلى بها الكاتب؛ فتراه يجتزئُ جملةً قصيرةً من حديثٍ طويل، أو أسطرًا من صفحاتٍ مكتملة، من أجلِ تشويه الخصم وإثبات الدعاوى عليه, وهذا من الضَّعفِ، وقلة المروءة، وغياب الإنصاف، وسوء الطوية!
الوصولُ إلى الحقيقةِ لا يعني أن تختصرَ المسافات، وتوقِعْ خصمكَ ولو بالتَّدليسِ والكذبِ عليه، وإن دخلتَ في خصومةٍ فكنْ خصْمًا شريفًا. وإذا رُمْتَ من نفسكَ التَّحقيق في الحديثِ عن مسألة؛ فانهض إليها بطرقها، ولا تأتِ بالفكرة النَّاجزة سلفًا وتضعها في رأسك، وتطمئنَ إليها، ثمَّ تستدعي ما يعضدها، ويقويها، بالاجتزاء وإخراج الكلام عن سياقه، إيهامًا للقارئ، وانتصارًا للنَّفس، ورغبة عن احترامِ منهج البحث الذي يُحرِّم “الاجتزاء” ويُجرِّم مرتكبه.
ومِن أظهر آثار هذه الآفة، ما تراه في عالَم الصِّحافةِ, فهو عالمٌ يضجُّ بـ الاجتزاءِ والتزييف والكذب؛ لخدمةِ توجهاتٍ مختلفة تسعى كل واحدةٍ لإسقاطِ الأخرى. وليت الأمر يقتصر على ذلك بل إنَّه يتجاوزه إلى كثير من البحوثِ العلمية، أو ما يُفتَرض أن تكونَ كذلك، يجتزئ الكاتب كلمةً أو بضعةَ أسطر، ثمَّ يخرجُ فرِحًا بنتيجةٍ حاضرةٍ في الذِّهن، مستندة إلى أدلة مزيفة منزوعة عن سياقها، تُوهِمُ القارئ بصحة ما ادَّعاه وتحجب عنه الحقيقة.
وقد وقفتُ على بحثٍ تناولَ نصوصًا في “التَّوراةِ والإنجيل”، ودهشتُ من جرأةِ الكاتب الذي ظنَّ أنه يحمي سياجَ الإسلام، وينتصرُ للقرآن، بمحاولة جاهدة لإسقاط ما يُسمَّى بالكتابِ المقدَّس، عن طريقِ الاجتزاءِ المعيب، ولستُ أدري: كيف توهَّم أنَّ الانتصار للقرآن يعني تشويه ما عداه، ولو بالكذبِ والاجتزاءِ؟!
“النَّظرية التَّأويلية الحديثة –مثلًا-يمكن أن تَهَبَنا طرفَ خيطٍ يقودنا إلى الإجابة؛ إذ إنها تجعل المتلقي هو المسؤول عن إنتاجِ المعنى، لا المرسِل”، وهذا يفسِّر التفاوت الكبير في التَّعامل مع النُّصوص، ومحاولة تطويعها لما يخدم الفكرة الراسخة في الذهن ولو كان بارتكاب الاجتزاء المفارق للحقيقة؛ لأنَّ الحقيقة لا تكمنُ في النُّصوص الشَّاردة، المنبتَّة عن بيئتها، وحين يكون المتلقي–بحسب هذه النظرية-مسؤولًا عن إنتاج المعنى، ولديه تصورات قبْلية مشوَّهة، فإنه سيعمد إلى الاجتزاء، لتأكيد صحة ما يراه، أو تسويغ ما يقومُ به، والاجتزاء هو أسوأ أنواع التعامل مع النُّصوص، وأكثرها تهورًا وظلمًا؛ لأنها قتلٌ للنَّص، وجناية على صاحبه!
تصادِف في أدواتِ التَّواصلِ الاجتماعي صورة شخصيةٍ /هيئة/ كيان/ تحملُ عنوانًا صادمًا، في أوقاتٍ كثيرة، لا نكلفُ أنفسنا عناءَ الاستماع أو القراءة حتى نتثبَّتَ من المكتوب، بل نصدرُ الحكم مباشرة؛ لأنه وافقَ هوىً في النَّفس، ولو أننا سمعنا أو قرأنا المكتوب، لاكتشفنا أنَّ الكلمة الصَّادمة كانت ضمنَ سياقٍ مخصوص، لمعالجةِ فكرةٍ بعينها، وعند ضمِّ وجمعِ الكلام أوله بآخره يظهرُ المعنى جليًّا، ونكتشفُ مرةً أخرى أنَّ “المفترَىٰ عليه” كانَ على صواب، ونحنُ من ظَلَمَه وجارَ عليهِ بل على نفسه والحقيقة أيضًا!
- من لم يُحسِن صناعةً ذمَّها
تستوقفني كثيرًا هذه الكلمة المختزلة، محكمة البناء، مركزة المضمون، للإمام السُّبكي الشَّافعي (ت: 771هـ), يقول فيها: “ما رأيتُ سالكَ طريقٍ إلا ويستقبحُ الطَّريق التي لم يسلكها ولم يفتح عليه من قبلها أو يضع عند ذلك من غيره، لا ينجو من ذلك إلا القليل من أهل المعرفة والتمكين”(4).
من الأمور المعيبة، أنَّ صاحب كل تخصصٍ لا يرىٰ إلا التخصُّص الذي يحومُ حوله منذ زمن؛ إذ لا يرى العالم إلَّا من خلاله وهذا ما يحمل كثيرين على ذم التخصصات الأخرى وهو ما تُوجِزه العبارة القديمة: “من لم يُحْسِن صناعةً ذمَّها”. تجد – مثلًا – المشتغل بالفلسفةِ يعيبُ كتابات الفقيه، ويرىٰ أنَّ طرح الفقهاء فارغ وسطحي، وتجد المشتغل ببعض العلومِ الشَّرعية، المقصر في المباحثِ العقلية؛ ينفرُ من الفلسفة، ومن تخصص في بعض العلوم التطبيقية، يعيبُ على الأديب، ويرىٰ أنَّ الأدب لا يتجاوز “الكلام الإنشائي”، وينظر إلى الروايات نظرة مريبة، ويعدها من ضروبِ العبث وإضاعة الوقت، وتجد بعضهم يعيبُ كلَّ كتاب لا يمتُّ بصلةٍ إلى تخصصه، ولا يقعُ في دائرةِ اشتغاله!
نعم، من حقكَ أن ترغبَ عن الكتبِ التي لا تدهشك، ولا تقدِّمُ لك ما ترجو، يكفي أن تنصرف عنها، كأنَّ حبرًا لم يكن، وتتجه إلى ما يهمك، لأنَّ هناك من شغفوا بها، ووجدوا أميالهم فيها، وثمة من يتقبلها بقَبولٍ حَسَن، لأنها تجد موقعًا في نفوسهم.
نحنُ بأمسِّ الحاجة إلى كلِّ هذا الجهد المبذول، بدءًا من إضاءاتِ عقل الفيلسوف، إلى دقائق الفقيه، ورِقَّة الأديب، وكلٌّ ميسَّرٌ لما كُتِبَ له؛ لأنَّ الأمةَ لن تنهضَ معرفيًّا إلَّا بالمجموع، بتميز كلّ عضوٍ في مجاله، دون بخسٍ لخلقِ الله، وإزراء بميولهم.
أمَّا الكتبُ الرديئة في أيّ تخصصٍ كانت، ينبغي أن يُوجَّه إليها رصاص النَّقد، فإن كان – صاحبها – يرغبُ في الحياة، فسيرتفع عن الرداءة، وإن كان رديئًا في ذاته فالرصاصة كفيلة به!
وأمَّا كيف نحكمُ على الرداءة، وهي ممَّا يدخلها النِّسبية في الحكم؟ فهو سؤالٌ وجيه ومشروع، وجوابه يسير: ما اتَّفقَ الغالب على رداءته، لا سيَّما أهل التخصص في كلِّ فن. وللزمن يدٌ نافذة لإبقاءِ أو إفناء المسطور.
الختام:
لعلَّ من المناسب أن أختمَ نثاري، بما كتبْتُه سابقًا لِما له من تعلقٍ بَيِّنٍ بما نحن فيه:
أثناء سيْرك المعتاد في أزقةِ “تجمعاتِ الكتَّاب والمثقفين والقرَّاء وأشباههم”، ستجد من يتكثَّر بالشيء اتقاءً به واتكاءً عليه، أحدهم يتكثَّر بالقراءة، وآخر يتكثَّر بالأتباع، وثالثٌ بالحضور المجتمعي، وربما تجد من يصحو وينام وهو يسرد إنجازاته التي لا حدَّ لها؛ أو مظلوميته المستمرة!
ثمَّ تجد أنَّ كثيرًا من هؤلاءِ الذينَ أخبرتكَ عنهم، لا سيما من تكثَّر بالقراءةِ، والقولِ في المعرفة؛ لهم فهْمٌ كليل، يركبونَ أيّ موجة توصلهم إلىٰ شاطئ الهوىٰ، يذعنونَ لأي دعيٍّ يقربهم من فكرةٍ عالقة في أذهانهم وإن كانت خاطئة!
ثمَّ تسأل نفسكَ محتارًا:
هل هذا المتكثِّر «قرأ» كل هذه الكتب وهو بهذه البلادة التي تحجبُ عنه التمييز؛ وتطلُّب مقام التحقيق في كلِّ ما يقال؟!
في ظني يرجع السبب أنه غير مطبوع علىٰ الفهْم/ التحليل/ الموازنة، فيما يشتغلُ به، بل، وليسَ مطبوعًا علىٰ القراءةِ المنتِجة؛ ومن بابٍ أولى ليسَ حاذقًا؛ ولهذا يكثر عواره..!
أن تكونَ مطبوعًا علىٰ الفهم؛ والحذق، أو لديك «طبعٌ قابل»، كما قال ابن الأثير، ليس بكافٍ أيضًا بل يحتاجُ منكَ إلىٰ اشتغال مضاعف، وتطوير الأدوات المساندة، ومجاهدة نفسك علىٰ التواضع؛ لأنك تمضي علىٰ عماك في الوقتِ الذي تشعر فيه أنكَ المبصِر الوحيد!
قارن أثناء سيْركَ بين شاعرٍ مطبوع وناظِمٍ مفْلِس، لكنَّه متكثِّر بما يُغطِّي به جفاف القريحة؛ ويفرض نفسه أو يُفرض بينَ القوم كأنَّه امتدادٌ للكبار؛ حينها ستدرك ما أرمي إليه.
الهوامش:
- ينظر: فصول في الأدب والنقد والتاريخ, علي أدهم, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1979, ص115 .
- فصول في الأدب والنقد والتاريخ, علي أدهم, ص 115 .
- ينظر: قراءات من أجل النسيان, عبد السلام بن عبد العالي, دار المتوسط, إيطاليا, 2021, ط1, ص65 .
- طبقات الشافعية الكبرى, تاج الدين السبكي (6/244).
قرأت المقال أعلاه، واستميح كاتبه وقارئه في التعقيب التالي (وطول التعليق نتيجة لطول المقال وعمقه):
أولا: يشكر لكاتب المقال ما سطرت يديه وجادت به قريحته من أفكار تثير الشجون وتستحق التفاعل معها. والمقال يظهر بوضوح أن كاتبه قارئ وكاتب متعمق.
ثانيا: لدي بعض الملاحظات التي أرجو أن يتسع لها صدر الكاتب والتي آمل أن تكون من باب تلاقح الأفكار.
في آخر المقال قبل كلمة “الختام”، يؤكد كاتب المقال على أهمية نهوض الأمة المعرفي، وهنا أفترض أنه يقصد الأمة العربية والإسلامية، فإن كان فهمي في محله، فكيف تنهض الأمة معرفيا ولا يتم التمييز بين مبادئها وقيمها ومبادئ غيرها من الأمم، خاصة مع تميز مصادر المعرفة الإسلامية بالقرآن والسنة التي ينبغي أن تكون واضحة عن غيرها لتبلغ للناس كافة نقية ولهم الخيار بعد ذلك في تبنيها أو الإعراض عنها. فإذا علمنا أن ديننا الإسلامي في كل أدبياته يؤكد ويحرص على أمانة الناقل وصدق محتوى المنقول وقيمته، فهذا يجعلنا نستغرب امتعاض الكاتب من اصرار بعض النقاد للنظر للأدب بشكل لا يفصله عن كاتبه (ناقله أو حتى مبدعه). العلاقة بين الكاتب وما يكتب، إما أن تكون علاقة قيمية وأخلاقية وعقدية أو علاقة منفصلة. فإن كانت الأولى، فصعب فصل العلاقة بين الكاتب وما يكتب، ويكون لكل من لا يسمح بفصل العلاقة حق في ذلك، لأن طبيعة العلاقة (القيمية، الخ) لا يمكن فصلها أساسا؛ وإن كانت منفصلة بطبيعتها، كأن يترجم كاتب غير مسلم أو حتى مسلم غير ملتزم (ولا يبدو أنه يتخذ الإسلام منطلقا في فكره) مكتوبا لا يتعارض مع مبادئ الإسلام وقيمه، فهذه لن يعارضها أحد، لأن المترجِم لا صلة له بالمترجَم أساسا، وأيضا اختياره (أي محتوى المترجَم) لم يَمُسْ مبادئ وقيم القارئ المسلم بسوء)؛ أما إن كان المترجَم يمس بالمبادئ والقيم، فتصبح العلاقة غير منفصلة. ونفس الكلام ينطبق على النتاج الأدبي (قصة أو شعرا، الخ). أقل ما يمكن أن يقال في الأديب غير الملتزم “إسلاما” فيما يكتب أنه لن يجعل القيم ولا الأخلاق ولا الدين نصب عينيه. فإنتاجه حينها يكون أساسا غير مضبوط ببوصلة القيم والأخلاق والدين (هذا إن اعتبرنا أن القيم والأخلاق والدين يمكن الحديث عنها كلها بشكل منفصل عن بعضها).
لكن أيضا يزول الاستغراب من امتعاض كاتب المقال من الحرص على عدم فصل العلاقة بين الكاتب وما يكتب عندما نعرف منطلق تعريفه للأدب، لأن منطلق تعريف الأدب ينبئُ عن كل ما يمكن أن يقال تباعا لذلك. أورد الكاتب شاهدين لأفكار يُفْهَمُ منهما تعريفه المتبنى للأدب، إلى جانب تصريحه بذلك أيضا، وهما رؤيتي الأديبين علي أدهم وكيليطو، حيث يتبنى الأول تعريف مدرسة النقد الجديد الأمريكي (وهي حركة أدبية ظهرت في منتصف القرن العشرين الميلادي وانتهت إلا أن بعض آثارها ما تزال سارية) التي تذهب إلى أن الأدب نتاج لغوي لا علاقة له بالواقع ولا التاريخ، وبالتالي فهو نتاج فني ونقده ينبغي أن يكون فنيا فقط ولا يجوز ربطه بالواقع، وكان شعارهم النص فقط The text itself؛ ويتبنى الأديب الآخر الفلسفة اللغوية ما بعد البنيوية، فلسفة الفرنسي جاك دريدا، وهي بالمناسبة إمتدادً لفلسفة مدرسة النقاد الجدد (التي في أساسها بدورها نتاج للفلسفة البنيوية). ومع ذلك، يظل المسلم مسلما لقناعته، برغم الشرود أحيانا، أن المنقول يحتاج إلى وعاء ناقل صادق، لذلك، نرى كاتب المقال يتراجع جزئيا في بعض الأحيان ويقرر أن الكاتب له دور في تشكيل معنى النص. وإن كان الأمر كذلك، فالفصل أمرا يصعب تخيله إلا في مواقف يظهر التجرد ممكنا بوضوح نتيجة لعوامل محددة وممكنة؛ والله أعلم.
خلاصة، أقول نهوض الأمة المعرفي يكون بتمييز نتاجها المعرفي (النقدي، الخ) عن غيره، وهذا لا يعني عدم الإطلاع أو الأخذ من نتاجات الأمم الأخرى فيما لا يمس أو يشوش على نتاج الأمة المعرفي والفكري والأدبي، بل ذلك مهم ومطلوب ولكن بشروط عدم الذوبان في الآخر. وعلاقة الكاتب بما يكتبه موضوع داخلٌ في هذا الأمر، لأن الكاتب إنسان يتأثر ويؤثر، ولذلك فالحرص واجب على التبصر فيما يأخذه من غير مبادئي وقيم وأخلاق أمته أو يكتبه أو يبدعه. والله أعلم