أدب

حقيقة الأدب

الأدب هواية شريفة، ورتبة إنسانية منيفة، لا تتربع على هامتها إلا النفوس التي عرفت الجمال في أحسن صوره، وذاقت رحيق الحسن في أصفى كؤوسه، وفهمت دقائق التأثير على النفوس في وسيلة الفهم والإفهام في أبهى قوالبها، وأرق أساليبها.
إن أهل هذه الحرفة العقلية قد خاضوا عباب البيان حتى وصلوا إلى أعماقه وصافحوا درره السنية في محاراتها، وغيرهم وقف على الشواطئ.
غير أن الأدب لا ينحصر في إحسان صوغ العبارة، واختيار أرق الكلمات الجذابة، واصطفاء أجزل المباني الجذابة، واعتلاء أرقى الأساليب وأبلغها، والقدرة على إيقاف العقول على أطلال جمال الكلمة التي تسرع النفوس المشوقة إلى عبِّ معانيها قبل مبانيها؛ لحسنها وطيب محتواها.
نعم هذه صورة مشرقة من صور الأدب، وليست كل الأدب.
فالأدب أيضًا يعني: أن يحسن المرء اختيار المادة الأدبية -للقراءة أو النشر- وانتشالها من بين الركام، واجتباء كرائمها من بين الزحام؛ فقد قيل: “شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله. وقال الخليل بن أحمد: لا يحسن الاختيار إلا من يعلم ما لا يحتاج إليه من الكلام”.
وقال الشاعر:

قَدْ عَرَفْنَاكَ بِاخْتِيَارِكَ إِذْ
كَانَ دَلِيْلًا عَلَى اللَّبِيْبِ اخْتِيَارُهُ

ومن الأدب أيضًا: أن يفهم القارئ أو السامع أساليب الجمال الأدبي، ويميز بين نفيسه وخسيسه، وحُرّه ورقيقه، فيدع هذا ويقبل على ذا.
ومن الأدب أيضًا: أن يجد في مقروئه أو مسموعه الأدبي لذة وارتياحًا تعجز الكلمات عن الإحاطة برحب سرورها، فتراه في ساعة النشوة مع النص مسلوب الذهن عن غيره، يعيش هناك خائفًا من فجأة الوصول إلى مرفئ النهاية السعيدة.
ومن الأدب كذلك: أن يجد الإنسان من نفسه ميلاً إلى رياض الأدب، وشم عبيرها الفواح من غير سآمة، ومتى شغل عنها مدة شعر بظمأ لا يروى إلا في تلك المناهل الثرة.
ومن الأدب: أن تبقى الذاكرة الجمعية لديه مشحونة ببقايا صالحة من قوالب ذلك الجمال الأدبي- أبيات رائعة، عبارات رائقة- شاهدةً برسوخها في الذهن بأن النفس قد وردت تلك الموارد الصافية.
ومن الأدب كذلك: أن تنأى النفس عن الأدب المبتذل، والقول الرخيص الذي يعادي الفضيلة، ويحفز على الرذيلة، ويقدح زناد تهييج الغرائز، ويجرح مشاعر الطهر.
ومن الأدب: أن تدلهم على أفقك دياجي الهموم فتهرع تخففًا منها إلى مطالع الأدب، فتجد لنفسك هنالك صباحًا متلألئًا يتنفس بالإشراق الجميل، وثمت تنقشع تلك الحجب الكثيفة من النفس، فتعود من هناك مبتسمة الضمير، منيرة الخاطر.
ومن الأدب كذلك: أن تكون بينك وبين الأدب الجميل شعره ونثره علاقة حب طاهر، إذا سمعت بحرف من حروفه ودت أعضاؤك لو أنها كلها مسامع؛ لتتلذذ بما تسمع كما تلذذت أذناك، وإن أطليت على لوحة فنية كلمية منه فسررت بها؛ تمنت تلك الأعضاء لو كانت كلها عيونًا لتشارك عينيك في ذلك السرور.
ومن الأدب عندي إذا انتسبتُ إليه حقًا: أن يكون في مكتبتي عناوين أدبية مختارة، تشرق من كثرة مصافحتها، وتسترخي وتتثنى أوراقها من إدامة تقليبها، لا أن يعكر صفحاتها الجميلة كدر متراكم ناتج عن عبور خيول الغبار التي لا تغزو إلا الساحات المهجورة.
ومن الأدب أيضًا: أن نراك تقطف من حدائق الأدب زهور الاستشهاد عند المناسبة، أو تحاكي ما قرأت أو سمعت عند كتابتك أو خطابك، فذاك يدل على أن وَرَاءَ الأكَمةِ مَا وَرَاءَهَا، وأن تدفق القطرة يخفي خلفه اطلاعًا وحبا.
هذا هو الأدب بمعناه العام –في ظني-وهذه صورته من جميع جوانبه، وحقيقته في شتى نواحيه، فما أعظمه من مجال، وما أجمله بين كل ألوان الجمال!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى