أدب

رسالة إلى المربِّية الحَصِيفة والأديبة الأريبة

الأستاذة مَلَك الحافِظ

المربِّية الفاضلة والمعلِّمة الأديبة مَلَك الحافِظ       حرَسَ الله مُهجَتها

سلامُ الله عليكم ورحمتُه وبركاتُه.

وبعدُ، فقد كان من جميل صُنعِ الله بي أن وقَفتُ على مجموعَتِكِ القصَصِيَّة (قلبٌ من ذَهَب)، في إحدى مكتبات الرياض في السُّعودية. وما إن قلَّبتُ صَفَحاتِها حتى شَعرتُ برُوحٍ حانيةٍ تنسَرِبُ من كلماتِكِ في نفسي، دفعَتني إلى أن أتأبَّطَها وأُسرعَ بها، وقد تملَّكَتني نشوةُ الظَّفَر بما كنتُ أبحثُ عنه منذ دَهر، ممَّا افتقَدتُّه في كثيرٍ من كتاباتِ أهلِ زماننا.

لم أكن قرأتُ اسمَكِ من قبلُ أو سمِعتُ عنكِ، ولكنِّي استَنشَيتُ من كلماتِكِ أرِيجَ الصِّدق وعبيرَ الوَفاء. قرأتُ قِصَصَكِ الرائعةَ، فألفَيتُ نفسي مُحَلِّقًا في عوالمَ من الفَضيلة، والقِيَم الأصيلة النبيلة، التي غدَت في أيَّامنا هذه عزيزةً نادرةً كبَيْضِ الأَنُوق(1).

لم أقرأها مرَّةً بل قرأتُها مرَّات، وحدَّثتُ عنها، ونوَّهتُ بها، واقتنَيتُ منها غيرَ ما نسخةٍ؛ لأرسِلَها إلى والدتي الغالية، وشَقيقاتي الكريمات في دمشقَ؛ رغبةً منِّي في أن يَشْرَكوني الجَذَلَ والحُبور.

وكنت قرأتُ لأدباءِ العربيَّة الكِبار، ممَّن اشتَهَروا بجَزالة العِبارة، وإشراق البيان، غيرَ أني رأيتُ كتابتَكِ تسمو على كثيرٍ ممَّا قرأتُ في صِدقها وقوَّة عاطفتها، وفي الغاياتِ الصَّالحة التي تتَغَـيَّاها؛ من نشر الفضيلةِ والدَّعوةِ إليها، والدَّلالةِ على النُّقَط الـمُضيئة في قلوب الناس، ورسم صورةٍ مُشرقةٍ للمسلم الملتزم الصادق، وللمعلِّم المربِّي المُخلِص.

إننا في هذه الأيامِ التي تضاءلت فيها الهِمَم، وعزَّت فيها القِيَم، أحوَجُ ما نكونُ إلى هذا الأدب الرفيع السَّامي، الذي يكونُ للنَّشْءِ نجومًا هادية، ومناراتٍ مُضيئة، تَدُلُّهُم على الطَّريق البيِّنة السَّوية، وتأخذُ بأيديهم إلى سُبُل النَّجاح والفَلاح في الدُّنيا والآخِرة.

وأُبشِّرُكِ أن كلماتِكِ المنيرةَ، ممَّا كتَبتِ بقلَمِك، أو نَطَقتِ بِمِقْوَلِك، ستَبقى حيَّةً خالدة، ما بقِيَ على وجهِ الأرضِ قارئٌ أو سامع، وستبقى تعملُ عمَلَها في نفوسِ مَن عَلَّمتِ ورَبَّيتِ ورَعَيتِ، وسيَحمِلُها خَلَفٌ عن سَلَفٍ؛ عِلمًا وعَملًا وكِفاحًا ورسالةَ حياة.

وإني والله لأغبِطُ طالباتِكِ اللائي تَلَقَّينَ عنكِ، وفُزْنَ بشَرفِ صُحبَتِكِ، على ما أنعمَ اللهُ عليهِنَّ من رعايةِ أمٍّ رَؤوم، ومربِّيةٍ حَصِيفة، وأديبةٍ أريبة، وطبيبةِ قلوب.

أجَل ستَبقى كلِماتُكِ مشاعلَ نور وقناديلَ هداية؛ لأنها نبعَت من قلبٍ صادقٍ ناصح، فاستحقَّت بذلك الحياة؛ فإنَّ الكلِمةَ إذا خرجَت صادقةً من القلبِ عاشت وعُمِّرَت، وإذا خرجَت من الفم مُنبَتَّةً عن الفؤاد، فلا تولد إلا مَيتة!

وأستأذِنُكِ في الوقوفِ قليلًا عند قولِ سيِّد الخَلقِ صلَّى الله عليه وسلَّم: “إن قامَتِ السَّاعةُ وفي يَدِ أحَدِكُم فَسِيلَةٌ، فإنِ استطاعَ ألَّا تقومَ حتَّى يَغرِسَها، فَليَغْرِسها”(2).

تأمَّلي إلى أيِّ مَدًى يحُثُّنا الإسلامُ على البذلِ والعطاء، حتَّى في اللحَظاتِ الأخيرةِ من عُمْرِ الإنسانيةِ يأمرُنا ألَّا نَتَوانى أو نَكسَلَ عن فعل الخَيرات. ولِسائلٍ أن يسألَ: أيُّ جَدوى من غَرس فَسِيلة، والحياةُ على وَشْكِ الفَناءِ والزَّوال؟ إنه درسٌ من معلِّم الناسِ الخيرَ بأبي هو وأمِّي، أرادَ أن يُنبِئَ بهِ أمَّتَه كلَّها، أنَّها أمَّةُ الخَير الدائمِ المتَّصِل الـمُتَدفِّق كالشَّلَّال.

وإذا كان الأمرُ كذلك، فما بالُكِ بمَن يزرَعُ ويَغرِس، ويَرعى ويتعهَّد، لا يَني ولا يَفتُرُ، لا يَغرِسُ ويَزرَعُ الفَسائلَ والنبَتات، ولكنَّه يَغرِسُ الفَضائلَ والمُثُلَ العالية، ويَزرَعُ القِيَمَ والمعانيَ النبيلة، يُنَشِّئُ العُقولَ ويُرَبِّي النفوسَ، على كلِّ خَلَّةٍ صالحةٍ وكلِّ خَصلَةٍ أصيلَة.

يَبني الرِّجالَ وغَيرُهُ يَبني القُرَى

شَـتَّانَ بينَ قُرًى وبينَ رِجالِ!

أيتُها المعلِّمةُ الأريبة، لعلِّي أطَلتُ عَلَيكِ وأملَلتُكِ، فأسَأتُ من حيثُ أرَدتُّ الإحسان، بَيدَ أني وَجَدتُّني مَدفوعًا بشِدَّةٍ للكِتابة إليكِ، أبُثُّكِ شيئًا ممَّا جاشَ في خاطِري بعدَ قراءَتي قِصَصَكِ، التي كشَفَت بجَلاءٍ عن شخصيَّةِ كاتِبَتِها، وما تتَحَلَّى بهِ من جَليلِ الصِّفات وكريمِ الطِّباع، فأرَدتُّ أن أعبِّرَ لكِ عن سعادَتي وابتِهاجي بما غَنِمتُ وحَظِيت، وأن أشكُرَ لكِ حُسنَ صَنيعِكِ، فأقول:

شكرَ اللهُ لكِ نيَّتَكِ الصَّالحة، وتقبَّلَ جِهادَكِ وإخلاصَكِ، وكافَأَكِ عن كلِّ قَطرةِ عَرَقٍ تَحَدَّرَت على جَبهَتِك، وعن كلِّ كلمةِ توجيهٍ وإرشادٍ نَبَسَت بها شَفَتاك، وعن كلِّ حَرفٍ هادٍ خَطَّتهُ يَراعَتُك، خيرَ ما يَجزي عِبادَه الصَّالحين، وأولِياءَهُ الـمُقَرَّبين، يومَ لا تُغني نَفسٌ عن نفسٍ شيئًا، ولا ينفَعُ مالٌ ولا بَنونَ، إلَّا مَن أتى اللهَ بقَلبٍ سَليم.

ابنك
أيمـن بن أحمد ذو الغـنى

الرياض صفر 1422 هـ

سيرة موجزة

الأستاذة ملك الحافظ أديبة سورية مبدعة، وقاصَّة كاتبة، ومربية داعية، وعابدة زاهدة. وُلدت بدمشق عام (1359هـ/ 1940م) ونشأت في ظروفٍ صعبة من الفقر والحِرمان. تفتَّقت موهبتُها الأدبية في وقت مبكِّر من عُمْرها، فبدأت بنشر القِصَص والمقالات الأدبية في صُحُف دمشقَ ومجلَّاتها ولمَّا تتجاوز السادسةَ عشرة.

تخرَّجت في كلِّية الآداب بجامعة دمشق بتفوُّق سنة 1974م، وعملت في مَيدان التعليم مدرِّسةً لِلُّغة العربية في ثانويات دمشقَ ودور المعلِّمين والمعاهد المتوسِّطة، مدَّة ثلاثةَ عشرَ عامًا، وكانت مدرِّسةً موهوبة متميِّزة، ناجحةً في اجتذاب الطالبات إليها، وتحبيب العربية إليهنَّ، وتعزيز القِيَم الإسلامية لديهنَّ، وتشجيعهنَّ على الكتابة والتعبير عن هَمَسات النفس وخَواطر الروح. وعملت مدقِّقةً لغوية في بعض دور النشر السورية.

فازت بعددٍ من الجوائز الأدبية، وصدر لها أكثرُ من عشَرة كتب من أهمِّها: (قلب من ذهب) مجموعة قصصية، و(وَمَضات) قصصٌ قصيرة جدًّا، و(شمسٌ لا تَغيب) مقالات وِجدانية واقعية، و(رأيتُ الله) و(رسائلُ حبٍّ) في المناجاة الإلهية، و(لكَ قلبي) شعر.

توفيت يوم الثلاثاء 14 رجب 1446هـ (14/ 1/ 2025م) بدمشق ودُفنت فيها. رحمها الله تعالى وجزاها خيرًا عن طالباتها وقرَّائها.

الهوامش:

  1. لأَنُوقُ: طائرٌ أسوَدُ يَبيضُ في أعالي الجبال، فلا يكاد يُظفَر ببَيضِه. 
  2.  رواه البخاري في “الأدب المفرد” من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى