أدب

خبال الذوق اللغوي المعاصر

إذا أردتَ أن تعرفَ موطنَ الخللِ في ألسنةِ الناس ونفوسِ المتكلمين وأذواقِ الكاتبين، فلا تبدأْ بتَعداد الأخطاء النحوية، ولا بإحصاءِ الكلمات الأعجميةِ، فإنك إن فعلتَ ذلك كنت كطاردٍ ظلًّا لا يُمسَك، وإنما السبيلُ أن تنظرَ أوّلا إلى النفسِ التي تقبل الكلامَ والعقلِ الذي يُدركه، والذوقِ الذي يحكم عليه، فإذا وجدتَ النفسَ قد استرخصتِ الجيّدَ واستلذّتِ السخيفَ، وحَسُن عندها ما كان عند ذوي الطبع مستقذرا، فاعلم أن الفسادَ قد دبّ، وأن العلّةَ ليست في ظاهر العبارة ولكن في باطن الإحساس!

وإني لأزعم أنّ الذوقَ اللغويَّ في أصله ليس شيئا يُتعلَّم ويُحفظ عن ظهر قلب، ولا يُلقّن كما تُلقّن القواعدُ الهندسيةُ، وإنما هو ثمرةٌ لما استكنّ في القلب من فطرةٍ، وما صُقِل في النفس من عادةٍ، وما امتزج في العقل من أنسٍ باللسان وصحبةٍ للبيان؛ فإذا اختلّتْ هذه الثلاثةُ ضعُف الذوقُ، وزاغ البصر، والتبس الحسنُ بالقبيح.

وقد كان العربُ يومَ كانوا على الفطرة الأولى يعرفون الكلمةَ المستكرَهةَ ولو لم يعرفوا السببَ، وينفِرون من الجملة المُلتويةِ وإن لم يَدرُوا وجهَ التوائِها، تجد أحدَهم يُقيم الميزانَ في شعر غيره وإن لم يكتب بيتا، ويقول: هذه فَخمة، وهذه ركيكة، وهذه تُحرّك النفس، وتلك لا تُوقظ شيئا، وما ذاك إلا لأنهم قد سكنوا البيانَ سُكنى الروح في الجسد، لا يفرّق بينهما فاصل، ولا يحول دونهما حائل.

فانظُر الآن: كيف صار المرءُ يقرأ السقيمَ ولا يتحرّك له حسّ، ويسمع المبتذلَ ولا يثور له طبع، وقد يُعجَب بما لو قُرئ على الأعرابيّ لغَضب، ولو أُنشد في مجلس الجاحظ لرُمي صاحبهُ بالحُمق، أتظنّ أن العلّة في الكلمات؟ أم تراك تراها في التراكيب؟ إن الأمرَ أعمقُ من ذلك، وأخفى من أن يُرى في اللفظ وحده، فموطنُه في تلك الحاسّة الباطنة التي تُميز، وفي ذلكم الفَهم الذي يَقبل أو يَرفض، فإن أفسدتْه العاداتُ وشوّهته التربيةُ وغُذّيت أذنه منذ الصغر بالسوقيّ والركيك نشأ لا يعرف الجمالَ إلا كما يعرف الأعمى الألوانَ، وربما عارض القصيدةَ الجيّدة بكلامٍ هزيل، وزعم أنه أبلغُ منها وأفصحُ، فإن قلتَ: ما الذي غيّرَ الحالَ؟ وما الذي أطفأ ذلك النورَ في القلوب، وجعل الناسَ يستطيبون القبح ويستبشعون الحُسن؟ فالجواب أنّ الذوقَ لا ينهض من تلقاء نفسه، ولا يقوم في النفس قياما صحيحا إلا إذا سُقِي من ثلاثةِ مواردَ:

الأول: السماعُ الطويلُ لنصوصٍ عالية، من قرآنٍ وشعرٍ وخُطبٍ وكُتبٍ، فيها سموُّ النفسِ، وصفاءُ المعنى، وتأنُّقُ العبارةِ.

الثاني: المعايشةُ لهذه النصوص بالتذوّق وليس بالترديد وحده، فلا يُكتفى بأن يُتلى القرآنُ، وإنما يُتأمّل فيه كيف رُكّبت عباراتُه، وكيف نُسجَ تصويرُه، وكيف التفّ المعنى حول المعنى، كلّ كلمة فيه على قدر، وكلّ لفظ فيه على وزن.

الثالث: الإعراضُ عن المُبتذل، وعدمُ الأُنس بالسوقيّ، والتبرّمُ من الركيك، ورفضُ العاميّ حتى في المجالس، فإنك لا تنتظر من لسانٍ عُوِّدَ الهُزال أن يُنطقَ فصيحا، ولا من أذنٍ ألِفَتْ سماعَ الرطانةِ أن تُطربَ للجيد!

ولقد أصاب هذا العصرَ من البلاء ما لو جُمِع ما وسعه كتابٌ، فقد رُفعت الجهالةُ إلى مقامِ العِلْم، وقُدّم الهازل في موضع الجادّ، وصار مَن يُجيد اللغةَ كمن يُمثّل دورا قديما لا يوافق العصرَ ولا يواكبُ تطوُّراتِه، ولا يَرضى عنه السوق، وأقبلت وسائل الإعلام بألوان من الكلامِ لا يُعرف لها وجه، ولا تُردّ إلى أصل، فيها من الركاكة ما يُسقم النفسَ، ومن التساهل ما يُذهب الهيبةَ، فإذا سَمِع الناشئُ ذلك من أول عمره وتلقّاه في المهد وفي الكُتّاب وفي المدرسة والبيت، فمن أين له أن يتذوّقَ ما لا يعرف، ويستحسنَ ما لم يُعوّدْ؟

وإذا أضفتَ إلى ذلك ما يجري في أقسام اللغة من التعليم المُجرد الذي يُلقي القواعدَ كأنها معادلات، ويطلب من الطالب أن يُعرب ولا يُدرك، ويحلل ولا يطرب، أدركتَ أن الذوقَ لا يقوم في مثل هذا المناخ، ولا ينبت في هذا التّراب، فإن اللغةَ إذا حُصرت في الحرف والنقطة، وفي الفاعل والمفعول دون أن تُزيَّنَ بجمال العبارة ودون أن يُفتحَ للطالب بابُ التذوّق؛ تحوّلت إلى رموزٍ لا حياةَ فيها، يُؤدّيها التلميذ كما يُؤدّي رقصةً محفوظة لا روحَ فيها ولا أثرَ.

والأدهى من ذلك أن الفصيحَ إن تكلم عُيّر، وإن كتب سُخِر منه، وإن دافع عن العربية قيل له: هذه لغةُ ماضٍ، والعصرُ عصرُ السرعة، والمضمونُ هو المهمّ، كأنّ الحُسنَ لا قيمةَ له، والبيانَ لا يُعتدّ به، والبلاغةَ عبءٌ يُلقى عن الكواهل لا وسيلةٌ لفهم الوحي، ولا سبيلٌ إلى عقل المعاني، فإذا صار الناسُ كذلك فهُمْ في معزلٍ عن أنفسهم، لأنّ اللغةَ ليست ألفاظا فحسب بِقدر ما هي وجودٌ، وكيانٌ، وسلطانٌ على الفكر، وحضارةٌ ناطقة!

فإذا أردتَ أن تُصلحَ فابدأ بالطفل، واغرس في أذنه الشعرَ الجيّد، واجعل القرآن يتردّد في بيته، وخاطبه بالفصحى تربيةً لا مُداهنةً، وعوّده أن يستقذرَ الركيكَ، وينتفض للسوقيّ، ويشمئز من الأسلوب الساذَج، واجعل في المدرسة كتابا لا يُدرّس ولكن يُقرَأ، من مختارات الجاحظ مثلا، ومقامات الحريري، ورسائل أبي حيان، فإن النفسَ إذا شبعت من هذا الغذاء استقامت، وإذا نُشّئت  على الرخيص صارت ميتةَ الحسّ كليلةَ الذوق.

وإنِّي لمُضطرٌّ وقد جرى القلمُ بمقدِّمةِ هذا الحديث أن أُبينَ لك أنّ مَرامي هذا المقال ليس أن يُحصيَ ما فسد من ألسنة القوم، ولا أن يُعِيدَ على سمعك ما قد وعيتَ من تغيُّر البيان واضطراب الميزان، وتهافُتِ ما يُسمَّى اليوم خطابا إعلاميّا أو منشورا ثقافيّاً، فذلك كلّه قد صار من الشهرة بحيث لا يخفى على الصبيّ في كُتّابه، ولا على العاميّ في سوقه، ولا على المتعلِّم في مدرسته، وإنما الغرض أن نُلقي الشعاع على العلّة الخفية التي غارَت في التربة، ونحاول أن نُقاربَ أسبابَ هذا الوهَنِ الدفين الذي تسرَّب إلى الذوق من جهة الذهن لا من جهة اللسان وحده، فإنَّ بين فساد الذوق وفساد العقل لحمةً وثقى لا تنفصم، وإذا ذهبتَ تتأمَّلُ اللسانَ المنكوسَ فاعلم أنّ وراءَه ذوقا معطوباً، وإذا استقريتَ الذوقَ المَجْدور فاعلم أن وراءه عقلاً قد نُقِضَتْ أركانُه وتخلَّعت دعائمه.

محمَّد الأنصاري والجهاتُ العشر أعلامُ هدًى على دُرُوبِ الإعراب 01 3 خبال الذوق اللغوي المعاصر

ولا يعزب عنك أنّ الذوق العربي لم يكن يوما زخرفا لفظيّا ولا صنعة تُنال بالتكلُّف والتدريب المجرد، وإنما هو صورةٌ من صور العقل الفطريّ حين صفا، ووجدانٌ إذا صفَت مواردُه واستقامت مسالكُه، هو فيضُ الطبع إذا سَلِم، ومَثارُ الفهم إذا استقام، وشعاعُ الروح إذا صُقِل، ولذلك تجدُك لا تُصيبُه في أهل كلّ لسان، ولا في أهل العربية كلهم، وإنما يَهبه الله مَن شاء مِن عباده إذا خلصت قلوبُهم، وتهذَّبت نفوسُهم، وطابَتْ معادنُهم، وصفت سرائرهم!

وإذا أردتَ أن تَستَبينَ وجهَ القول فاعرضْ لسانَ مَن نشأ في ديار العرب، وتكلّم بلغتهم، وقرأ شعرهم ونثرهم، ثم تُصيبك الدهشة من اضطرابه في التعبير، وعجزه عن نظمِ كلامٍ تستقيم له نبرته، وتتناغم فواصله، وتنسجم معانيه، كأنّك أمام آلةٍ تحاول أن تعزف بلا وتر، أو صدىً يردد كلاما لم يفقه له معنى، وإن سألته: لم عجزتَ؟ قال: ما قصرت في الحفظ، ولا توانيتُ في الاطلاع، وإنما ضاق بي اللفظ، وما درى المسكينُ أنّ اللفظ إنما هو رداء المعنى، فإذا ضاق رداؤُه فقد ضاق صدرُه، وإذا ضاق صدرُه، فما ذاك إلا من عِلّةٍ في القلب، وغُموض في النفس، وفسادٍ في الذوق!

وقد كنا – في القرون الخوالي – إذا نَشأ الغلامُ بين أهله سمع في البيت لسانا مستقيما، وتلقّى من المحيط عباراتٍ مهذبةً، وعبّر عن مكنونه بأساليبَ تشبه في سبكها ما يتلى عليه، فشبّ ولسانُه يشبه قلبَه، وقلبُه يشبه عقلَه، فصحّت له السليقة، واستقامت له الفطرة، وكان لا يُحتاج في تهذيبه إلا إلى تنبيهات يسيرة، ولفتات خفيفة، فإن زاد طلبُه قويَ سلاحُه ونفذت بصيرته، وأمّا اليوم فقد غلب السقم، واستُبدل بالسليقة مزيجٌ هجينيّ، لا يطرب له وجدان، ولا يثبت على محكٍّ من البلاغة؛ ترى الصبيّ يفتح عينَه على لحنٍ في البيت، ولحنٍ في المدرسة، ولحنٍ في المذياع، ولحنٍ في السوق، حتى يُصبح للّحن في أذنه دويٌّ مألوف، وللصواب وقعٌ منكر يُقابَل بالاستهجان ويُردّ بالاستخفاف!

وإنك واجدٌ من بليغ كلام أئمّتنا القدماء –من الجاحظ إلى أبي علي الفارسي إلى ابن جني إلى عبد القاهر إلى السكاكي إلى ابن هشام– أنّ الذوقَ ليس صناعة تُطلب كما تُطلب المهارات، وإنما هو ثمرةٌ للعيش مع اللغة في أنقي صورها، والمخالطة لنصوصها في أصفى مواردها، والترداد على معانيها حتى يُصبَغَ القلب بصبغتها، ويجري على اللسان جريانَ النفس، ولذلك ما كانت البلاغة عندهم حُسنَ لفظٍ فحسب، ولا جودةَ سبكٍ في الكلام فحسب، فهي إشراقُ معنى، ووضوحُ قصد، وتمامُ صورةٍ تُخاطب العقلَ كما تُخاطب السمع، وتستثير الفهمَ كما تملأ الوجدانَ.

ثم زاد الطين بِلَّة أن أُقحمَ في ألسنتنا ما لا يُفهم، وشُجَّ في أذهان أبنائنا خَطبُ العاميات الفاسدة، والمصطلحات الممسوخة، والتراكيب المتكسّرة، مما لا يُحسن سماعُه، ولا يُرتجى فهمُه، ولا يُوثق بمعناه، وإنّك لتسمع الخطيبَ في منبره، أو الكاتبَ في مقاله، أو الأستاذ َفي قاعته، فما تظفر عند أكثرهم بجملةٍ تامّةِ المعنى متينةِ السبك واضحةِ الدلالة لا اضطرابَ فيها ولا عِيّ، وهذا بابٌ من البلاء عظيمُ الضرر، لأنه فسادٌ في الفكر لا في اللسان فقط، وتفكُّكٌ في المدارك، وشرخٌ في عقل الأمة لا يُرمم إلا بإعادة اللسان إلى موضعه الأصيل.

وإنّي أعلمُ أنّ مما يُبتلى به القارئُ اليوم أن يُقال له هذا فيُصغي إليه ساعةً ثم يعود إلى عادته، لا يلتفت إلى الذوق ولا يهتدي إلى البيان، ولا يتحسس ما فاته من جمال التراكيب، وفخامة الألفاظ، وانسجام الأنغام، وإنما يفرح بما نشر، ويتباهى بما كتب، وإن كان في الميزان البلاغيّ لا يبلغ شطرَ جملةٍ من جُمَل ابن المقفّع، أو سطرا من أسطر أبي حيان التوحيديّ، أو فاصلة من فواصل عبد الحميد الكاتب!

ولَكَ أن تنظرَ لو شئتَ التأمّلَ إلى جملةٍ من الجُمَل تُبثُّ على ألسنة الكُتّاب، وتُلقى في المحافل، ثم تُقرَأ كما تُقرَأ النشراتُ، وتُنسى كما تُنسى الإعلاناتُ، لا تستوقف الذوقَ ولا تُحرك في النفس رغبةً في الاستزادة، ولا تُثير في القلب لواعجَ الطرب، كأنها من جنس القول الذي لا حياةَ فيه ولا رُوحَ ولا حرارة، تَمُرُّ بك مرَّ الزّبد الذي لا يستقرّ، وما ذاك إلا لفقدانها سرّ التركيب، وانعدام نسب التأليف، إذْ الكلمة فيها لا تُرى في موضعها الذي يُنتظر منها أن تُسْبِغَ عليه لونا من المعنى أو زينةً من البيان، ولا الجُملة تُبنى على مقتضى التآخي بين الألفاظ، والتلاحم بين الأجزاء، كما يُبنى الجدار على سويةٍ من الهندام والإحكام!

محمَّد الأنصاري والجهاتُ العشر أعلامُ هدًى على دُرُوبِ الإعراب 01 خبال الذوق اللغوي المعاصر

وإنِّي لأحسب -وما كنتُ بالمُغالِي- أن الذوقَ العربي في هذا العصر قد نُكِّس على رأسه، وجرى في غير مجراه، لأنّ الناسَ تركوا التلمذةَ على لسان العرب الأولين، وزهدوا في تتبّع طرائق البلغاء، وغَفَلوا عمّا كانت عليه العربُ من الاحتكام إلى الطبع، والأنفة من القُبح، والنفور من التّكلف، فوقعوا في شَرَكِ القول المُهْمَل، والتراكيب المُتراخية، واحتفلوا بالسّجع المتكلّف، والعبارات المحشوة، وأحسبهم -لو طُلِبَ منهم أن يُفرّقوا بين النظم البليغ والنظم المليء- ما وَجَدُوا إلى ذلك سبيلًا؛ إذ قد ضاع منهم الميزان، وخَفِيَ عليهم مناط الجمال، وما ذاك إلا لأن الذوقَ العربي إنما يُرَبَّى بالتنشئة على المحفوظ العالي، لا بالحشو المترجَم، ويُغذّى بالقرآن والحديث وعيون الشعر، لا بالروايات الهزيلة والمقالات الرخوة، ثم انظر كيف استُبدل ببيان ابن قتيبة وسجع الحريري وتراكيب عبد الحميد وصفاء سحر الجاحظ لغةٌ هزيلةٌ تُقَطَّعُ فيها الجملة كما تُقطع الخُطى المرتجفة، وتُركب الألفاظ فيها كما تُركب الأحجار بلا هندسة، ثم يُقال: هذه هي الكتابة الجديدة، وهذا هو أدب اللحظة! كأنّ الأدبَ لا سلطانَ للقديم عليه، ولا نسبَ له في مواريث اللغة، ولا ظلّ له في عقول الأسلاف، وقد رأيتُ -وما أنا بمُستبدٍ بالرأي- أنّ هذا الخللَ في الذوق ليس مردّه إلى فساد الطبع وحده، ولا إلى العجلة في النظم فحسب، وإنما هو أثرٌ من آثار انقطاع السند بين الكاتبين وبين الأصل العربي الصحيح، إذ لم يعودوا يتلمّسون مواقع الجمال كما كان الأوائل، ولم يُعنوا بالتفريق بين المليح والساقط، ولا بين الصحيح والمدخول، ولا بين ما يُطرب الأذن وما يُحدِث فيها الغثيان، فساووا بين البياض والكدرة، وبين الماء السلسبيل والماء الآجن، وظنّوا أنّ كلّ كتابة تُدعى بيانا، وكلّ تركيبٍ يُعدّ بلاغةً، وكلّ وضوحٍ هو فصاحة، وما دَروا أن الفصاحةَ شرطُها التناسب، وحسنُها في التآلف، وعلوُّها في الطبع السليم إذا انفعل للمعنى كما ينفعل الطّيبُ للريح، فانظر -رحمك الله- كيف يُكتَبُ اليوم في الصحف والمجلات، وكيف يُخاطَبُ النشء في المدارس، ثم كيف تُلقى المحاضرات، وتُبَثُّ الندوات، فإن وجدتَ في ذلك صورةً من صور البيان العالي، أو سُنَّة من سنن النظم العربي القويم، أو بقايا من فحولة العرب في كلامهم، أو ظلالًا من سحر الأوائل في تأليفهم، فاشهد أنّ ما أقول فيه رَجْمٌ بالغيب، وأني قد أسرفتُ في التشاؤم، وإن رأيتَ ما أراه، فاعلم أن الأمرَ جِدٌّ لا هزل فيه، وأنّه ما لم يُتداركْ هذا الذوق بالعودة إلى منابع الطهر البياني، وما لم يُربَّ النشء على كلام العرب، وما لم تُـحْيِ المدارسُ مقامَ البيان كما أحيَتْ مقام الحساب والهندسة، فلن تزال اللغةُ -وإن بقيت ألفاظُها- تتيه في غير أرضها، وتُتداول بأيدٍ لا تعرف كرامتها، وتُكتب بأقلامٍ لا تُبصر حقيقتها، وتُرْتَكَب فيها الجرائمُ كما تُرتكب في الأرض التي لا سلطانَ فيها ولا قانونَ!

فإذا تأملتَ ما مضى من فصول القول، وتدبّرتَ مواقعَ الكلام، ونظرتَ في شواهد المذاهب، علمتَ أنّ الذوقَ في اللسان ليس نزوةً تتبع الهوى، ولا طبعاً مسترسلًا لا ضابطَ له، ولا تأنّقا موكولًا إلى المتحذلقين والمتفيهقين، وإنما هو حصيلةُ تفاعل بين عقلٍ يزن، ونفسٍ تعي، وأذنٍ تتلقّى الحسنَ من الكلام كما تتلقّى العين الحسنَ من الصور، وكما يتلقى القلبُ السليمَ من المعاني، وما أصاب ذوقَ اللغة في هذا العصر من خللٍ بيّنٍ ومرضٍ مستحكم، إنما جاء من فقدان هذا التفاعل، واضطراب هذه القوى عن سننها، حتى صار الناس لا يفرقون بين الجملة الركيكة والجملة المحكمة، ولا بين الأسلوب الشاعر والأسلوب الهازل، ولا بين ما يُحفظ لجلاله، وما يُنسى لسخفه، حتى صار أحدهم إذا أعجبته كلمةٌ ساقطةٌ من فم مغنٍّ، أو سجعٌ سقيمٌ من تغريدةٍ، توهّم أنّه أصاب البيانَ، وتبجّح بجهله كأنّه بلغ المدى في الفصاحة والبيان!

وقد عرفتَ مما سلف أن الذوقَ لا يقوم إلا على قراءةٍ ممتدةٍ للنصوص العليا، وعلى صحبةٍ دائمةٍ للكلام العالي، وعلى مخالطةٍ طويلةٍ لأئمة البلاغة والبيان، فإذا تسرّبت العامية إلى ألسنة الناشئة، وأُدخِل الحشو في كلام المتأدّبين، واختلطت لغة الرسائل بلغة التغريدات، وتقدّم الجَهلة حتى زاحموا حملةَ البيان، فليس من عجبٍ أن تنقلبَ الموازينُ، وتضيعَ المقاييس، وتؤول الحال إلى ما تراها عليه من الانحدار في الخطاب، والتسطيح في المقال، والاختزال في المعاني!

وما أحقّ أهل العربية اليوم أن يفيقوا من سُبات الذوق، وأن ينفضوا عنهم غبار التسرّع والتهوّر في التعبير، وأن يعودوا إلى منابع البيان الصافي، يغترفون من معينها، ويتربّون في حِماها، ويربّون بها أبناءهم وتلامذتهم، حتى تطيبَ لهم العبارة، وتصفوَ لهم الفكرة، ويتّحدَ فيهم الفكر والبيان، كما اتّحد في أسلافهم الذين ورثوا النبوة في لسانها، وجاهدوا الجهل بالكلمة الصادقة، وأقاموا الدين واللغة معا في محراب واحد، فإن كان في الأمة بقيّةُ حياة فلن يبعثها إلا البيان، وإن كان في الفكر بقيّةُ طُهر فلن يطهّره إلا اللسان، وإن كانت للغة بقيّةُ سلطان فلن يُسترجع إلا بذوق يُعرف به الحسن من القبيح!

وللحديث صلة…!

‫3 تعليقات

  1. ما شاء الله تبارك الله
    لعمري إن هذا المقال لهو بذاته شهادة تصرح بجلاءٍ ووضوحٍ تامٍ عن تمام الذوق اللغوي وعُلُوِّه، وصفاء السليقة ونقائها، وكمال التشبع بسوامقِ البديع الفريد من تراكيب لغة العرب، وهو أيضاً مظهر من مظاهر طول المدى الذي قضاه الكاتب في ظلال موارد الذوق اللغوي الرفيع الثلاثة المشار إليها في صدر المقال، ولست مبالغاً عندما أقول شهادة لله: إن لغة هذا المقال ومتنه -مع غض الطرف عن بعض محتوياته التي قد أخالف كاتبه في بعض ما ذهب إليه فيها- لهما أجمل ما قرأت من كتابات المعاصرين منذ سنوات طويلة وأنا أكاديمي منغمس في القراءة والكتابة على مدار أيامي ولياليَّ، وإن كان هناك ما أتذكره عند قراءة نصوص سامية كهذا النص فهي كتابات حبيبنا المميز وأديبنا المبرز الدكتور خالد بريه اليماني- فلله درُّك -يا كاتب المقال- ودرُّ من ربَّاكَ ونشَّأَكَ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى