قلّ بين الأدباء من اتّسعَ مداه فزاول الشعرَ والكتابةَ ، وقام بالنقد ، وعُني بالرسمِ والنحت ، وكان ، مع ذلك كلّه ، منشغلًا بالترجمة ، واستطاع أن يُحسنَ في هذه المناحي كلّها ؛ قلّ منهم من كان كذلك ! ولقد كان جبرا إبراهيم جبرا من هؤلاء القليل ، المحسنينَ كلَّ أمرٍ مارسوه .
وُلِد جبرا سنة 1920 ، في بيتِ لحم ، على مقربةٍ من القدس الشريف ، في أُسرةٍ شحيحةِ الرزق ، ذاتِ دين وتقوى ؛ أرادت أن تُنشّئ أبناءها على سمتٍ من الديانة ؛ فعَهِدت بابنها جبرا إلى مدرسة السريان الأرثوذكس ليتعلّمَ القراءةَ والكتابة ، ومبادئَ الديانة ، وقد تنقّل جبرا ، من بعدُ ، بين المدارس حتّى انضمَّ إلى الكليّة العربيّة في القدس ، وهي يومئذٍ ذاتُ تعليمٍ رصين ؛ يتخرّج فيها التلميذ مزوّدًا بأصول المعرفة بالعربيّة والإنكليزيّة ، ويكون قادرًا على المضي في دراسة عالية . وقد كان جبرا في سنواته الأولى تلك مقبلًا على القراءة ، لا يقف بها عند كتبِ المدرسة ، بل يتعدّاها إلى ضروب أخرى من الكتب ، وكان ، مع ذلك ، يحاول الكتابةَ ، ويسعى أن يضعَ قدمه على درب الأدب ، ويحاول الرسم فيصوّر مشاهدَ من بلدته وناسها . ثمّ أُتيح له ، في سنة 1939 ، أن يذهب في بعثة دراسيّة إلى بريطانيا ليدرسَ الأدب الإنكليزيّ ؛ فاتّسع له الأفقُ ، وأقبل يتزوّد من الشعر والنثر ، ويقف وقفةً طويلة عند أعلام الرومانسيّة الإنكليزيّة؛ كوردزورث ، وكولردج ، وبايرون ، وشلّي ، وكيتس ؛ فاستوعب شعرَهم ونقدهم؛ ليكون له ، من بعدُ ، هذا المنهلُ الرومانسيُّ ركنًا ركينًا في رؤيته كلّها .
أحرز من جامعة كمبردج ، سنةَ 1943 ، شهادةَ الماجستير في الأدب الإنكليزيّ ، وعاد إلى القُدس مزوّدًا بزاد موفور في الشعر والنقد ، وبشهادة عالية ، وبرؤية متجدّدة لما يُحيط به . وعمِل في الكلّيّة الرشيديّة بالقدس ؛ يدرّس الأدب الإنكليزيّ ، ويزاول الكتابةَ والرسم ، حتّى سنة 1948 ؛ إذ زُلزلتِ الأرض ، وهُدمتِ البيوت ، وقامت إسرائيلُ فأخذتْ تُجلي أهلَ الأرض عن أرضهم ، وتشرّدهم ! وصار على جبرا أن يجد ملتجأً آمنًا ؛ يستأنف فيه حياته ولا ينأى به عن القدس ؛ فأحسنت إليه الأقدار إذ جعلته يتّجه إلى بغداد ، ويتّخذ منها دارَ إقامة ، وعمل ، ومثوى !
وإذ بلغ بغدادَ في خريف سنة 1948 ، عمِل في كلّيّة ناشئة جديدة ؛ دُعيتْ في أوّل نشأتها بالكلّيّة التوجيهيّة ، ثمّ صار اسمها في سنة 1949 كلّيّةَ الآداب والعلوم . وقد كان عميدُها ، عبدُ العزيز الدوريّ ، حريصًا على أن تنشأ نشأةً رصينةً ؛ بأن تضمَّ خيرةَ الأساتذة ، وأن تكون شيئًا يشبه الكلّيّات البريطانيّة التي شهِدها وهو يدْرُس في لندن . وحين انتظم عمل جبرا في كلّيّة الآداب والعلوم أنشأ ، مع ديزموند استيوارت ، قسم اللغة الإنكليزيّة ، وشرع يحاضر في دار المعلمين العالية ، وفي كلّيّة الملكة عالية ، ويخالط المجتمع البغداديّ بأُدبائه وفنانيه ، ووجوه الثقافة فيه . كان جبرا مَرِنًا في تواصله مع الناس ؛ يُحسن إقامة العلائق ، ويُحسن ضبطَ إيقاعِها ؛ فلم تمضِ أشهرٌ عليه في بغداد حتّى صار واحدًا من أبنائها ؛ يعرفُ مواقعَ القوّة ، ويدرك مواضعَ الضعف ، ويرى طلائعَ التجديد في الحياة ، وفي الأدب والرسم ؛ فيقبلُ عليها ، ويتّخذُ من روّادها أصدقاء يلقاهم كلَّ يومٍ على مائدةِ حوارٍ لا ينقطع . كان من صحبه الذين ألِفهم وألفوه : جواد سليم ، ورفعت الجادرجيّ ، وبُلند الحيدريّ ، وعبد الملك نوري ، وحسين مردان ، وعدنان رؤوف ، وبدر شاكر السيّاب ؛ وكلّهم كان طُلَعَةً ، يريد الجديد في الحياة والأدب .
استقرّ مُقامُ جبرا في العراق ، واتّخذ له زوجًا عراقيّةً في سنة 1952 ، ونال جنسيّةَ البلد في سنة 1955 ، فأصبح من أهله ؛ له ما لهم ، وعليه ما عليهم ؛ على أنّه لم ينسَ أنّه فلسطينيٌّ قذفت به النكبةُ إلى بغداد !
انتقل عملُه في سنة 1954 إلى شركة نفط العراق ، في دائرة العلاقات العامّة منها ، وظلّ مع ذلك يُلقي محاضراتٍ في كلّيّة الآداب حتّى سنة 1964 . وعند تأميم النفط، في سنة 1972 ، انتقل إلى شركةِ النفط الوطنيّة العراقيّة ، وعُيّن رئيسَ مكتب الإعلام والنشر والترجمة . ثمّ تحوّل عملُه إلى وزارة الإعلام ؛ خبيرًا في شؤون الثقافة .
وبأعماله كلّها نأى جبرا بنفسه عن معترك الأحزاب والسياسة ، وظلّ في حيّز الأدب والفن وما يتّصل بهما ؛ وقد أحكم المسافةَ بينه وبين رجال الحكم في العراق ، على تعاقب العهود ، فلم ينضمّ إلى الموالاة التامّة ، ولم يكن في المعارضة الصريحة ؛ فكان مجرى حياته ، في العهود كلّها ، هادئًا رخيًّا لا تُزعزعه الزعازع ! ظلّ جبرا ، مدّةَ حياته ، في صدارة الأدب والثقافة في العراق ؛ يكتب ، ويترجم ، ويرسُم ، ويضع ، مع غيره ، مشاريعَ ثقافيّةً تحقّق الخير والجمال . وهو ، في ذلك كلّه ، بعيد عن المخاصمة والمعارك الأدبيّة ، حريص على صوته المتّسم بالفرادة والجمال .
زاول جبرا الشعر ، أوّل مرّة ، باللغة الإنكليزيّة ؛ كتبه وهو في القدس قبل أن يذهب إلى بريطانيا ، وظلّ يكتبه وهو في كيمبردج ، وحين عاد من دراسته إلى القدس ؛ وهو شعر يترسّم خُطا الشعر الإنكليزيّ ، ويتّخذ مثاله ممّا بلغه أعلامه . وقد كانت بضاعةُ جبرا من الشعر العربيّ ، في هذه الحقبة من حياته ، ضئيلة لا تُعينُه على أن يكتب الشعر بالعربيّة . غير أنّه حين نزل بغداد واستقرّ فيها ، وعرف طائفة من شعرائها وكتّابها ؛ شرع ينقلّ بعضَ قصائده المكتوبة بالإنكليزيّة إلى العربيّة ، وأخذ يكتب أشياء من الشعر بالعربيّة ؛ لكنّ شعره جاء على النمط المعروف بالإنكليزيّة بـ free verse ، أي الشعر الخالي من الوزن والقافية . وقد صدر له من الدواوين : ” تمّوز في المدينة ” ، و” المدار المغلق” ، و” لوعة الشمس ” . وجملة الأمر في شعره أنّه يكاد ينبتُّ من الشعر العربيّ ، في جوّه وصياغته ، ويلتحق بالشعر الإنكليزيّ ! ومن أجل هذا لم يُقبل جمهورُ القرّاء عليه ، وظلّ في حيّز ضيّق المدار .
ومثلما بدأ كتابةَ الشعر بالإنكليزيّة وهو في القدس بدأ بكتابة القصّة بالإنكليزيّة وهو هناك ؛ فكتب قصّة طويلة بعنوان : ” صراخ في ليل طويل ” ، ترجمها ، من بعدُ ، حين استقرّ في بغداد إلى العربيّة ، ونشرها في سنة 1955 ، وكتب قصصًا قصيرة ؛ بعضها بالإنكليزيّة ، وبعضها بالعربيّة ؛ وكلّها قبل أن يخرج من القدس وينزل بغداد ؛ وهي شاهد على تمكّن قلمه من رسم الأشخاص وإدارة الأحداث وهو لمّا يزل في مطلع حياته . وتهيّأ أن يضع شيئًا ممّا شهِد ببغداد ، وهو ينزل فيها أوّلَ مرّة ، في رواية متكاملةِ العناصر ؛ أشخاصًا وأحداثًا وفكرًا . ولكنّه ما يزال يميل إلى الكتابة بالإنكليزيّة ؛ فكتبها بها ، ونشرها في لندن ، في سنة 1960 ، وكانت بعنوان : street” “ Hunters in a narrow ، أي ” صيّادون في شارع ضيّق ” ؛ وظلّت بالإنكليزيّة حتّى ترجمها محمّد عصفور إلى العربيّة ، ونشرها في سنة 1974 . ومدار الرواية هو بغدادُ ومجتمعها بعينِ أستاذ فلسطينيّ أضطرّته نكبةُ سنة 1948 إلى أن يترك بلده ، ويتّخذ من بغداد دارَ عمل وإقامة . ولقد أحسن جبرا إدارةَ الأحداث ، ورسمَ الأشخاص ، وبثّ الأفكار في طيّ الرواية كلّها . وإذا كان ما قبلها من قصص الكاتب يقع في إطار التجربة الأولى ، والتمهيد لما بعده ؛ فإنّ ” صيادون في شارع ضيّق ” تنبئ عن قلم راسخ في صنعة القصّ ، وبناء الرواية .
شَعَر جبرا ، بعد أن استقرّ أمرُه في بغداد وامتدّت الأواصرُ بينه وبين جمهرةٍ من الأدباء والقرّاء ، أنّ الكتابةَ بالعربيّة أولى من الكتابة بغيرها ؛ فأخذ يضع أعماله القصصيّة بالعربيّة ؛ فكتب رواية : ” السفينة ” في سنة 1970 ، ورواية : ” البحث عن وليد مسعود ” في سنة 1978 ، ورواية : ” الغُرف الأخرى ” ، ورواية : ” يوميّات سراب عفّان ” . ورأى هو وعبد الرحمن منيف أن يشتركا في كتابة رواية فكتبا : ” عالم بلا خرائط ” . وكلُّ روايات جبرا محكمةُ البناء ، مصقولة الأشخاص ، جريئةُ الأفكار ، تصوّر بيئةَ أهل الأدب والفنّ وما يضطرب فيها ، وتجعلُ من فلسطينيٍّ ذكيّ جريء ملتقى الأحداث والأشخاص . وهو روائيّ له مِيسمٌ خاصٌّ لا يشرَكُه فيه غيره . وكان على مقربةٍ من الفنّ الروائيّ وهو يكتب سيرته في كتابين : ” البئر الأولى ” ، ” وشارع الأميرات ” ؛ ولا شكّ في أنّ بين كتابيه هذين ، ورواياته أكثرَ من سببٍ متّصل !
وزاول جبرا النقد الأدبيّ ببراعة أخّاذة ؛ فلقد استوعب نظريّات النقد في الأدب الغربيّ على أصولها ، وتشرّبها ؛ لكنّه لم يقسر الآثارَ الأدبيّة على أن تلائمها ، وتدخلَ ، كرهًا ، في حيّزها ؛ بل كان يقف عند الأثر نفسه ؛ متأمّلًا ، متذوّقًا ؛ وقد يصل ما بينه وبين غيره من الآثار لوجهٍ من وجوه الصلة ، وقد يصل بينه وبين صاحبه ؛ إن كان في بيان تلك الصلة ما يزيدُ القارئَ فهمًا وتذوّقًا ، أو يصل بينه وبين بيئته الاجتماعيّة ؛ إن كان في بيان تلك الصلة ما يعزّز الفهم والإقبال على النصّ . وهو في كلّ ذلك ممسكٌ بخيوط الأثر الأدبيّ يصرّفها على نحو يربط بينها بما يكشف المعنى والمغزى ، ويزيد الفهم . والنقدُ عنده مصبوب في مقالة حسنة البناء ، واضحة المقصد ؛ تبدأ بأقوى ما يراه في الأثر المنقود ، ثمّ تأتي بالشواهد عليه ؛ بالتحليل والتعليل ، وربط الظواهر بأسبابها .
على أنّ نقده مصطبغ بلون رومانسيّ لا يكاد يبارحه ؛ فقد أحبّ جبرا الأدب الإنكليزيّ الرومانسيّ ؛ أحبّ الشعر الرومانسيّ ، والنقد الرومانسيّ ؛ فانسرب ذلك كلُّه في كيانه ، وكوّن ذهنه وذوقه ؛ فصار مأخوذًا بغرائب الخيال ، وتوهّج العاطفة ، وسلاسةِ اللغة ؛ وقد بنى أدبَه كلَّه على ذلك ، وجعل يتطلّبه في الآثار التي ينقدها ، ويتّخذ منه أمارةَ جودة وإحسان .
ومن أبرز آثاره النقديّة : ” الحريّة والطوفان ” ، و” الرحلة الثامنة ” ، و” النار والجوهر ” ، و” ينابيع الرؤيا ” ، و” تأمّلات في بنيان مرمريّ ” ، و” أقنعة الحقيقة وأقنعة الخيال ” . ولا يقف بالنقد عند الآثار الأدبيّة وحدها ، وإنّما وقف عند الرسم والنحت ، وكتب فيهما متذوّقًا ، متفهّمًا أبعادهما الجماليّة ؛ فقد كتب : ” جواد سليم ونصب الحريّة ” ، و” جذور الفن العراقيّ ” .
وهو ناقدٌ غزيرُ الكتابة منشغلٌ ، منذ صدر حياته ، بالحداثة وتجليّاتها ؛ يترصّدها في الشعر والرواية ، وفي الرسم والنحت . وعنده أنّ الحداثة موقف كلّيّ من الحياة ، لا يتجزأ ، وأنّ الأدب الحديث إنّما يصدر عن فكر حديث !
ومع ذلك كلّه مارس جبرا الترجمةَ من الإنكليزيّة إلى العربيّة ، وقد جاءت ترجمته في منحيين واسعين ؛ الأوّل : ترجمة الأدب الإنشائيّ ، والثانيّ : ترجمة الأدب النقديّ ، والفكر . فمن الأدب الإنشائيّ ترجم من آثار شكسبير : ” هاملت ” ، و” الملك لير ” ، و” مكبث ” ، و” عطيل ” ، و” وكريولانس “، و” والسونيتات “، وغيرها . وترجم ” الصخب والعنف ” لوليم فوكنر . وكان حريصًا أن يجعل في صدر ترجمته مقدّمةً تتحدّث عن الأثر المترجم ؛ في أفكاره وصياغته ، ومراميه . ومن الأدب النقدي ، والفكر ترجم : ” الأديب وصناعته ” ، و” آفاق الفن ” ، و” قلعة أكسل ” و” ما قبل الفلسفة ” ، وغيرها . وهو ، إذ يترجم ، يصطفي الآثارَ ذات القيمة في الفن والفكر ، وينقلها بلغة عربيّة سلسلة ، واضحة ، متماسكة .
لقد اجتمعت لجبرا مَلَكَتا الإنشاء والنقد ؛ وهما مَلَكَتانِ قليلٌ ما تجتمعان عند أحد ؛ ولقد كان بارعًا في الإفادة منهما كلتيهما فكان الكاتبَ الفنان ، والناقدَ المقتدر …