Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أدب

تهذيب كتاب “مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية” ج3

الباب الرابع: الشك في الشعر الجاهلي (الوضع والنحل)

الفصل الأول: المشكلة الهُوْمَرِيَّة (1) (33 صفحة)

الشك في الأدب القديم ظاهرة عامة عند كل الأمم ذات التاريخ السحيق. وقد وقعت في الأدب اليوناني القديم، في نموذج المَلحَمَتَيْن الشِّعريَّتَيْنِ: الإلياذة والأوديسَّا؛ المنسوبتين إلى شاعر يوناني قديم يُدعى “هُومِيرُوس”. وسيركِّز الأسد على جهود الدارسين الغربيين المَعنيين بدراسة الشعر الإغريقي القديم؛ محاوِلًا الكشفَ عن الإجراءات المنهجية التي اتبعها الدارسون في مُعالجتهم قضية الشكّ في أدبهم القديم، وما قاموا به من بحث آداب الأمم الأخرى، ومقارنة بين الملحمتين اليونانيتين والملحمتين السِّنسِكْريتيتَيْن: المهابهارتا والرَّامايانا. وكذا الموازنة بين الملحمتين والقصائد والأغاني الشعبية في العصور الأوربية الوسطى، كذا بينهما والملاحم الأدبية الأوربية الأخرى، مثل الإنيادة للشاعر الروماني “فرجيل”، والفردوس المفقود لـ”مِلْتُون”. مُوضِّحًا مدى ما بذلوه في تقصِّي هذه الجوانب، وعدم اغترار المُحقِّقين منهم بمظاهر التشابهات الكثيرة بينها. وأورد تحذير بعض الدارسين من أن الموازنة الدقيقة بين التشابهات هي طريق عدم الانخداع بالتشابه الظاهري.

ملامح التشابه بين الشعر الجاهلي والشعر الهُومريّ (2)

بدأ الأسد نفسه يرصد وجوه التشابه بينهما وهي:

1-   ليسا أول ما كُتب في الأُمتين، لكنهما أقدم ما وصل إلينا. ونعرف عدم أوليتهما لأمرين: نضوج الصورة الفنية لهما، مما يؤكد أنهما نتاج تطور طويل؛ والإشارات -الواضحة والمُبهمة- فيهما إلى شعراء سابقين زمنًا لا نعرف من أمرهم شيئًا. ومثَّلَ في الهامش بالشاعر حذام الذي ذكره امرؤ القيس في أشعاره، وبعض المواطن في الملحمتين.

2-   كلاهما يتسم بالنضارة والبساطة، فنجد طفولة العالَم عند اليونان، وسذاجة البداوة عند العرب. لكنهما استطاعا التعاليَ على خشونة الشكل، وصراع المعنى واللفظ؛ والارتفاعَ عن الابتذال، بلوغًا لمستوى رفيع بين الآداب.

3-   كلاهما اختُلِفَ في تدوينه، بين مُنكِر للتدوين إلا مُتأخِّرًا، ومُثبت للتدوين منذ لحظات الإبداع الأولى.

4- كلاهما مصدر تاريخي للحياة في هذا الطور المُتقدم من تاريخ الأمتين، بل قد يكونانِ المصدرين الأساسيين في هذا السياق.

5-  كلاهما دُوِّنَ ونُقِدَ على يد مدرسة لغوية أدبية: مدرسة الإسكندرية التي جمعت مخطوطات الإلياذة والأوديسا؛ ومدرستا البصرة والكوفة اللتان جمعتا الشعر الجاهلي.

6- لم تقف جهود المدرستين عند الجمع، بل نقدوا الموروث نقدًا دقيقًا عميقًا. ونشأت من جهود نقد المدرسة الغربية إرساء مصطلح “المشكلة الهُومريَّة”، والتي تأثر بها دارسو الأدب العربي المُحدثون، فأقاموا مشكلة “نحل الشعر الجاهلي”.

مَن نظمَ المَلحَمتَينِ الهُومريتَين؟

ينوه الأسد -في الهامش- أن وصف الملحمتين بالهُومريتين لا يعني نسبتهما إلى شاعر فرد بعينه. وينبه في المتن إلى أن النقاد لم يصلوا إلى نتيجة يقينية في الأمر، لأن كل الأدلة ظنية غير موصلة لليقين. وتدور الآراء في هذا النقاش حول عدة افتراضات:

أ‌-  وحدة التأليف

يعني هذا الفرضُ أن الملحمتين الهومريتين من تأليف شخص يدعى هومر. وقد غلب هذا الرأي على الدرس قرونًا، لم يُشكَّ فيه إلا نادرًا، كما نقلتْ بعض حواشي نسخة البندقية. لكن الفكرة ظلَّتْ مستقرة حتى القرن 20. وقد أودع الأسد رأي الناقد باورا؛ الذي يخلص إلى أن خصائص الوحدة في الإلياذة، واختلافها عن روح التشرذم الموجودة في محلمة المهابهارتا؛ تدلُّ على وحدة صانعها، الذي استطاع صوغها صوغًا واحدًا، حتى إنْ لم يكن مؤلِّف كل ما فيها.

ب،ج- ثنائية التأليف وتعدُّد التأليف

ظلَّت النظرية السابقة مسيطرةً إلى أنْ كتب فريدريك وُلف كتابه “المُقدمة”، وأرسى فيه المشكلة الهومرية، عام 1795م. ثم أدرج الأسد رأيين على النظرية: رأي “ر . س . جب” الذي مال إلى وجود شاعر ذي موهبة أقام الصوغ الرئيس في الملحمتين، وألَّفَ قسمًا كبيرًا من الأغاني. وقد بُدئ به نظم الملحمتين، ولا يُعلم مدى مساهمته من مساهمة غيره فيهما. والرأي الآخر للناقد “وليم جديس” الذي رأى في نظرية ولف أنه أطلق لفظ هومر على مجموع كبير من جهود شعراء ذلك العصر الملحمي، لا على شاعر واحد أو اثنين.

ثم يلخص فكرة جب؛ أن ولف لم يقطع بأي شيء في القضية التي أثارها؛ إنما اقتصر عمله على بثّ الشكّ في الملحمتين وما يتعلق بهما كليةً(3). وأن خلاصة النظرية الوُلفيَّة(4) أن القصائد الهُومرية جُمعتْ في بداية العصر الأدبي عند الإغريق، من أغانٍ وأناشيد غير مكتوبة، ثم قلَّلَ من أهمية نسبة هذا المجموع إلى كاتب واحد أو كُتَّاب كثيرين.

AmbrosianIliadPict47Achilles تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج3

وسيلة حفظ الشعر الهومري: الرواية الشفهية أم الكتابة؟ (5)

والرأي هنا بين فريقين(6): الفريق الأول أن الأشعار نُظمتْ دون كتابة. وقد ذهب إليه ولف في المقدمة؛ حيث رأى أن اليونانيين لم يعرفوا الكتابة حتى 950 ق.م. وقد نُقلتْ الملحمتان شفاهةً قرونًا، تعاورتهما تغييرات كثيرة، ولمْ تُدوَّنا إلا نحو 550 ق.م. أما الفريق الثاني فرجَّحَ تدوينهما منذ عهد قديم. ورأوا أن الكتابة كانت معروفةً قبل هومر، واستخدموها في عصره، استقاءً من الهجاء الفينيقي. ومن هذا الفريق نفر رأوا أن القصائد كُتبتْ دون جمع وضمّ بينها.

ثم عرض الأسد لرأي “جب” في نظرية ولف؛ حيث رأى الفرض الأساسي لولف هو إنكاره الكتابة الأدبية، وقرر جب أن هذا الفرض محض احتمال. مع تركيزه على هذه النقاط (7):

1-   شواهد النقوش تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، ولا يعني هذا عدم وجود كتابة قبلها. واستخدام الكتابة في أغراض الحياة أولى وأقرب من استخدامها في النقوش؛ مما يشير إلى وجود غيرها لم يُنقل إلينا. كما أن قلَّة إتقان الكتابة المنقوشة المكتَشَفَة لا تدل على قلَّة معرفة الكتابة، بل على قلَّة مهارة النقش على الحجر. وقد يكون الكاتبون متمرِّسين على الكتابة على مواد ألين من الحجر.

2-   تصور التقدم الفائق لليونان؛ يستدعي تصور نقل اليونانيين واقتباسهم الكتابة عن الفينيقيين باكرًا، خاصةً في ظلّ التبادل التجاري بينهما.

3-  هناك قصائد بطولية طويلة نُقلتْ من القرن الثامن قبل الميلاد.

4-   بعض ما ورد في الإلياذة يشير إلى ضرب من حروف الهجاء أو الكتابة الهجائية.

5-   يُرجِع المؤرخ “هيرودوت” بعض النقوش الإغريقية التي رآها في طِيبة (8) إلى عدة قرون سالفة عليه.

6- مالت الأبحاث الحديثة إلى تفنيد تأخر زمن نظم الملحمتين عن تدوينهما؛ ببحث تاريخ تدوين بعض الأصوات.

7-  الاستخدام الأدبي للكتابة لا يعني صناعة عدد من النسخ للقراءة -كما الحال الآن-؛ بل تقييد النص الأدبي بالرمز الحرفي، لمواجهة عنصرَي الزمن والذاكرة المتغيرة.

والأمر في نقل نصوص الملحمتين -وفق نظرية ولف- يدور حول احتمالات ثلاثة: النظم في ذاكرة الشاعر، النشر الشفهي بين الناس، النقل بطريق الرواية الشفهية المنضبطة الدقيقة؛ والأخير يفترض وجود طائفة من اليونانيين انقطعوا لنقل الملحمتين، بالمباشرة جيلًا بعد جيل. وهذا مخالف لروح الرواة المتنقلين الذين وُجدوا في اليونان. والخلاصة أن الملحمتين منقولتان شفاهة لأجيال، لكنْ لا يمنع هذا من تصور وجود أصول كتابية لهما.

ثم انتقل لرأي الناقد بورا؛ حيث يؤكد على شيوع الكتابة في القرن السابع ق.م، وأن الرجال الذين لم يعتادوا الكتابة استطاعوا حفظ الكثير الجمّ، وقد وُجد من حفظ الإلياذة والأوديسا معًا. بل لعلَّ هومر نفسه عرف الكتابة وأخفى أمر معرفته، لكنَّه نظم قصائده للإنشاد؛ سواء كتبها أم لم يكتبها.

المدارس التي عُنيت بهُومر (9)

قسَّم الأسد المدارس التي قامت على هومر إلى ثلاثة أطوار (10):

1-   ما قبل العصر الإسكندري

لم تكن العناية به تتصف بالعلميَّة، بل تمثَّلتْ في إشارات واقتباسات، وبعض شروح. ثم قسَّمَ جهودها على أربع طوائف:

أ‌- الشعراء أنفسهم: وأقدم إشارات وردت لهومر في قصيدة من آخر القرن الثامن ومطلع السابع ق.م؛ وأول من اقتبس من إلياذته الشاعر “سيمونيد السيوسي”، الذي ولد 556 ق.م.

ب‌- الفلاسفة: عُني الفلاسفة بهومر منذ القرن السادس ق.م، وثار عليه البعض لنسبته النقص والعيب للآلهة. فنشأ التفسير المجازي لأشعاره؛ كي يخرجوا الآلهة من هذا الوصم بالنقص. وكان هذا الانتقاص سبب إبعاد أفلاطون الشعراء من جمهوريته.

ت‌- المؤرخون: عنوا به عناية ملحوظة، وكان هيرودوت أول المُشكِّكين في نسبة بعض القصائد البطولية له. وهذا التشكيك يدل على أن اليقين كان الأصل؛ بل تعامل ثوسيديد المؤرخ مع أحداثها تعاملًا تاريخيًّا.

ث‌- الرواة المُنشدون: من أقدم الطوائف عهدًا بشعره. وقد ذكر أفلاطون في إحدى محاوراته أن شخصًا يدعى إيون كان يشرح شعر هومر ويفسره.

2-   العصر الإسكندري

بدأ معه النقد الحقيقي للهُومرية في مطلع القرن الثالث ق.م. وقد أورد الأسد تلخيصًا من كتاب “جب” حول جهود ناقدي المدرسة في تحليل النص الهومري؛ الذي توفرت لهم منه نسخ محررة وغير محررة. فأخذ النقاد يدرسون النص دراسة عميقة، ويقيدون ملحوظاتهم عليه. وكذلك فعل نقاد مدرسة مدينة برجامم؛ فحرروا نص الإلياذة، وجعلوه متنًا عليه حواشٍ وشروح، سُميتْ بالحواشي الهومرية، تحوي مختصرًا لجهود تحليل نقاد الإسكندرية.

3-   ما بعد العصر الإسكندري

ظلَّ الدارسون في درسهم الخادم للنص، إلى أن أتى فريدريك ولف في كتابه “المقدمة”، وذهب إلى آراء، منها: أن الملحمتين دُوِّنتا نحو 550 ق.م، أيْ بعد نظمهما بقرون، وقد اعترتهما الكثير من التغييرات من أثر النقل الشفهي. وأن تغييرات أخرى قد حدثت بعد التدوين. وأن الوحدة الفنية في الملحمتين لا ترجعان إلى نظمهما، بل إلى ما أضافته المعالجة التالية. وأن قصائد الملحمتين لمْ تنظم من مؤلف واحد.

جميع أدلة ولف مبنية على اعتبارات سياقية خارجية عن النص. وكان هو نفسه كلما قرأ النص مُتصلًا تطايرتْ نتائجُهُ أمام عينيه. وولف لم يجحد وجود شاعر يدعى هومر بدأ القصائد، وكتب جُلَّها.

وقد ساعد على انتشار النظرية وقبولها اندلاع الثورة الفرنسية، وعموم الجو المفعم بالتناقض والبدع، والكشف عن بعض الشعر الشعبي الأوربي؛ وهو شعر مجهول الناظم، يمتاز بالحيوية والخصب؛ فصار معينًا على تصور أفكار ولف. وقد تأثر بولف كبار المثقفين في عصره، مثل جوته ونيتشه، لكنهما تراجعا -فيما بعد- عن هذه الشكوك إلى رأي وحدة التأليف. وكان الفكر الإلماني أشد قبولًا لولف من الفكرين الإنجليزي والفرنسي.

العرب في الجاهلية تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج3

الفصل الثاني: وضع الشعر الجاهلي ونحله عند الأقدمين (30 صفحة)

لم يمنع العصر الحديث النحل والسرقة، رغم ما وصلنا إليه من شيوع الكتابة وانتشار الطباعة بصور عديدة. أما في القديم، فلم يقتصر سلوك النحل على الشعر؛ بل امتد إلى النَّسَبِ والأخبار. ومن النحل في الأنساب وقوف النبي في ذكر نسبه عند مَعدّ بن عدنان، وقوله: كذب النسَّابون. ومن النحل في الأحاديث جاء حديث “من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار”. وقد تنبه الصحابة إلى شيوع الكذب والوضع في الحديث النبوي.

أما الأشعار فقد نُحلت منذ الجاهليين. ومن ذلك ادعاء زهير أبيات قُراد بن حنش لنفسه، ومنها:

إن الرَّزِيَّة لا رَزِيَّةَ مِثلها 

ما تبتغي غطفانُ يومَ أضلَّتِ

ومن ذلك تأرجُح نسبة أبيات بين النابغة الجعدي وأمية بن أبي الصلت، أولها:

الحمد لله لا شريك له

 مَن لم يقلْها فنفسَه ظلمَ

ومن ذلك نحل أبيات على أبي بكر الصديق، مما دعا السيدة عائشة إلى نفيها: “كذب من أخبركم أن أبا بكر قال بيت شعر في الإسلام”.

ولم يكن أمر النحل خافيًا على الرواة العلماء، وغالبهم منقول عنه رده أبياتًا من الشعر بداعي النحل. ومن أخبار الطبقة الأولى منهم في ذلك؛ أنْ حكم أبو عمرو بن العلاء على قصيدة منسوبة إلى امرئ القيس، بأنَّ صحيح نسبتها إلى رجل من أولاد النمر بن قاسط مطلعها:

لا وأبيكِ ابنةَ العامريّ

 لا يدَّعي القومُ أني أقرّ

وكان الأصمعي يقول: أقمت بالمدينة زمانًا، ما رأيتُ بها قصيدة إلا مصحَّفةً أو مصنوعةً. وقد صحَّحَ نسبة بعض القصائد المنسوبة إلى أمية بن أبي الصلت، وكذا بعض أبيات لزهير رأى أنها ليست له. وقد صحَّح أبو عبيدة أبياتًا نسبت للحارث بن حِلِّزة، وأبياتًا لامرئ القيس منها أبيات، نسبها لرجل من الأنصار، أولها:

الخير ما طلعتْ شمسٌ وما غربتْ

 مُعلَّقٌ بنواصي الخيل مطلوب

كذا الحال استمر بين رجال الطبقة الثانية من الرواة. فأبو حاتم السجستاني أورد أن خلفًا الأحمر وضع بيتًا (11) في قصيدة لعمرو بن ثعلبة، أولها:

تهزأتْ عِرسي واستنكرت 

شيبي ففيها جَنَفٌ وازورار

أما الجاحظ فكان يورد النحل أو شكّه فيه على ثلاثة أضرُب. الأول: أن ينسب الشعر للشاعر، ثم يعقب بما يفيد الشك في نسبته، مثل قوله: إنْ كان قالها. والثاني: أن يقطع بالنحل، دون إيراد حُجج. مثل قوله: وفي منحول شعر النابغة:

فألفيتُ الأمانة لم تخُنْها 

كذلك كان نوحٌ لا يخونُ

والثالث: أن يقطع بالنحل مع إيراد حُجج، يراها كفيلة بدعم رأيه. منها إنكاره أبياتًا جاهلية فيها انقضاض الكواكب؛ لأنها -في رأيه- لم تقع إلا في الجاهلية القريبة قُبيل مولد النبي أو مع مولده.

أما ابن قتيبة في كتابه “الشعر والشعراء”؛ فأورد النحل في موضعين، أولهما حُكمُه بالوضع على قول الأعشى:

إنَّ مَحلًّا وإنَّ مُرتَحَلا 

وإنَّ في السَّفْر ما مضى مَهَلا

والثاني ترجيحه النحل في أبيات من شعر لبيد آخرها:

وكُلُّ امرئٍ يومًا سيعلمُ سعيَه

 إذا كُشفت عند الإلهِ المحاصل

عرب تاريخ النحو تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج3

جهود ابن هشام وابن سلَّام الجُمَحِيّ في تبيين النحل (12)

وقد خصَّ الأسد عبد الملك بن هشام صاحب السيرة، وابن سلَّام صاحب طبقات الشعراء(13)؛ لأنهما كانا ركيزتين من ركائز المُحدَثين في قدحهم الشعر الجاهلي. وكان ابن هشام قد هذَّبَ سيرة ابن إسحاق، وحذف منها الكثير من الشعر المنحول الذي وصفه بقوله: “وأشعارًا ذكرها (يقصد ابن إسحاق) لمْ أرَ أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها”. كما تعقَّب ابنُ سلَّام ابنَ إسحاق، ولامَهُ على إفساد الشعر وتهجينه، بما حمله في سيرته جاهلًا به، مع اعترافه بجهله بالشعر. ولامَهُ على عدم إعمال العقل وسؤال النفس عمَّنْ نقل أشعار عاد وثمود التي أثبتها؛ وهم قوم منقطعو الصلة بمَن دونهم. ووصل به الاستياء أن طرح كل ما أتى به ابن إسحاق من الشعر كليةً.

وقد تتبع الأسد جهود ابن هشام (14) في نقد الأشعار التي أثبتها ابن إسحاق؛ فوجدها على أربعة أضرب.

الضرب الأول: تصحيح نسبة الأشعار -كليًّا أو جزئيًّا- بعد إيرادها. مثال أشعار نسبها ابن إسحاق إلى زيد بن عمرو بن نفيل، فقال عنها ابن هشام: “هي لأمية بن أبي الصلت في قصيدة له، إلا البيتين الأولين، والبيت الخامس، وآخرها بيتًا”.

الضرب الثاني: إيراده الحادثة التاريخية مُسقطًا ما فيها من أشعار لم تصحَّ عنده. مثال إيراده ما ذكره ابن إسحاق من نذر عبد المطلب ذبح ولده، وحذف ما جاء في أثناء هذا الحديث من شعر، وقال: “وبين أضعاف هذا الحديث رَجَز لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر”.

الضرب الثالث: أن يورد ما صحَّ من أبيات القصيدة التي أثبتها ابن إسحاق، مع التصريح بالحذف. مثال إيراده أبياتًا لعمرو بن الحارث، مجتزأة، قائلًا: “هذا ما صح له منها”.

الضرب الرابع: إيراده القصيدة كاملةً من ابن إسحاق، مع التنويه على نحلها؛ بقوله: “وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها”، أو “وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها”، أو أنه لم يرَ أحدًا من علماء الشعر يعرفها، أو يُعيِّن اسم العالم المُنكر لها.

كذا كان يعلق تعليقات نقدية على إيرادات ابن إسحاق؛ من حيث ترتيب الأبيات، أو ضم قصيدتين معًا، أو أنه ليس بشعر، وغيرها.

أما ابن سلام الجمحي؛ فقسَّم الأسد جهده في تناول القضية قسمين كبيرين:

1-   القسم الأول: مال فيه الجمحي إلى إطلاق الأقوال والأحكام دون تخصيص أو تمثيل، وغالبه في مقدمة الكتاب. ومن هذه الأحكام المُطلقة؛ اتهامه الكثير من الأشعار العربية بالوضع والاختلاق، وأنها حُملت من الأعراب بلا دراية؛ لذا تجدها لا نفع فيها، ولا فنَّ، ولا أدب. ومنه أيضًا قدحه عامة ما جاء به ابن إسحاق في السيرة، ومنه تصريحه بنحل الشعر من بعض العشائر؛ التي استقلَّتْ شعرها حيال ما نُقل من أشعار غيرها من العشائر، فما كان منهم إلا أن زادوا في أشعارهم بالوضع. لكنَّه نبَّه أن هذه الأشعار لا تغيب عن ذوي العلم بالشعر، ولا يُخدعون فيها.

2-   القسم الثاني: صرَّح فيه الجمحي بالنحل والوضع في حق شعراء معينين، وأشعار معينة. ومنها تصريحه بزيادة ابن داود بن مُتمم بن نويرة في شعر أبيه؛ طلبًا في قِرَى القوم واستضافتهم إياه؛ حيث كانوا يكرمونه لينشدهم شعر أبيه. وكذلك تشكيكه في غالب شعر طَرَفَة، وعبيد، وعلقمة بن عبدة، وعديّ بن زيد، والأسود بن يعفر، وحسان بن ثابت. مع توضيحه سبب حُكمه باضطراب الرواة في ذكر ما لهم من شعر، أو برغبة قريش في التكثير من شعر حسان، أو بنقده الداخلي للنصوص.

ومن تعيينه أبياتًا بعينها منحولة، حكمه بالنحل على بيتين يُنسبان للبيد:

باتتْ تَشَكَّى إليَّ النَّفسُ مُجهِشَةً 

وقد حملتُكِ سبعًا بعد سبعينِ

 فإن تعيشي ثلاثًا تبلغي أملًا 

وفي الثلاثِ وفاءٌ للثمانينِ

فقال عنها: “ولا اختلاف في أن هذا مصنوع تُكثَّر به الأحاديث، ويُستعانُ به على السهر عند الملوك، والملوك لا تستقصي”. يقصد لا تتبَّع القصائد، ولا تدقق في أمرها وأمر قائليها (15).

الهوامش:

[1] هذا الفصل يقلُّ أهميةً عند القارئ العام، الذي يريد التركيز على الموضوع الأصيل “قضية الشعر الجاهلي بين التوثيق والشك”؛ لأنه يعرض لمشكلة أخرى، عند أمة أخرى، ويمكن للقارئ الموصوف أن ينتقل إلى الفصل الثاني، ليبدأ تتبع قضية الشك دون أي تأثر بتجاهل قراءة هذا الفصل، حيث لا علاقة بينه والفصول التالية -إلا علاقة تخصصية-.

أما للقارئ المتتبع الفاحص، فيكاد هذا الفصل يخالف المنهج العام للكتاب في جميع فصوله، فكأنه “فصل” بالمعنى اللغوي، لا الاصطلاحي المُضمَّن البحوث والدراسات. وقد خالف فيه المؤلف شرط التركيز والاقتصار على الأهم المؤدي إلى معرفة لازمة للسياق العلمي والاستدلالي، لينتقل بناءً عليه إلى حلقة أخرى. فمتى حذفنا هذا الفصل كليةً لم تتأثر الدراسة أدنى تأثر. ولا أقصد بكلامي أن أنقض عمل الأسد، بل أقرر السمت العام الظاهر، ثم أقيد ما بعد الظاهر من نقاش علمي، بادئًا بالسؤال الآتي:

لِمَ عمد الأسد لتدبيج هذا الفصل ونظمه وسط الفصول؟

سببان من وجهة نظر المؤلف:

1-      التشابه بين الشعر الإغريقي القديم، والشعر الجاهلي.

2-      وجود مشكلة تتعلق بكليهما، تتمثل في نسبة الملحمتين الإغريقيتين (الإلياذة والأوديسا) إلى هوميروس، وكذا نسبة الأشعار الجاهلية إلى قائليها (والشطر الأخير لم يصرح به الأسد).

سببان في نظري:

1-     اتصاله الواسع بالمشكلة من خلال اطلاعه عليها في المدونات الغربية. مما وفَّر له ظهيرًا لصناعة مقارنة.

2-     إرادته المقارنة وإطلاع المجتمع العلمي على جهود النقاد الغربيين الحثيثة في رؤية وتقييم مشكلة تتعلق بأدبهم القديم الموغل في القدم، وطرح طه حسين المتساهل كل التساهل البائن العوار، الذي سيوضِّح عواره في فصل طويل بعدها.

ويمكن للقارئ لحظ تدخل السياق العام، المتمثل في سطوة طه حسين، وتأثير هذا على حرية البحث العلمي، التي قادتْ الأسد إلى اتخاذ كافة التدابير الاحترازية في سبيل توقّي تلك السطوة، والتعبير عن نقده من أبعد سياق ممكن، وفي صور موغلة في غير المباشرة؛ عن طريق استحضار تعامل النقاد الغربيين مع مشكلة خاصة بأدبهم القديم. ويزيد القارئَ وثوقًا من وجهة النظر أن يطلع على التفصيل الذي أتى به الأسد لهذه المشكلة، وتفريعات آراء النقاد، واستدلالهم على تفريعاتهم. ومتى سأل القارئ عن أهمية إدراج كل هذه التفاصيل -التي أخبرنا الأسد أنه سيأتي منها بالأهم فقط، ويقتصر على أبرز الآراء-؛ يعلم أنه نتاج العاملين اللذين سقتهما.

وهنا أؤكد على أمر آخر؛ هو التباين بين المشكلتين المُقارنتين: المشكلة الهومرية التي تدور حول سؤال التأليف فقط (هل ألف هومر الملحمتين؟ أم كانتا نتاج تولُّد وتأليف جماعي؟ ومن هو هومر؟)، ومشكلة الشك في الشعر الجاهلي التي لا تقتصر على سؤال التأليف، إنما ينصبُّ صلبُ الإشكال فيها حول: وجودية الشعر الجاهلي كليةً -في المسار الذي اشتهر أخيرًا على يد المستشرقين وطه حسين-، أو جزئيًّا في مسارات أخرى، مع وجود إشكال آخر هو النحل الاعتيادي أو النحل الجزئي -فيما أرى-؛ وهو النحل والوضع المعروفان عند العرب. ففي الحقيقة، المشكلتان متغايرتان؛ فالملحمتان مُسلَّمتان بهما من الغربيين؛ من حيث كونهما ملحمتين إغريقيتين مكتوبتين في أزمان سحيقة، لكن الإشكال كله حول: من هو مؤلف الملحمتين؟ أهو فرد أم أفراد أم مجموع لا ينحصر؟ .. وهذا مغاير لمشكلة تتمركز حول إنكار نسبة تراث كامل لحقبته التاريخية، ناسبةً إياه إلى حقبة أخرى، مع ادعاء نحل الأخيرة إياه على الأولين. فالاشتراك بين المشكلتين محدود، وفي جهات بسيطة. ولا أدري هل وقع هذا الملمح تحت عيني الأسد أم لا، لكنه واقع الآن بما نبَّهت به.

كما أرصد هنا فائدة أخرى يضيفها هذا الفصل، وهو استخدام المؤلف لمنهج المقارنة، رغم أنها مقارنة ضعيفة المبنى، ضعيفة الأثر على البحث كليةً. على الرغم من أن الأسد حاول التركيز على نواحي التقابل في النقاش الذي دار بين النقاد في تعاملهم مع التراث الإغريقي والمستشرقين وطه حسين في تعاملهم مع الشعر الجاهلي؛ إلا أن هذه الملامح عمد الأسد ألَّا يظهرها واضحة القسمات، بل في ثنايا السطور. وهذا كله عزَّز التقليل من قيمة المقارنة المعقودة بين المشكلتين. وأنوه إلى أنها المرة الثانية في الكتاب، التي يصرح فيها بما يتعلق بالمنهج أو الإجراءات التي يُعملها في بحثه.

سأقوم بالتهذيب على النمط نفسه طوال الكتاب، مع بعض الاختصار مراعاةً لما سقته هنا، مراعيًا إظهار المواطن التي حرص الأسد على بثها بين ثنايا السطور.

[2] العنوان من إضافتي، وكذا ترقيم العناصر بعد تهذيبها.

[3] لعل القارئ يلحظ انتقاء الأسد لبعض الآراء النقدية؛ وكأنه يصف عمل طه حسين من طرف خفي.

[4] مصدر صناعي من اسم الذات ولف، وهو اسم الناقد صاحب الشك في الملحمتين.

[5] العنوان من إضافتي، وهو في الأصل معلَّم بالأرقام.

[6] نلحظ هنا مدى الاختلاف الشاسع بين الآراء النقدية عن المسائل القديمة؛ لأن الأدلة كلها ظنية مُكيَّفة على حسب رؤية كل اتجاه. وهذا ما أشار إليه الأسد في مقدمة الكتاب.

[7] هذه النقاط هامة جدًا في استجلاء أمر الشعر الجاهلي، والنقاشات حوله.

[8] مدينة مصرية قديمة، كانت من أشهر وأعرق المُدن في الحضارة المصرية. وموقعها الآن مدينة الأقصر، في صعيد مصر.

[9] العنوان من إضافتي، وهو في الأصل معلَّم بالأرقام.

[10] هذا التفصيل أوسع من المتصوَّر في استدعاء نموذج مُحاكٍ، أو مُعادِل موضوعي للمشكلة التي يتناولها الباحث أصالةً في بحثه. رغم أن الأسد كان يسرد هنا سردًا خلاصات ما قرأه. وبغضّ النظر، فإن اعتماد الأسد في هذا الفصل، وفي هذا الجزء كان على مراجع وسيطة، عددها قليل جدًا، نقل عنها رأي المخالف والموافق.

[11] لفظة الوضع لا تدل ضرورةً على تعمد الكذب، كما قد يتبادر لذهن القارئ. بل اللفظة تدل أصالةً على زيادة تطرأ على قصيدة، أو قصيدة تُنشئ منسوبةً إلى الغير. وقد تأتي هذه الزيادة نتيجة سهو من الرواي، أو وهم منه، أو تداخل حصل له بين القصائد لتشابه (كما يحدث للحافظ بين آيات القرآن المتشابهة)، أو روايته إياها على وجه في مجلس أو جماعة، ثم مراجعة نفسه إلى الصحيح. فكلمة وضع ليست مرتبطة بالدلالة السيئة التي يتبادر الذهن إليها.

[12] العنوان من وضعي.

[13] هنا أثبت الأسد اسم الكتاب “طبقات الشعراء”، لا “طبقات فحول الشعراء” كما أثبتها الأستاذ محمود شاكر في تحقيقه الكتاب. وهي من المظان الخلافية التي أكثر فيها شاكر التشديد على مُنكري إضافته كلمة “فحول” لعنوان الكتاب، الذي اشتهر بـ”طبقات الشعراء” حتى أتى شاكر بتحقيقه. وهناك كتاب بالاسم نفسه “طبقات الشعراء” للشاعر العباسي الشهير ابن المعتز؛ صاحب كتاب “البديع”.

[14] وهذه جهود محمودة، وهي من علائم إخلاصه في تقصي المادة المبحوثة. فإن كتاب السيرة كتاب ضخم. حتى مع تتبُّع فهرس القوافي الذي وضعه الأفاضل المحققون للنسخة التي نقل عنها الأسد؛ فهو مجهود يستحق الإشادة لكثرة ما به من أشعار بعد تنضيد ابن هشام له. ومن قبيل الفائدة، فهذا الموضع يدلنا على النفع العظيم الذي يقدمه المحقق بما يضعه من فهارس تكشف عن البنية العميقة للكتاب الذي يخرجه.

 

[15] أنوه إلى أن الأسد -حتى الآن- يُدرج من التراث معالجات لقضية النحل الجُزئيّ (وهو نحل نماذج من الشعر على شعراء بأعيانهم، أو على الجاهلية عمومًا)، وحديثه هذا مغاير للمُشكلة الرئيسة التي نواجهها في القضية المُسمَّاة بـ”نحل الشعر الجاهلي”؛ لأنها من قبيل النحل الكُلِّي لا الجزئي. لكنه طور من دراسة المُشكلة، لازم الاستيفاء من الأسد؛ خُلُوصًا للنحل الكلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى