’’الأديب الشَّاعر النَّاقد الدكتور عبدالعزيز المقالح من أعلام الأدب العربي، ومن أبرز رواد النقد في بلادنا اليمن، وله عدة دراسات أدبية في الشعر والقصة والرواية، وشهرته تغني عن التعريف به، في الأيام الماضية كتابه “عمالقة عند مطلع القرن” الذي ضمّنه دراسات عن أبرز رواد الأدب والشعر في الوطن العربي في بدايات القرن العشرين، وهم: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وطه حسين، وعباس العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وأبو القاسم الشابي.
ولا يخفى بأن المقالح من أنصار المدرسة العقلانية الحداثية، ومن دعاة التجديد في الشعر والنثر، لكن الذي لفت انتباهي هو إنصاف المقالح في نقاش الشخصيات المذكورة والقضايا المطروقة في كتابه، وسلامته من التحيز والميل، أو المجاملة على حساب الموضوعية، ولم يبخس الناس أشياءهم، ما جعله يذكر بعض القضايا التي لم يجرؤ أن يذكرها غيره خاصة وأن كل العمالقة من مصر سوى الشابي، وكثير من الدراسات المصرية تهاب أن تطرح بعضًا مما طرحه المقالح في كتابه’’.
وأنا في هذه العجالة ذاكر نماذج مما أورده المقالح، إسهامًا منِّي في الدفع بعجلة النَّقد شبه المعطلة في بلادنا اليمن، وطرح عينات للنقد الجريء الذي يساعد في تطور العلم والأدب.
القاسم المشترك
أهم ما طرحته آثار هؤلاء العمالقة حاجة الوطن العربي إلى التحديث في نمط الحياة وطريقة التفكير، ولقد كان القاسم المشترك بين الاتجاه التنويري والاتجاه المحافظ على حد سواء هو الهمُّ النهضوي. (ص٧).
الجدل الأدبي
يرى المقالح أنه بالرغم من اتساع مساحة الجدل وتنوع دلالاته وصيغته واستمراريته، قد تخلف من ذلك الجدل – الذي شارك فيه المحافظون والمستنيرون على السواء – تركة طيبة لا نزال نسترجعها باحترام عميق، ونقف إزاءها بإجلال أعمق. فقد أثبت الجانب الموضوعي من ذلك الجدل الضروري والمفيد أن الخصام مع التراث أو التنكر له، أمر مخالف لطبيعة الحياة والبشر، كما أن الخصام مع الجديد والتنكر له لا يقل مخالفة عن لطبيعة الحياة إن لم يكن أكثر خطورةً. (ص٩).
شوقي وحافظ.. أيهما أكثر شاعريةً؟
كان شوقي – بلا أدنى ريب – أقدر من رفيقه حافظ على الاقتراب بالشعر من روح العصر، ولقد ولد شوقي أكثر استعدادًا من حافظ بيكون شاعرًا، ولا دخل للبيئة المترفة أو البيئات الجديدة التي تنقل شوقي بين ظهرانيها، وهذا الاستعداد الخاص وهو ما يسمى بالموهبة والتفرد يلعب دورًا رئيسا في التكوين الجوهري للفرد. وليس في هذا الموقف المنصف لشوقي ما يسيء أو ينتقص من قدر حافظ الذي كان قد اعترف بهذا الفارق، رغم الدسائس والتعصب ومحاولة تحويل حياة الشاعرين إلى ميدان صراع. (ص١٥).
نمطان من الكتَّاب في حياتنا المعاصرة
النمط الأول: ينتمي إلى الجديد أو يدعي الانتماء إليه ويعلن نفسه ثائرًا باسم الجديد، ثم لا يلبث هذا النمط أن يتوقف عن ادعائه، بل ويتراجع إلا أن يصبح صنمًا من أصنام القديم الذي حاول تحطيمه. والنمط الثاني: الثائر الموضوعي الذي يختار طريق التجديد بغير مغالاة في ثورته، أو النقمة أو السخرية أو الإثارة، ويهتم بالتقييم الموضوعي، والترحيب بكل إضافة جديدة مهما كان قدرها، لا يساير ولا يجامل ولا يتغاضى عن الأخطاء، لكنه لا يضخم الأخطاء ولا يحتقر المبدعين مهما كان حظهم من الإبداع. ولقد كان العقاد نموذجًا للنمط الأول، وكان طه حسين نموذجًا للنمط الثاني. (ص٢٢).
مفهوم التجديد عند شوقي وحافظ
مفهوم حافظ للشعر والتجديد هو مفهوم شاعر إحيائي ينظر إلى الماضي أكثر من الحاضر، أما المستقبل فهو لا ينظر إليه أبدًا. اما عند شوقي فإنه لم يخضع شعره لمفاهيمه، ولقد خاف أن يفاجئ معاصريه بما لم يألفوه، فتحول تجديده إلى مسايرة وخضوع، حيث حاول إخفاء قدرته على التحديث وهرب عمدًا إلى القديم، ووجد صعوبة في لجم تمرده على القديم. (ص٢٦، ٣٩).
ادعاء حق الوصاية على الفكر الإسلامي
من حق خصوم طه حسين أن يتصوره كما يشاؤون، ملحدًا ومبشرًا، ومتمردًا هادمًا، ومن حق أنصاره أن يتصوره أيضًا كما يشاؤون، مفكرًا إسلاميًّا مستنيرًا، وأزهريًّا متمردًا.. ومن حقهم أن يتقبلوا أفكاره كلها أو بعضها، وأن يرفضوها كلها أو بعضها، إنما ليس من حق أحد أن يدعي الوصاية على الفكر الإسلامي، أو يسعى إلى أن يصوغ هذا الفكر الواسع الرحب على شاكلة أفكاره هو، وفي حدود قدراته العقلية والنفسية. (ص٤٦)
طه حسين.. والشك الديكارتي
أشاع طه حسين في كتابه “في الشعر الجاهلي” زاعمًا تأثره بالمنهج الديكارتي، ولم يكن في كل ما ذهب إليه من آراء في هذا الكتاب إلا ناقدًا عربيًّا أزهريًّا، وهو أقرب الكتب إلى المنهج الأزهري، وأشدها ارتباطًا بالأساليب القائمة على “الفنقلة” وتقليب الآراء على وجوهها. أما ما زعمه لنا طه حسين نفسه وما ردده بعض النقاد من أنه اصطنع أسلوب المنهج الديكارتي القائم على الشك ففيه من المبالغة والظهور بمظهر الأخذ بأساليب البحث العلمي الحديث ما لا يقل عن مبالغة خصومه، ذلك أن منهج ديكارت في الشك فلسفي ومنهج طه حسين أدبي صرف، شك الأول وسيلة لليقين وشك الآخر وسيلة للإنكار. (ص٥١)
خصومة العقاد
لا ينسى العقاد خصومه ولا يرحم أحدًا، ولا يتردد في أن ينعت أكبر الكتّاب وأبرزهم في عصره بالسمسار، وكل الذين يختلفون معه سماسرة أدب وملفقون وجهلة لا يستطيعون أن يحسنوا قراءة بيت أو بيتين من الشعر قراءة صحيحة. (ص٦٤)
هل كتب العقاد شعرًا؟
لا ينتقص من قدر العقاد أن كان شعره لا يرقى إلى مستوى شعر الشعراء الكبار، أو أن لا يكون شاعرًا على الإطلاق. إن بين العقاد والشعر ما بين شوقي والنثر، وكون الأستاذ عباس العقاد يفتقر إلى الموهبة الشعرية أمر لا يخالجني فيه شك. وعندما وقع في يدي أحد دواوينه وهو (وحي الأربعين) قبل ربع قرن أدركت من يومئذ أن العقاد ليس شاعرًا، ولم أستجب في أي يوم لما كان المعجبون بشخص العقاد يكتبونه عن جمال شعره وقوة تعبيره.
هل كتب العقاد شعرًا؟
وبعض النقاد – وأقصد بهم أولئك الذين ربطت العقاد بهم صلة الإعجاب ورأوا فيه أعجوبة الأعاجيب – هؤلاء النقاد عندما يتحدثون عن المدارس الأدبية وشعرائها نجدهم يفردون للعقاد مدرسة خاصة ليس لها وجود في تاريخ الأدب العربي والعالمي، وهي مدرسة الديوان، نسبة إلى كتاب “الديوان في النقد” الذي أصدره العقاد مع زميله المازني. (ص٦٥، ٦٧، ٦٨، ٧٦)
نتاج طه حسين الإبداعي
تجاهل طه حسين شعر زميله العقاد، وكان طه حسين مثله في كثير من إنتاجه الإبداعي تطبيقًا لا يرى ما يروق له من إنتاج روائي وقصصي فيلزم طه حسين نفسه بالتصدي لإيجاد المثال التطبيقي، فيأتي كشعر العقاد غثًّا باردًا ليس فيه من التعبير سوى الجرأة على التعبير. (ص٩٢)
خسارة الأدب لسيد قطب
ولقد كان الأستاذ سيد قطب ناقدًا موضوعيًّا كبيرًا، وأحد أبرز المبدعين الذين خسرهم الأدب وأضاعتهم السياسة. (ص٩٣)
وقال المقالح أيضًا بعد أن نقل رأي سيد قطب في تحديد ملامح شاعرية العقاد وأبعاد تجربته: “أسفي على الناقد الكبير الذي خسرناه في سيد قطب”. (ص٩٥)
الحب عند الرافعي
الحب عند الرافعي هو حيلة النفس إلى السمو والإشراف إلى الشاطئ المجهول، والنافذة التي تطل منها البشرية إلى غاياتها العليا، وهو مادة الشعر وجلاء الخاطر وصقال النفس، وينبوع الرحمة وأداة البيان. والحب عن الرافعي وسيلة وليس غاية، وسيلة يستنزل بها الوحي الأدبي، ويستدعي بها سحائب الفن.
ولقد ذكر سعيد العريان في كتابه “حياة الرافعي” قصة حبه المشهورة، ولو أن العريان كتب هذه الدراسة في مثل هذه الأيام فإنه سينزع من بين صفحاتها الكثير ويطوي الأكثر، ولن يجرؤ على الإشارة إلى الحب في حياة الرافعي، لا حرصًا على الرافعي ووفاء له، وإنما خوفًا من أن يتهمه غلاظ الأكباد بالترويج للحب والدعوة للابتذال.
وهذا الشعور المبالغ ليس من تأثير الموروث كما يذهب إلى ذلك بعض الدارسين المتعجلين، فقد كان كبار الشعراء وعظام الكتاب، بل وكبار الفقهاء لا يترفعون عن الحديث عن الحب وعن الخوض في بحاره العميقة، فمن أين جاءت إلينا وهبّت على ثقافتنا رياح هذا التزمت؟! (ص١٣٩ – ١٤١)
أسلوب الرافعي في نقد طه حسين
ما كادت العاصفة تثور حول كتاب “في الشعر الجاهلي” إلا والرافعي في مقدمة المدافعين عن القرآن والشعر الجاهلي واللغة، واستطاع أن ينتقم من طه حسين ويتحول بالخصومة عن مسارها الأدبي إلى مسارات أخرى أكسبته بعض التأييد المؤقت، لكنها جنت عليه كأديب ووضعته خطأ أو صوابًا في قائمة السلفية، ليس لأنه يدافع عن القرآن ويقف تحت رايته، فالقرآن رمز بقاء الأمة العربية وصوت وجودها الخالد، وإنما لأن الرافعي استخدم في المعركة وفي أساليب التهييج لغة يمقتها العصر, ويرفضها الذوق في كل العصور، فضلًا عن تعابير التكفير والتفسيق والتضليل. (ص١٩٣).
إلى هنا يقف اليراع بعد عرض هذه المختارات التي إن اتفقنا مع كاتبها أو اختلفنا معه فيها، فإن ذلك لا يقلل من فائدة سلوك مثل هذه الطريق في النقد الواعي والمنصف للنتاج العلمي والأدبي والشعري في محيطنا العربي، وعالمنا الإسلامي الشاسع.
*المرجع:
– عبدالعزيز المقالح، عمالقة عند مطلع القرن، منشورات دار الأدب، بيروت، الطبعة الثانية، ١٩٨٨م.