تمهيد
قال الفرزدق الشاعر المعروف:
همُ الغيوثُ إذا ما أزمةٌ أزَمَتْ
والأُسدُ أُسدُ الشرى والبأسُ مُحتَدَمُ
وقد طوّقت الأزمات أهل هذا البلد الطيّب المتروك لمصيره المبهم في غياب العون ممّن يُظنَّ بهم تقديمه، ومن الظنون ما يزيد شدّة الخيبة في النفس. طوّقته حتّى بدا أن الاختناق حاصلٌ لا مناص منه، وإذا بالغيوث تخرج من فوّهات البنادق المقاومة، وأجواف الحناجر الصادحة، ونظرات الملثّمين الصامدين، واستبشر الناس بفيضٍ من الأمل الذي يكتنفه التوجّس، ويمتزج بالحيرة، ولكنّه يظلُّ أملًا، وما أضيق العيش لولا فُسحة الأملِ!
من رحم الدمار يخرج فرسان المخيّم
طارت الأخبار تحمل الصور والمقاطع المصوّرة على أجنحتها إلى العالم أجمع، شوارع سويّةٌ أمست خرابًا، وبيوتٌ مأهولةٌ باتت حطامًا، وأبرياء يسيرون جماعاتٍ إلى حتفٍ مجهول، ونزوحٍ مفروض، بعثت في الأخلاد ذكريات النكبة المشهورة من مرقدها، التي صيّرت قسطًا كبيرًا من أهل فلسطين المعمورة لاجئين غرباء. وعرفنا عجز من يُفترض أن يكونوا أمّةً واحدةً، عن معاضدة منْ حملوا على عواتقهم همّ الجهاد الثقيل، واستأثروا بحفظِ بقاء هذا الفرض الدينيّ قائمًا ركنه، وأحيوا هذه الفضيلة الإنسانيّة أن تبلى وتصير ضربًا من التَّاريخ يُذكر ولا يُبصر، فلولاها لما حُفظ وطنٌ، ولا عزّت أمّةٌ، ولا أُقيم شرعٌ. وعرف الناس أنّ المخيّم بلدٌ منزوعٌ من هذه القطعة الزمنيّة، إذ لم يزل شاهرًا سيف المقاومة لا يكلّ، يخلق الأساطير من وحي البطولة، ثمّ يصوغها بحروفٍ من نارٍ مُحرقةٍ، ثمّ يقذفها في وجه عدوّه، وفي وجه واقعٍ متبلّدٍ قد استكان إلى الظلم وكأنّه ارتضاه مذهبًا واستمرأه طريقةً. ورأيتُ المجاهد ولسان حاله يقول: “لم يمت بعدُ فارسنا الأخير، ولم يزل سيفنا العربيّ ماضيًا، ولم يبرح إباؤنا القديم حاميًا، سنّتنا سُنّة النبيّ العربيّ المسلم، نذبّ عن حياض كرامتنا جحافل الطغيان الإسرائيليّ، فإذا بك تراهم يرتدّون على الأعقاب فزعين، لا يهولنا الشديد، وجَمْعُنا لا يراعُ بالتهديد، ولو حشدوا جيوش العالم، وأتونا لوجدونا على الصدق قابضين، وإلى لقائهم متشوّفين؛ نحن العباد أولو البأس الشديد الذين خُبّرت عنهم، ولقد اصطفانا الله لأمرٍ جللٍ، وخيّرنا بين منزلٍ في الثريّا وبين التسكّع في دنيا العلل، فاخترنا من المنازل عاليها، ومن المراتب قُنّتها”.
أثر الحرب في النفس والرأي فيها
وجلستُ أتقصّى الأخبار، وقد روّعتني مشاهد الحرب على المخيّم وأهله، ومن الأحداث ما يحقّر أمام المرء الدنيا وأشغالها، وينبّهه إلى الوجود، وإلى الحقيقة التي سترتها عنه أطماع قلبه وأوهام عقله، حقيقة الصراع الممتدّة جذوره إلى قرونٍ مضت، يبتغي لنا به أهل الحلّ والعقد من أعدائنا= حلّ عُرى عقيدتنا الوثيقة، أو عقد رايات الحرب لذبحنا وتشريدنا. ولم يتّخذ الصهاينة أهل المخيّم أعداءً إلّا لثباتهم على معتقدهم القديم، وترسّخه في نفوسهم ترسّخ الجبال الراسيات في صميم الأرض، معتقد لا يسالم المعتدي، ويذيقه صنوف العذاب تترى. وسريعًا ما عدتُ إلى الفكرة الخالدة التي انطويت عليها مُذ شاء الله لي ذلك= فكرة أنّ الحقيقة أمرٌ مخبوءٌ غامضٌ، يمكث في المعاني العميقة الغائرة، لا في الألفاظ والصور الجليّة الظاهرة، وما أبصارنا وأسماعنا وسائر جوارحنا بكاشفيها، إنّما يكشفها القلب المتّصل بالسماء، ويبلغها الفكر المستقي من نمير العلوم، والمستغرق في أعماق التدبّر، وأغوار التفكّر محاولًا خلق إضاءة شمعةٍ في ظلماتٍ دامسةٍ. ونظرت في شأن المعركة القائمة، وأنفذت فيها البصر، وأنا بين ذلك تتجاذبني سطحيّة الإنسان الحميّ التي لم أخلُ منها بعدُ، فالدم يغلي في العروق، والغضب قد طفحت مراجله، وفار تنّوره مُغرقًا كلّ فكرةٍ في تدفّقٍ خفّاقٍ منهمرٍ، ولكنّ الفكرة هناك، ماكثةٌ حتّى تخفّ وطأة هذا الغضب المتدفّق المُغرق، ولم يطل بي الزمن حتّى رجعت إلى الرشد، وإلى الفكرة التي تقول: إنّ كلّ ما تدركه الأبصار ما هو من الحقيقة الواسعة إلّا كما تكون غرفة الماء من المحيط العظيم، فيكون ما نراه من العدوان الغاشم، والنيران المشتعلة، والكتائب المؤلّفة تزحف صوب مخيّم جنين، والطائرات المحلّقة في سمائها، والصواريخ الصاخبة النازلة منها، إنّ هذا كلّه بعض الحقيقة، وجزءٌ منها، وما هو محجوبٌ عنّا لهو القسط الأكبر والبعض الأهمّ، وحضرني قول شيخ المجاهدين (عمر المختار)، رحمه الله، لمّا حاولت فئةٌ تخذيله عن جهاد الطليان، ورأوا ترويعه من طائراتهم التي لم يكن لهم بها عهدٌ، فقال: “أتحلّق فوق العرش أم تحته؟ فقالوا: بل تحته، فقال: فإنّ الذي فوق العرش معنا.”، بيقينٍ وثيقٍ، وهمّةٍ باسقةٍ، وكذلك قال الجنينيّون.
وقلت لبعض جلّاسي، وقد تصبّرتُ على غضبي، وكرهتُ تأييس الناس رغم فداحة الظاهر، وارتضيت حسر اللثام عن بعض رأيي: “ليس يُحصرُ النصر في أعراضه الظاهرة من هزم جيش العدوّ والتنكيل به، وتحرير الوطن وإقامة حُكمٍ منبثقٍ من اعتقاداتنا، ومتّسقٍ مع هُويّتنا الإسلاميّة والعربيّة، فهذا بعض صوره، وقد يكون النصر في إدراك المنيّة وأحدنا حافظٌ للحقّ في صدره، ومنطوٍ على هذه الهويّة التي يُرادُ لي ولك أن نعدل عنها إلى ما هو دونها، إلى هويّةٍ تتقبّل الظالمين بأذرعٍ مفتوحةٍ، ووجوهٍ باسمةٍ، ورؤوسٍ تهتزّ قبولًا لفكرهم ورأيهم وحُججهم، وحاشا ثمّ حاشا!
فإنّ الحرب قبل أن تكون حربًا بين الأسلحة الضاربة، والأقران المتقابلة فإنّها تقوم أوّل ما تقوم بين النفوس المتنافسة، وانظر إلى هؤلاء الإسرائيليّين وقد حازوا الثراء من دعم أمريكا وأوربّة، واشتروا السلاح الفتّاك، وامتلكوا الطيران القاصف، وجنّدوا البيض والسود، وطمّعوا الفقراء من شرق أوربّة وبلاد إفريقيا بالانضمام إليهم، والقتال تحت رايتهم، يزعمون أنّ النصر حتميّ لا مفرّ منه، وأنّ الاحتلال ماضٍ لا دافع له، انظر إليهم وقد كسا الجبن ملامحهم ثوب القلق والتردّد، وانظر إلى وجوه المحاربين الفلسطينيّين في المخيّم، وهم أقلّ نفرًا، وأسوأ عدّةً= تجدها أصلب من الصخر الصلد، وذلك انتصار النفس الفلسطينيّة على النفس الإسرائيليّة، وإلحاق الهزيمة النكراء بها، وهو ما لا يُبلغ حتى تكون هذه النفوس قد تشرّبت الدين حتّى ارتوت منه، واقتاتتْ على العزّة حتّى شبعت منها، وحفظت التاريخ إلى أن تأزّرت به، فكلّهم يطمع بتقفّي آثار حمزة وعليٍّ وخالدٍ والمثنّى وأصنائهم من سابقٍ منصورٍ ولاحقٍ مشهورٍ، لله أبوهم؛ إذ أفلحوا في ذلك أيّما إفلاحٍ، وأعادوا التقويم النفسيّ للأمّة ألف سنةٍ إلى الوراء”.
الجودُ يُفقرُ والإقدامُ قتّالُ
(أبو الطيّب المتنبّي)
ثُمّ توافدت صور أجساد الشهداء، وقد علا بعضها بعضًا، فقال من شهد الواقعة: “ذاك شابٌّ انتفض للحرب وقام لها أبيًّا، فأصيب وسقط، فخرج إليه أخٌ ليسعفه مُنجِدًا، فأُصيب هو الآخر وسقط، فلم يرعوِ الثالث عن اللحاق بإخوانه مُقدمًا صابرًا، فماتوا معًا واصطفّت أجسادهم الخاوية من الحياة متقاربةً، كما اصطفّت حبّات اللؤلؤ في العقد النفيس، وتراصّت نعوت البطولة في أسطر روايةٍ، وأيّ شرفٍ يفوق الوفاء في الحياة والموت، وخوض غمار المهالك كتفًا إلى كتفٍ، وأثّر فيّ مشهدهم فقلت في هذا الموقف:
“هناك في المخيّم..
هناك في المخيّم تترك النفوسُ الأبدانَ عنوةً وحزمًا لا ذُعرًا وفزعًا، وهناك في المخيّم تجد القصيد منظومًا بالفعال لا بالقوافي، فهناك في المخيّم:
ترى الفتى يتلو الفتى لِيَفدِيَهْ
فإنْ هوى لمْ يرضَ أنْ يُخلِّيَهْ
يقولُ: يا أخي ويا ابنَ أمّيَهْ
لا أقبلُ المنيّةَ المُنتقيَة
حتّى تكون بيننا مسويَّة
يعصي النصيحَ والمنايا مُغرِيَة
(يا مدرك الثارات – تميم البرغوثيّ)
في المخيّم كلُّ ما ليس في غيره من ثباتٍ على القيم، ووفاءٍ للدم، وحفظٍ للعدل، ومصاولةٍ للعدوّ.
هناك في المخيّم تُكتب أسطورةٌ كلّ يومٍ، لا يقدر على مثلها هوميروس، ويعجز عن وصفها عنترة، فهناك في المخيّم لا كتاب سوى القرآن، هناك في المخيّم من قضى نحبه، وهناك في المخيّم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلًا”.
جميعنا الهدف
ولا ينبغي أن يغفل القارئ الحذق المطّلع اطّلاعًا حسنًا على التاريخ، ولا العامّيّ المنشغل عن التحصيل بطلب العيش واتّباع أسبابه= أنّ هذه المعارك المتفاوتة في أزمنة حدوثها، والتي اتّخذت فلسطين ميدانًا في هذه الحقبة من هذا العصر، إنّما هي معارك طويلة العمر، لها أصلٌ قديمٌ واحدٌ، وميادين شتّى تمتدّ على طول وعرض الأوطان العربيّة والإسلاميّة، فإنّ وطننا الجامع، الذي قُسّم دُويلاتٍ وإماراتٍ وممالكَ، هو هدف هذا العدوّ المُبغِض، وما فلسطين إلّا بعض هذا الوطن الكبير المترامية أطرافه، المُستهدف مُذ شحذ الأوروبيّون، وتبعهم بعد ذلك الأمريكيّون، أسيافهم وأذهانهم وقلوبهم، ساعين إلى احتلال بيضته، وتحوير دفّته، ونهب ثروته، واستعباد سكّانه، وتهديم أركانه التي شيّدها العرب المسلمون في أوقاتٍ سبقت، وقبضوا بها على ناصية المُلك، وحازوا بها أقطار المجد، وبنوا من أسسها الصلبة العلوم، واخترعوا منها الفنون، وألّفوا منها الآداب التي لم تزل تُدرّس كتبها، وتُبصر آثارها بعد انقضاء دهورٍ على تأسيسها واختراعها وتأليفها. إنّ هذا الإرث العظيم لم يكن لينتجه قومٌ قعّادون للهزل، منقادون إلى اللهو، مرتضون الجهل، ولكنّه إنتاج قومٍ تبحّروا في العلوم، ودأبوا على العمل، وعزموا على بلوغ المعالي، وهي الصفات التي أدركها المثقّفون الأوروبيّون في عصر نهضتهم، فاستمسكوا بعروتها لهدفٍ واحدٍ= هو غلبة هذا العالم الشرقيّ الذي يدين بالإسلام، ويتحدّث بلسانٍ عربيٍّ، هذا العالم الذي جرّعهم كؤوس الذلّ قرونًا متطاولةً. فلا تحسبنّ قضيّة فلسطين هي قضيّة بلدٍ مظلومٍ، وانتبه إلى أنّها قضيّة أمّةٍ كاملةٍ يُراد لها أن تسقط قُطرًا قُطرًا، ونفرًا نفرًا؛ حتّى يُحكم الغربيّ المعادي قبضته عليها، ويرفع رايته على رؤوس جبالها، ويفرض على أهلها مناهجه وقيمه وديانته، وما حال مسلمي الأندلس الذين بقوا في بلدهم بعد الاحتلال الأوروبيّ لها عنّا بخفيٍّ. وليربأ بنفسه من تضمّنت جوانحه دينًا صادقًا، وقيمًا عليّةً، وانتماءً وافرًا عن كلمات أهل التسامح والتعايش مع المحتلّ وأعوانه، فذلك هو الخضوع الواضح، والاستسلام المُهين.
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه الصادق الأمين.
أديب ، كتابات من نار . ما شاء الله
مبدع