
دخلتُ القاهرة ليلًا، خطفتني الأضواء؛ بدأتُ بها لأنها تمثل شيئًا عزيزًا لشابٍ قَدِم من بلادٍ تحيا علىٰ الظلام. كنتُ أحدِّق في كلِّ شيء: في الأبنية، في الطرق، في البشر، مدينةٌ ممتدةٌ لا تعرفُ السكون، ذبلَ الزمانُ في سطورها، تغزوها الحياة من كلِّ موضع، بناياتٌ شاهقة لم نألفها، زحامٌ لا يُصدَّق، أمكنة تكرر نفسها، وأخرىٰ تنفلتُ من أسْرِ اللحظة.
أمضينا ساعتينِ من المطار إلىٰ “السَّادس من أكتوبر”، وقلتُ لنفسي: سأموتُ قبل أن أفهمَ هذه المدينة! لقد جمعوا مدنًا شتىٰ في صفحةٍ واحدة، وسمّوها “القاهرة”.
بتنا ليلتنا في حيٍّ من أحياءِ أكتوبر، بالقربِ من جامعِ الحصري، ضاقَ والدي بالمكان، قالَ ساخطًا: “ليست هذه القاهرة التي أعرف، كل شيء هنا يشي بالرتابة!” رأى بعض المحلات مغلقة ونحن في رمضان، فامتعض وقال كلمة حاذقة: “منذ متى تنام القاهرة؟”
حين طلعَ الصباح كنا في قلبِ “فيصل”، مطلع شارع العشرين، كأننا مفتتح جملة لنصٍّ طويل، هناك، أزهر وجه أبي، وقال: “هذه هي القاهرة!” حيّ مسكونٌ بالحياةِ: من بائع الفول إلىٰ المسنّة التي تحمل الخبز فوق رأسها بتوازن مدهش، إلى المقاهي التي لا تتقنُ الصَّمت!
بدأت أقرأ القاهرة بتركيزٍ لا يشبه إلا قراءتي لرواية “مائة عام من العزلة”: بشخوصها المتداخلة، وأجيالها المتفرّعة من خوسيه أركاديو وأورسولا، فمن سهى عن تتابع الأسماء، ضلّ في السَّرد، كما يضلُّ السائر في شوارع القاهرة إذا تداخلت عليه الملامح، فلا يدري: أفي الحكاية هو، أم في وهمها؟”.
مضت شهورٌ وأحسستُ أنَّ المدينة التي أبهرتني في الليل باتت في قبضتي، أتصورها كما يرى الشادي متنًا أوليًّا: صافٍ، محكم، بلا حواشٍ ولا تعليقات؛ أنظر إليها كما أنظر إلى مدينتي من فوق سطح منزلنا، فأراها في امتدادٍ واحد، كأنها صفحةُ العمرِ بلا خطايا!
وما جرى لي مع القاهرة تكرَّر في إسطنبول، إلا أنَّ هذه الأخيرة تحتاج إلىٰ جهد مضاعف لإحكام القبضة عليها، فما هي بمدينةٍ واحدةٍ في حقيقتها، وإنما مدائنُ متراكبة، أحقابٌ معمورة صُهِرت في بوتقةٍ واحدة، وزويت في حيِّزٍ محدود، وأعصارٌ جُمِعت في عصر، وعوالمُ اختُزلت في صورة، يدخلها الرجلُ يظنها كأي حاضرةٍ تطويها الخرائط، فإذا وقعت عليها عيناه، رأى الأمسَ والحاضرَ يتداخلان، والمآذنَ والقِبابَ تتناجى، والأزمنةَ تتراكضُ كأنها نهرٌ يجري في مجرى واحد، عندها يدركُ أنَّ إسطنبول ليست مكانًا يُحدُّ بحدٍّ، بل معنىً يتعذَّر علىٰ الوصف، وسِفرٌ مفتوحٌ علىٰ الأبد!
وما قصصتُه لكَ عن القاهرة وإسطنبول لم يكن حديثًا عن المدنِ أصالةً، فالمدنُ في حقيقتها لم تكن سوى استعارة لما هو أعظم: المعرفة!
أردتُ أن أوصلَ إليك فكرةً عزيزة: أنَّ المعارفَ والعلوم والمشاريع الفكرية حين تشرع بها، تبدو كما بدت لي القاهرة أول مرة: عالمٌ من الأضواء والحياة والحكايا، والإحاطة به ضربٌ من الهذيان، لكن البدء، ثم الاستمرار، وتفعيل الحواس؛ كفيلٌ بإذابةِ الحواجز.
وهكذا العلم والمعرفة: يحتاجان إلىٰ خطوة أولى، ثم صبرٍ واستمرار، حتى تُفتح الأبواب، ويُزوى لك العلمُ كما زُويت الأرض للنبيِّ الأعظم، فتراه جملةً واحدةً، وتحمله معك حيث حللت، في مدن بلا خرائط، وبلاد بلا ملامح، وبقاعٍ نائية لا أنيسَ فيها… إلا أنسُ العلم.

وإليكم حديث نفسي عندما كنت أسير في شوارع اسطنبول ذات يوم:
من مميزات كتابات دوستوفيسكي ولاسيما من يقرأها بلغة الكتابة الأمّ التي كانت تحمل في طياتها الألم والحزن والفقد من خلال شخصيات تعيش بين قصصه في صراع دائم بين الظلمة والنور تجعل القارئ يتعرّف على نفسه من خلالها وقد خرج منه هذا الكمّ الكبير من الفلسفة لربّما بسبب السجن الذي عاشه لفترة طويلة في سيبيريا والذي كان أشبه بثكنات ضيقة خانقة بعد أن قرئ قرار إعدامه لكنّه نجا منه بإعجوبة وكان دوستوفيسكي كما كلّ المساجين يرون الحياة خلف القبضان فراح ييتخيلها، يحللها، يكتب من أجلها ويحاول رسمها وهكذا خرجت هذه الفلسفاات التي أصبحت تُدرس في الجامعات ويتباهى القرّاء بمعرفتها ويسرع النّاس إلى زخرفتها وتلوينها .
وأنا أرى أنّ من يعيش في مدن كبيرة مثل اسطنبول، مومباي، جاكرتا، القاهرة، مكسيكو سيتي، ساو باولو، لاغوس، نيويورك، شنغاهي بكين …. سيعيش ظروف تجبره على الكتابة بحبر متقاطر لأن نجاحه في الكتابة سيكون بالتضداد مع الظروف التي جعلت من دوستوفيسكي بديع القلم وذلك لأنّ الحياة لن تنفك عن النبض حوله أمّا في داخله سيكون سجن التمنع عن غرابة المدينة التي تحاوطه وذلك سيكون للشخص الذي يعاني من الفقر أو الغربة واللجوء وقلّة الحيلة ومن هذا المنطلق مازلت أرى مازلت أرى المحن هبة للإنسان في كل فترات حياته !