Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أدب

بين غيمتين: تساؤلات الطريق

في سفري الطَّويل أعمدُ إلىٰ خطَّة تتوافقُ مع وقتِ الوصول، أحاولُ نسيان المسافة بالانشغالِ عن عناءِ الطَّريق اللاحب، تقفُ الحافلة، ينزلُ بعضهم، لا أهتمُّ بهم، لكني أرقبُ بخفةٍ نظرتهم الأخيرة لنا حالَ نزولهم، تمضي الحافلة في طريقها الطَّويل، وبعد وقتٍ يسير، ينزلُ أحدهم فيصنعُ صنيعَ من سبقه، وهكذا حتىٰ أصلَ إلىٰ «محطتي الأخيرة»، تدبُّ فيَّ الحياة، فأجدني أنظرُ إلىٰ ركَّاب الحافلة نظرةَ إشفاق، ثمَّة طريق طويل ينتظرهم، ألمحُ وجوههم الكالحة، والإعياء الظاهر عليهم، ثمَّ أتوقفُ فجأةً!

من نزلَ في المحطاتِ الأولىٰ كانَ ينظرُ إلينا نظرةً بائسة، كنا مثار الشَّفقة، لكننا لم نكن نشعرُ بما كان يدور في خلدهم، لأننا نركزُ فقط علىٰ الوصول، الوصول فحسب، ونهيئ النَّفس للصبرِ حتىٰ تصلَ إلىٰ الغايةِ المنتَظَرة!

إذن، كنتُ في الطَّريق ذاته، مثار شفقة لمن حطَّ رحاله قبلنا، ثمَّ نظرتُ إلىٰ غيري النظرة ذاتها عند وصولي، فأحسستُ بطولِ طريقهم، وعنائهم.

لم أكن أشعرُ بأيِّ بؤسٍ لحظةَ رحيلهم؛ لأنَّ الهدفَ منظورٌ إليه بينَ يدي، ولم يكن غيري يشعرُ الشعور ذاته عند وصولي ونظرتي لوجوهم الكالحة، نحنُ في الطَّريق الواحدِ بينَ ناظرٍ ومنظور، نجمعُ الشَّيء ونقيضه، العناء ولذة الوصول، النجاة في لحظة الوصول والشقاء المنتظر لمحطةِ الخلاص، نحن هما معًا في ثوبٍ واحد!

نحنُ مزيجٌ من المشاعرِ المتضادَّة، نتحولُ دائمًا بينَ فاعلٍ ومفعول، بينَ مشفقٍ ومُشْفَق عليه، وفي كلِّ مرة لا ننظر إلا للزاوية التي تعنينا، ننظر إلىٰ العوالم حولنا من ثقبِ الذَّات، ثمَّ نمضي بوثوقٍ مُعْجب نظنُّ أنَّ الصورة الكاملة نحملها بين يدينا، نلوحُ تلويحَ المنتصر لمن بقي في الحافلة: كان الله في عونكم في طريق الشَّقاء!

هذا ما يحدثُ عند ترجُّلِ من نحب، ونزولهم من قطارِ الحياة، ورحيلهم عنَّا، نقبعُ في أماكننا نبكي، نبتئسُ، نعالجُ مشاقَّ الحياة، وهم ينظرونَ إلينا نظرةَ إشفاق، يقولون: أيّ طريقٍ طويل ينتظرهم للوصول؟! ونحنُ ننظر إليهم نظرة حرمان، لقد حُرِموا لذةَ البقاء!

الفرق بينَ وصولِ المحطة للنزول ووصول الإنسان إلىٰ ربه وتلبية النَّداء، أننا في الحافلةِ لا يهمُّنا من رحل، في حين نبكي الرَّاحل عنَّا في رحيلِ الموت؛ لأننا لا ندركُ كنْه المحطة التي نزلَ فيها، وتشبثنا بطريقِ السَّفر أوهمنا أنَّ الحرمان نزلَ بهم عندما تخطَّفهم الغياب في لحظةِ مسير!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى