في إحدى محاضراته بجامعة السوربون، وجّه رولان بارت طلبته إلى أن يوجزوا روايةً تقع في مئتي صفحة إلى خمسين صفحة، وبعد أسبوع طلب اختصارها في عشر صفحات، ثم في صفحة واحدة، حتى طلب من كل طالب اختزالها في كلمة واحدة.. ثم سألهم عن عددهم فقالوا: عشرون.. فقال: ليقرأ كلٌّ الكلمةَ التي انتهى إليها، ففعلوا.. فقال حينئذٍ: هذه الكلمات العشرون هي بنية الرواية الأساسية.
ما الرواية، وما قيمتها الحقيقية، وما الذي تُفضي إليه مطالعتها وتعقّب جديدها؟ أسئلة طالما أناخت مطاياها في نفسي، وعديدة هي المرات التي شاركتها المقرّبين من المهتمين بالأدب والثقافة، مشكّلة لسنوات متطاولة سياجا بيني وبين هذا الصنف الأدبي، دون أن أُقدم على تجاوزها والإجابة عنها بأقصر طريق وأبلغه عبر الاشتباك المباشر معها وقد بسطت سلطانها حتى أزاحت الشعر _أو كادت _ من صدارة الذائقة الأدبية.
أنهيتُ قراءة رواية دانشمند للأديب الصحفي أحمد فال الدين منذ حين، ومنحت نفسي _مذّاك _ فسحة طالعت فيها عددا من المؤلفات في معارف شتى، دفعا للتحيّز والنزوع العاطفي الذي لا ينفك ملازما القارئ، ولاسيّما من كان الغزالي في ذات نفسه استثناءً وشخصية مركزية قارّة في الذهن، فلا مأمن حينئذ من أن يتوارى النقد وراء حُجُب الرأي والانطباع الذوقي، وقيل إن من جنايات النقد الحديث أن عبارات مثل (رواية جميلة وسرد ماتع ونفس روائي آسر) هي فضل كلام لا يعرف صاحبه من أدوات تحليل النص الأدبي قبيلا ولا دبيرا.
بالحديث عن البنى الرئيسة في هذا المتن؛ تتجلّى العلاقة الشائكة بين المثقف أو العالم بالسلطة؛ بحضور مبثوث في تضاعيف الرواية، فذا وزير ألمعيّ يعقد حلفا استراتيجيا مع شخصية علمية هي الأبرز في زمنه لإنشاء جبهة ممانعة للخطر المحدق من قلعة الموت، وتبعث هذه العلاقة الفريدة حقيقة ما كان عليه الأمر بين المثقف والسياسي في محطات بارزة من التاريخ الإسلامي، لنرصد مبدعين كأبي تمام والمتنبي وأبي نواس والفارابي وشعراء النقائض وغيرهم؛ بأنهم كانوا ذوي حظوة في قصور الحكم، حتى أن ابن رشد الذي بالغ المستشرقون في تضخيم ما وقع له، ومن ورائهم فضاء ثقافي أسلم قياده وعقله لما وراء الماء؛ كان أثيرا ومحفودا ومقرّبا في البلاط.. وفي هذا يقول مصطفى صادق الرافعيّ في كتابه الموسوعيّ تاريخ آداب العرب:
(وفي أيام يعقوب المنصور بن يوسف هذا نالت أبا الوليد ابن رشد فيلسوف الأندلس المحنة الشديدة التي أظلمت أسبابها على الأقلام ظلمة المداد، وأقام لها الكتاب من كلامهم مناحة وألبسوها من صحفهم ثياب الحداد؛ وقد تكلم عنها الكتبةُ العرب، كالذهبي والأنصاري وابن أبي أصيبعة وعبد الواحد بن علي التميمي صاحب كتاب “المعجب”، وكان يومئذ حيا، ثم تناولها كذلك المؤرخون من الإفرنج وبسطوا فيها العبارة، كالفيلسوف رينان وغيره، وهم إنما حاروا في أسبابها؛ لأن ابن رشد كان قاضي القضاة، وكان مقربًا عند يعقوب وأبيه حتى إن يعقوب جاوز به مجلس أخصائه وأدناه فوق ما يؤمل).
ومضى قائلًا: (ولكن أكثر أولئك لم يرجعوا في سبب هذه المحنة إلى سيرة يعقوب هذا؛ لأنها لا تخرج عن أن تكون خلقًا من أخلاقه أو نزوة لبعض هذه الأخلاق، وإنما أعمال المرء بخيرها وشرها ميزان، وسيرته اللسان منه، فهي تنطق بصواب التمييل بين الكفتين وتدل على حقيقة الترجيح، وقد أسلفنا من أمر هذه السيرة ما يتعين معه الحكم بأن الأمير يعقوب لا يبغض الفلسفة مستقيمة في كتبها، ولكنه يبغضها معوجة في الألسنة، إذ تزيغ بها القلوب الخفيفة، وتضل العقول الطائشة؛ فلما نتأ رأس الفتنة، وأصبح الكلام على أن يشيع في العامة ويتقلب على الألسن ويختلط بالأهواء ووجوه التأويل، لم يكن بد من أن يحسم الأمير مادة الفتنة ويتقي الله في عامته، وهو الرجل الذي يحكمهم بالقلب المطمئن، ويحوطهم بالنظرات المحككة).
ويضيف: (ولكن المنصور لما رجع إلى مراكش نزع عن ذلك كله وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه والعفو عنه، فحضر، ولكنه مرض بها مرضه الذي مات فيه سنة ٥٩٤هـ، وتوفي بعده يعقوب صدر سنة ٥٩٥هـ).
ومن قبلُ تقدم حديث الرافعي عن واقعة لم تلقَ نفاذ بصر وتأمل؛ وهي ما حدث لمؤلفات الغزاليّ في مغرب دولة الإسلام.. فقال: (لما قام بالأمر علي بن يوسف بن تاشفين سنة ٤٩٣ هـ – وكان إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين أقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمغلبين – اشتد إيثاره لأهل الفقه، فكان لا يقطع أمرًا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء فبلغوا في أيامه ما لم يبلغوه في الصدر الأول من فتح الأندلس).. وهنا شاهد القول: (ولما دخلت كتب الغزالي إلى المغرب أمر هذا الأمير بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد، من سفك الدم واستئصال المال ، إلى من وجد عنده شيء منها؛ واشتد الأمر في ذلك ؛ فهذه أعظم نكبات الفلسفة ، وهذا هو سببها: مغالبة على الرزق وتهالك على السلطة).
ربما يسأل سائل: أبراءة هذه لدانشمند من تهمة تواتر في نقلها أجيال من الكتبة والقارئين حتى صارت مقولة (إن الغزالي قد قضى على الفلسفة العربية الإسلامية) مما يلاكُ في أندية الثقافة ومجالس النخبة.
كان حسنًا وجميلًا من المؤلف أن يُفسح في آفاق الرواية القول عن الغزالي الفيلسوف، نعم الفيلسوف.. ولا عجب، فالرجلُ عمقا وسبرا في أغوار مقولات الفلاسفة ونقض بعضها وتحسين آخر؛ كشف عن ذهن موّار وعقل بلغ المنتهى في التجريد والتفكيك والدمج في أدق المسائل وأكثرها تعقيدا.
أقول وبقلب قويّ إن الكاتب _ بوعي أو بدون وعي_ قد حقق مفهوم “مبدأ الالتزام” الذي دشّنه جان بول سارتر، فقد كان في كل أجزاء الرواية موصولا بأسئلة لحظة حرجة في الفضاء “العربي الإسلامي”، وأنه حين أجرى قلمه واصفا مقدمات احتلال بيت المقدس وما أعقبها؛ حرك ماء راكدا ولمس جرحا غضًّا في الوعي العامّ، موجها سهام نقده حينا إلى السَّاسة المتنازعين على الهامش على حساب المركز، وأحيانًا إلى فقهاء وعلماء أطال الغزاليّ وأسال مدادا غزيرا في كشف دوافعهم وجنوحهم عن علم أبي بكر وعمر ومعاذ بن جبل، حتى جُعل الدين وعلومه مؤسسة مدجّنة في إطار سلطة مركزية تمسك بخيوط اللعبة وتدير الدفة حيث شاءت.
(لقد جئتك – أيها الشيخ! – لأسألك عن الطريق. لقد ضاع خرّيت القوم، والتبست المعالم على دليل القافلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله).. هل يعرف المرء نفسه حقا؟ هل وضعته الأقدار في لحظة اختيار حر دون رقيب أو مشاهد لتظهر حقيقته الخالصة؟)
أسئلة ألقاها المؤلف في روع بطله وقد أحرقته الدنيا بإقبالها حتى بلغ من وحشته أنْ شرع في محاكمة كل شيء “إيمانه وعلمه ومعرفته لذاته، ونيته من وراء العلم الذي تعلم”، ومتى بلغت الشفقة مبلغها في نفس القارئ؛ بدا للمؤلف أن يمدّه بمقدمات ومفاتيح نفسية مثّلت معالم في طريقه وهو يتعقّب بطله الخائر القوى.
“لم لا أحيي النغمة التي خرجت من غار حراء؟ وأبعث التأوهات التي ضجّ بها مسجد رسول الله، وأعيد إلى الأذان روح بلال؟ بدت له الفكرة، واضحة، ومنطقية، وشرعية. فاستولت عليه خفة وانشراح في صدره ونشاط في أعضائه”.
أكانت هذه الأسئلة حكرا على دانشمند؟ ألا يكون المؤلف قد رمى من وراء وراء إلى معالجة مشكلة إنسان “الفضاءات المفتوحة” في عالم صار منظومة تقهقرت فيها الحدود والأسوار؟
عرّج الكاتب على نقطة بالغة الأهمية في صراع الغزالي مع الباطنية وهي “فلسفة اللغة وتأويل القرآن الكريم”، وهي من أشد ساحات هذا الصراع وعورة وشدة، وقطب في فكر أبي حامد، وما تنكّب عن الصواب من قال إن مشروع الغزالي أساسه “نقض الباطنية وما ذهب إليه الفلاسفة في الوجوديّات وتقديم بعضهم الفلسفة على النبوّة”، وهذا باعثُ نكيره عليهم، دون إغفال أن ما يسميه المتقدّمون بالفلسفة؛ غايته البحث في الماورائيات وسبل إدراكها بسبك العقل البشري، وهي الاستحالة التي أسسها أبو حامد، كما أن ذلك عين ما انتهى إليه كانط وديكارت وغيرهما.
إحساس الغزالي بخطورة الباطنية دليل على إدراك الواقع ومعاركه الحقيقية، فهي قضية في حضورها وآنيّتها؛ تشتبك مع واقعنا بعد مضيّ قرون من وفاته، ومثال ذلك ما يفسّرون به القرآن الكريم كقوله تعالى (مرج البحرين يلتقيان) بأنهما عليّ وفاطمة، وقوله تعالى (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) بأنهما الحسن والحسين، وكذا إنكارهم الصلاة والزكاة والصوم والطهارة وصرفها إلى معانٍ لا تتفق مع لغة العرب ومقاصد الوحي، فالقوم ينطوون على عقيدة ملاكها أن للوحي ظاهرا وباطنا، وذلك ما ذهبت إليه التفكيكية في ما يُسمى “ما بعد الحداثة”، بانفصال الدال عن المدلول، وهو مذهب لا يبقي ولا يذر من معارف وأسباب للتواصل الإنساني، بل يقضي بإطلاق على الفكر الإنساني تاريخا وواقعا وحياة مشتركة.
الرواية نتاج مخاض سياقيّ في مستويين اثنين: تقلبات نفسية وعقلية عصفت بأحد ألمع العقول على مر العصور، وصراعات سياسية ومذهبية شهدتها تلك الحقبة، كاشفة عمّا كان من شتات في الرأي ووهن في النهوض بأمر الأمة، وللقارئ الدقيق النظر مهمة عقد العلاقة بين تلك الأحداث والأزمات وما تعيشه الأمة في يوم الناس هذا.