استقر عقرب الدقائق فوق الرقم (12) معلناً حلول الساعة الرابعة عصراً. قبلها بثوان كانت عينا الدكتور (فوزي) تترقبان هذه اللحظة بشوق كبير وكأنه كان يخشى أن يحدث شيء ما يوقف حركة العقرب فيتوقف الزمن. الآن لم تتبق إلا ساعة واحدة على انتهاء الدوام والعودة إلى المنزل، وانقشاع الغمة التي أصابت (فوزي) منذ يومين حين أبلغوه في المستشفى بأن عليه دواماً إجبارياً في نهار اليوم الأول من العيد الكبير يبدأ صباحا وينتهي الخامسة عصرا.
أصابه التكليف لحظتها بما يشبه الصدمة فلم يستطع حتى أن يحرك لسانه أو يصرخ محتجا كعادته المشهورة عنه، فالتكليف كان صادرا من رئيس مجلس الإدارة ومالك المستشفى شخصيا، وهو يستطيع أن يجادل بلا تعب، ويماري بلا توقف أي شخص إلا هذا الرجل الذي بإمكانه أن يفصله عن العمل في لحظة إن أعلن رفضه للعمل يوم العيد، ولذلك لم يكن أمامه إلا أن يعد نفسه لتنفيذ الأمر، والدوام في المستشفى فيما وصفه بأنه (أسوأ دوام) في حياته العملية. وتذكر بامتنان كيف هونت زوجته الأمر عليه معلنة أنها والأولاد لن يتناولوا طعام الغداء الدسم المعهود في هذه المناسبة حتى يعود من العمل، ومع ذلك لم يفته صباح العيد وهو يغادر المنزل رؤية الأسى في عيون أطفاله، والإحساس بأن الابتسامة العريضة التي وضعتها زوجته على وجهها كانت مصطنعة لرفع معنوياته ليس إلا.
تسللت دفعة هواء باردة من النافذة المفتوحة على الشارع الضيق المحاذي للمستشفى حيث يتصاعد عادة صراخ الباعة مختلطا بأصوات السيارات التي تبحث لها عن ممر للسير بين المارة والبائعين وعرباتهم. خلال الساعات الماضية ارتبط (فوزي) بعلاقة ود مع النافذة والشارع والذين فيه فقد اتكأ على النافذة وأطل على الشارع عشرات المرات، ولاحظ للمرة الأولى تفاصيل ما يحدث في الشارع الذي كان طابع البؤس المخيم عليه لا يتناسب مع فخامة مبنى المستشفى المجاور له، ولا تتناسب الضجة المنبعثة منه مع حاجة المرضى للهدوء.
على جانبي الشارع كان باعة مختلفو الأعمار يفترشون الأرض ببضائعهم، ومعهم كانت تصطف عدد من عربات اليد التي استقر أصحابها على جانبي الشارع لبيع الخضروات والفواكه، والشوكلاتة، والذرة، وألعاب الأطفال الرخيصة، وأشياء كثيرة لا تخطر على بال أمثاله. وربما لأن اليوم كان يوم عيد فقد لاحظ أن معظم الدكاكين الصغيرة في الشارع كانت مغلقة، وأن عدد البائعين مع عرباتهم اليدوية أقل مما هو معتاد. وكان من السهل ملاحظة أن وجوه الباعة ليست سعيدة مثله تماماً، وأصواتهم تحمل نبرات ضيق وتبرم على غير عادتهم وهي تدعو المارة للشراء إذ كانوا عادة يملأون الفضاء بهتافاتهم المنغمة وأحيانا ببعض عبارات التغزل البريئة إن مرت بجوارهم فتاة، والشتائم الموجهة لبعضهم بعضا أو لسيارة مرت بجوارهم بطريقة مزعجة، فهؤلاء المساكين هم الذين لم يتمكنوا من السفر لقضاء إجازة العيد عند عائلاتهم في القرى البعيدة بسبب عدم توفر مصاريف السفر والعيد، واضطروا مكرهين للدوام مثله صباح العيد، ولم يكن لديهم من مظاهر العيد إلا الاستماع لأغنية (آنستنا يا عيد) التي ظلت تتردد طوال اليوم من البيوت والسيارات المارة دون أن يبدو عليهم أنهم يشعرون بأنس أو بفرحة العيد. ومع أن الأغنية المشهورة لم تكن جديدة على سمعه إلا أنه أكثر اليوم من ترديدها بصوت خافت كأنه يكتشفها للمرة الأولى، وراح يتأمل في لحنها الحزين، ومعانيها التي يختلط فيها الفرح بالحزن التي تدل على أن مؤلفها عاش تجربة عيد غير سارة مثل التجربة التي يعيشها هو هذا اليوم.
وللمرة الأولى أحس (فوزي) بعواطف رقيقة تجتاحه تجاه الآخرين وهو المعروف عنه جهامة الوجه، وسلاطة اللسان، وجفاف العواطف. تأمل طويلا بتعاطف حقيقي وجوه الباعة المتعبة، وثيابهم الرثة، وبضاعتهم المتواضعة التي طالما كان يسخر منها ويتساءل عن سبب تركهم هكذا يزحمون الشارع بها، ويعرضون حياة الناس للخطر ببيع بضائع غير صحية.. لكنه اليوم اكتشف أشياء جميلة في واقع الشارع المزعج جعلته يعيد تقييم آرائه السابقة؛ فهؤلاء الباعة المساكين يكدحون طوال أيام السنة دون إجازة ثم ها هم قد عجزوا عن تدبير مصاريف السفر لقضاء العيد بين أهاليهم، وسيضطرون لقضاء كل أيام العيد في هذا الشارع. وحمد الله في سره أنه ليس مثلهم، وفي نهاية الدوام سيغادر المستشفى ليبدأ العيد مع أحبابه ولو متأخرا نصف يوم. اعترف في سره أنه ظلمهم كثيرا ولم يحس بمتاعبهم، ولم يفكر يوما بإنسانيتهم وظروفهم المعيشية الصعبة التي فرضت عليهم هذه المهنة المرهقة التي تجبرهم على البقاء في الشارع منذ الصباح الباكر حتى وقت متأخر من الليل، وظل مهموما فقط بنفسه التي تنفر من الصراخ والازدحام والبيئات الشعبية لكنه اليوم اكتشف أشياء كثيرة جعلته أكثر إحساسا بمن حوله من البشر وحتى الجماد حظي بشيء من عطفه ورقته الطارئة فلم يعد يغلق النافذة أو الباب بعنف كعادته لأنه لم ير مبررا لذلك.. ولاحظ أن صغار الممرضين والعاملين الذين تجنبوه في البداية توقيا لغضبه المتوقع عادوا ليتبادلوا معه تحيات العيد، وعبارات الود والملاحظات الضاحكة بعد أن لاحظوا أن الحالة النفسية للدكتور (الجني) كما كانوا يصفونه غير تلك التي يعرفونها عنه وأنه يبتسم لهم ويداعبهم، وهو بدوره اكتشف فيهم نماذج جميلة من الود والمرح لم يعهدها عند كثير من زملائه الأطباء.
انتزعته من تأملاته صرخة ألم مرعبة من مكان ما من المستشفى، وحاول في سره تفسير معناها فلعل مريضا يعاني الآما مبرحة أو لعلها أم فجعت بابنها هذه اللحظة، أو زوجة رأت زوجها يلفظ أنفاسه الأخيرة. تذكر كم صور بائسة رآها منذ الصباح لمرضى ومرافقين انشغلوا عن العيد وفرحته بالبحث عن الشفاء، ورأى جثة مريض فارق الحياة صباح العيد مسجاة على سرير متحرك وأهله يحيطون به تعلوهم علامات الحزن العميق، وبعضهم كان يبكي صامتا ويذرف دمعا لم يستطع منعه ولم يخفف من حزن أولئك المفجوعين إلا عبارات المواساة والتراحم التي كان الممرضون البسطاء والمرضى الآخرون ومرافقوهم يرددونها كلما مرّ سرير الموت بجانبهم في طريقه إلى ساحة النهاية حيث لا عيد ولا مناسبات سعيدة. فكر كثيرا: ترى كم هناك من حالات مشابهة من التعاسة والأحزان والدموع في يوم العيد لا يعرف عنها السعداء بالعيد شيئا؟ فاليوم عرف أن الدنيا لا تخلو من الآلام والفجائع حتى في ذروة أيام السعادة والفرحة.
– هذه هي الدنيا: لا نعرف سعادتها إلا برؤية أحزانها.
تساءل في نفسه وهو يردد العبارة: هل هي حكمة قرأها أم أنه صار ينبوع حكمة منذ قضي عليه أن يقضي صباح اليوم الأول من العيد محبوسا في غرفة في مستشفى؟ كاد أن يشعر بالندم لأنه لم يسجل خواطره التي زاحمت كآبته طوال الساعات الماضية فقد خطرت بباله حكم وأقوال كثيرة من شدة معاناته لكنها تبخرت في الهواء.
لملم أفكاره وتأملاته المتطايرة هنا وهناك، وعادت عيناه للمرة الألف إلى الجدار حيث الساعة الكبيرة تطارد الزمن، وهو بدوره ظل يطارد عقاربها منذ الصباح ويتأمل حركاتها البطيئة بصبر نافذ حتى أنه اكتشف في نفسه قدرة على التفلسف وهو الذي كره مادة الفلسفة ومصطلحاتها الجامدة ففي إحدى التفاتاته إلى الساعة فكر في العلاقة بين العقارب والزمن، وعن اسم الإنسان الذي اكتشف هذه العلاقة وصنع منها هذا الجهاز الذي يحسب أنفاسنا كما يحسب دقائق الزمن، هل كان المخترع مثله يعيش ساعات ضجر وزمن لا يتحرك فاهتدى إلى الساعة يحرك بها الدقائق والساعات والثواني؟ سوف يذكر هذا اليوم طويلا وكل ما رآه فيه، وما سمعه، وما جال في خاطره من أفكار وتخيلات كانت وسيلة لتحريك الزمن وقضاء أطول ساعات في حياته دون عمل إلا التجول في الغرفة أو السير في الممرات أو الاتصال هاتفيا بالمنزل. فبحكم كونه طبيب أسنان عانى بطالة أطول من سور الصين الذي زاره يوم كان يدرس هناك فكل المترددين على المستشفى اليوم كانوا يعانون من أوجاع في البطن سببتها أطعمة وأشربة العيد، أما أوجاع الأسنان فتحتاج إلى أيام أخرى بعد العيد حتى تظهر مشاكل الحلويات وحينها لن تكون هناك مشكلة بالنسبة له فزملاؤه سيعودون وقد ينجح في إقناع الإدارة بمنحه إجازة خاصة لتعويض يوم العيد المفقود.
اقتربت نهاية الدوام فنهض متثاقلا وكأنه غير عجل، واستبدل ملابسه بتمهل مفتعل لمزيد من تحريك ما تبقى من دقائق، ولم تكن هناك حاجة لإعادة ترتيب الغرفة فلم يحدث طارئ، ولم يرد مريض إلى غرفته وفكر أن يكتب رسالة توصية للإدارة بعدم إلزام أطباء الأسنان بالدوام في أيام العيد والتركيز على أطباء الباطنية والجراحة العامة فهم فرسان العيد. وقع نظره على جهاز الهاتف وعزم على الاتصال بالمنزل ليبشرهم بانتهاء العمل واستعداده للعودة إليهم لكنه عزف عن الفكرة بعد أن وجد أنه سيكون الاتصال العاشر أو ربما أكثر.
وعندما زحف عقرب الدقائق متخطيا الدقيقة الخامسة والخمسين من الساعة الأخيرة من دوامه كان (فوزي) يسير في الردهة الطويلة المؤدية إلى بوابة الخروج وقد اكتسى وجهه بهدوء عجيب. ألقى بعض التحيات على زملائه وبعض المرضى الذين قابلهم، واهتم كثيرا بأن تكون مشيته رزينة لا توحي بضجره ولا باستعجاله على الرحيل. غمرته سكينة عجيبة ربما كان سببها شعوره بأنه قد أدى الواجب رغم فداحة الثمن الذي قدمه أو ربما كان سببها استشعاره للسعادة التي تنتظره في البيت حيث زوجته وأولاده يترقبون عودته بحماس ليبدأوا معا قضاء يوم العيد وإن كان الآخرون قد أوشكوا على الانتهاء منه. لحظتها مرت أمام عينيه من جديد صور سريعة عن أنواع اللحوم والحلويات التي أوصى بها، وأخبرته زوجته على الهاتف أنها جاهزة تنتظر وصوله إلى درجة أنه خيّل إليه أن روائحها جاءت تزفه إلى المنزل. حدث نفسه بأنه يظل محظوظا لأنه سيبدأ فرحته عندما ينتهي الآخرون وسينسى ساعات الضجر والحرمان وسيعقبها سعادة وانشراح بينما سيكون حال زملائه القادمين للمناوبة في الفترة المسائية أسوأ وأشد إيلاما فساعات العمل في مساء العيد بعد قضاء ساعات الفرحة الصباحية ستمحو كل فرحة وكل لذة أحسوا بها طوال اليوم.
بعد دقيقتين سينتهي كل شيء. عرج على مكتب مراقبة الدوام ليضع توقيعه في خانة الانصراف، وعندما انحنى على سجل التوقيعات كانت هناك ضجة كبيرة أثارها دخول حالة إسعاف.. لا بد أن شخصا ما لم يرحم بطنه من الأكل أو أنه تناول قاتا غير نظيف أو أصابته الألعاب النارية بجروح. ألقى تحية الوداع بهدوء مبالغ فيه وانصرف متوجها نحو البوابة الرئيسية المؤدية إلى موقف السيارات الخاص بالمستشفى حيث سيارته بانتظاره، وقبل أن يسحب الباب الزجاجي من قبضته المدورة سمع صوتا يناديه باسمه من الخلف عرف فيه صوت مشرف الفترة. استدار مبتسما عازما على الاعتذار له لنسيانه تحيته قبل المغادرة لكن منظر الرجل المنزعج سكب شيئا من القلق في قلبه.
– دكتور.. معنا حالة حرجة جدا.. ولم نجد طبيبا إلا أنت.
ابتسم بصعوبة وهو يقول:
– سيكفيكم طبيب الباطنية الحرج. ربما لم تجده في مكتبه لكنه في مكان ما (هناك عائلة لم تعرف طعم العيد بانتظاري.. هل تفهمني؟) قال محدثا نفسه.
– ليس الأمر كذلك.. الأمر لا يحتاج إلى طبيب باطنية.
– لماذا؟ هل كان اللحم قاسيا على أسنان الرجل فاحتاج إلى طبيب مثلي؟
– الأمر أسوأ.. المريض بحاجة إليك شخصيا.
احتبس لسانه في فمه وفاض قلبه بالقلق. لم يستطع أن يفهم. خطرت بباله كل الأمراض التي يمكن أن تصيب الإنسان يوم العيد فلم يجد من بينها واحدا يتعلق بتخصصه.
أيقظه صوت المشرف الحاسم:
– دكتور.. الحالة سببها إطلاق رصاص مسدس.
كاد فوزي أن ينفجر مطمئنا لكنه تدارك الأمر وأطلق ابتسامة منتصر وهو يقول:
– إذا أنت بحاجة إلى جراح وليس طبيب أسنان.
– دكتور.. الرصاصة أصابت الفم وحطمت أجزاء من الأسنان والمريض يتم الآن تجهيزه لإدخاله غرفة العمليات وأنت الذي سيقوم بإجراء العملية.
قال تلك الكلمات وكأنه يطلق رصاصات حاسمة ثم استدار منطلقا دون تردد.
سارا معاً صامتين أو بالأصح سار (فوزي) متثاقلا خلف المشرف وكأنه يجر في رجليه أحجارا ضخمة. لم يكن عقله قد استوعب الموقف بكامله. لم يكن يرى شيئا أمامه في ممرات المستشفى. غرق في ذهول عميق، كان يفكر في الأسلوب الذي يبلغ به أهله عن عدم تمكنه من العودة إليهم. ازدحمت الأفكار في رأسه، كيف يحدث هذا؟ وفي آخر لحظة من مناوبته؟ تذكر كيف مشى بهدوء غير معتاد ولم يهرول كالعادة وهو يغادر المستشفى.. لعله لو كان أسرع في المشي لما لحقوه.. في آخر دقيقة يصل مريض.. ومصابا في فمه؟ نسي أن يسأل عما حدث.. هل هو انتحار أم جريمة قتل؟ لكن صوت المشرف الذي كان قد سبقه خطوات كان يصل إليه شارحا ما حدث:
– حكاية غريبة لا تخطر على بال.. كان المسكين في بيته يمضغ القات عندما خطر له كما يبدو أن يصوب المسدس الجديد الذي اشتراه إلى فمه المحشو قاتا.. لم ينتبه إلى أن المسدس محشو بالرصاص وأن الأمان مفتوح.. ولم يدر أحد من الحاضرين ماذا حدث؟ ولماذا انطلقت الرصاصة؟ ولماذا أصلا صوب المسدس إلى فمه؟ حكاية غريبة يا دكتور. أليس كذلك؟ مسكين الرجل لم يهنأ ببقية يوم العيد. أليس ما حدث له يوم العيد مأساة؟ هل أنت معي يا دكتور؟ دكتور.. سمعت حكاية المسكين؟
انتبه د. (فوزي) على كلمة (المسكين) فردد دون وعي:
– نعم.. مسكين.. لم يهنأ بالعيد.. ولا بالنصف الثاني من العيد.. وها هو ذا اليوم ضاع عليه وبقية الأيام ستضيع عليه.. المسكين.
وأمام بوابة قسم العمليات الجراحية توقف المشرف والتفت إلى الخلف حتى وصل الطبيب وفتح له الباب وشبح ابتسامة تتردد على شفتيه، وأشار إليه بهزة خفيفة من رأسه مشجعا أن يدخل. وبعد لحظة تردد اندفع (فوزي) داخلا لكن المشرف حجزه بيده وهو يحدق في وجهه العبوس مهنئا بصوت رقيق:
– دكتور.. كل عام وأنت بخير.. وعيد سعيد.