بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الحضور الكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أهلًا وسهلًا بكم في هذه الأمسية الشتويّة التي سيدفئها الشِّعر الجميل.. ومرحبًا بكم ضيوفًا على مسرح مدرسة (عبد الرحمن الغافقي) في مدينتنا (اللَّاذقِيَّة) عروس الساحل السوريّ.. أيها السادة والسيدات، اذكروا هذا التاريخ جيّدًا؛ الخميس، الثاني عشر من شهر كانون الثاني عام أربعة وثمانين وتسعمائة وألف.. لقد جئنا جميعًا اليوم (طلّابًا وآباء ومعلّمين وشعراء) لنمتّع حواسَّنا بمتابعة المساجلة الشعرية بين الطلاب الثلاثة الذين تأهّلوا للمرحلة النهائية من مسابقة (سفراء البيان) ..
رحِّبوا معي بعضوات لجنة التحكيم الأستاذة يسرى هاشم، والأستاذة هدى الغوري، والأستاذة أُميّة أسطواني. وبالمتسابقِين:
الطالبة قمر من مدرسة الحرية
والطالبة سمر من مدرسة العفاف
والطالب نور من مدرسة الشهداء
والكلمة الافتتاحية لمدير المدرسة المستضيفة، الأستاذ (أحمد السيّد) فليتفضل مشكورًأ.
يصعد المدير إلى المسرح وسط تصفيق حارّ من الحضور، ليُعلن عن بدء المسابقة قائلًا:
بسم الله الرحمن الرحيم.. أيها الحضور الكريم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أمّا بعد: فإنّ الشعر -كما تعلمون- ديوان العرب، ومَبعَث فخرهم وعزهم.. وإنّ العربيّ لينمو حسُّه وتعلو همّته بتذوق الأدب العالي كما يتغذى الجسم بأكل الطيبات، ويَرِقُّ طبعُه بسماع عذب الكلام كما يفعل العطف والإحسان في قلب الإنسان..
أَحسِنْ إلى النّاسِ تَستعبدْ قلوبَهمُ
لَطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
فعلّموهُ أولادَكم.. واجعلوه في أفئدتهم وَقودًا وحِصنًا.. وعلى ألسنتهم حكمةً وبيانًا.
نبدأ الآن مسابقتنا على بركة الله.. وفّقكم الله يا أبنائي الأعزّاء.
يصعد المشاركون، وينزل المدير بين هتافات الحاضرين وتشجيعهم، ليجلس على كرسيّ في منتصف الصف الأول، وينظر باستغراب إلى رجلٍ وامرأةٍ غيرِ مألوفَين يجلسان إلى جانبيه يمينًا وشمالًا، ولكنّ صوت حماس الجمهور يعلو من جديد فيبتسم راضيًا ويشاركهم التصفيق.
ويتخذ المشاركون أماكنهم على المسرح، في مواجهة لجنة التحكيم المؤلّفة من الأستاذة يسرى (في المنتصف)، والأستاذتَين هدى وأُميّة (عن اليمين والشمال).
تُطفأ أنوار المسرح إلا من بقعتين على جانبيه، إحداهما مسلّطة على المشارِكين والأخرى على عضوات لجنة التحكيم.. مع بقاء ضوءٍ خافتٍ جدًّا في ناحية الجمهور..
تفتتح المعلمة (يسرى) المساجلة بقولها:
– العِلمُ يبني بُيوتًا لا عِمادَ لها .. والجَهلُ يَهدمُ بيتَ العزِّ والكَرمِ… والبداية معكِ يا قمر.
يبتسم رجل يجلس وسط الحاضرين بكامل أناقته، يلبس بدلة وطربوشًا أحمر، ويمسك بمسبحة من الكهرمان.. ويتّجه الجميع بأنظارهم نحو (قمر) التي تَصمت ثانيةً ثمّ تقول:
ما لي أُكتِّمُ حُبًّا قدْ بَرى جَسدي
وتدَّعي حُبَّ سيفِ الدّولةِ الاُمَمُ
يرتفع صوتٌ وسط الحضور يقول: هذا بيتٌ محبوك!
تردّ الأستاذة هدى: لا بأس، البيت مقبول، وللتوضيح: البيت المحبوك هو البيت الذي يبدأ وينتهي بالحرف نفسه. أرجو من الحضور التزام الهدوء.. والآن دورك سمر، تفضّلي..
ويخرج البيت من فم (سمر) دون أدنى تفكير، وهو ماكانت تخشاه قبل بدء المسابقة، فكلّما وردَتْ قافية الميم ظهَرَ هذا البيت المشهور تلقائيًّا، حتى صار ذِكرُه في حكم المسَلَّمات في كل مباراة شعرية! ولكنْ..
ما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يدركُه
تجري الرّياحُ بما لا تشتهي السُّفنُ
ويُعلّق أحد الحاضرين: طبعًا! ويضحك الجميع، ولكنّ (نور) يقطع ضحكهم منشدًا:
نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا
وما لِزمانِنا عيبٌ سِوانا
ونهجو ذا الزّمانَ بغيرِ ذنبٍ
ولو نطقَ الزّمانُ لنا هَجانا
يعود صاحب الاعتراض الأول إلى قوله: بيتٌ محبوكٌ مرّةً أخرى! هذا… تحدّق المعلمة يسرى في وجه القائل متعجبة!
هل لك أن تعرّفنا بنفسك أيّها الأخ الكريم؟
ويقف الرجل باعتزازٍ قائلًا:
أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي
وأسمعَتْ كلماتي مَنْ بهِ صَمَمُ!
تتعالى القهقهات ويضجّ المسرح بهمهماتٍ كثيرة.. تضرب المعلمة (يسرى) جرسًا صغيرًا على الطاولة أمامها، طالبةً من (قمر) متابعة المساجلة..
القافية هي النون صحيح معلمتي؟
نعم، تفضلي يا بنتي..
نُرقّعُ دُنيانا بِتمزيقِ دينِنا
فلا دينُنا يَبقى ولا ما نُرقّعُ
تبتسم سمر بخجلٍ وتقول:
على مِثلِ ليلى يَقتلُ المرءُ نفسَهُ
وإنْ كنتُ مِنْ ليلى على اليأسِ طاويَا
خليلَيَّ إنْ ضَنُّوا بليلى فَقَرِّبا
ليَ النَّعْشَ والأكفانَ واسْتغْفِرَا لِيَا
تهتف المعلمة هدى: الله الله! أحسنتِ..
يردّ نور:
– يا دارَ عبلةَ بالجِواءِ تكلَّمي
وعِمِي صباحًا دارَ عبلةَ واسلَمي
تتابع قمر:
ما كنتُ أعلمُ قبلَ بادرةِ النَّوى
أنَّ الأُسودَ فرائسُ الغِزلانِ
وبلا انتظارٍ تُنشد سمر:
نحن بناتُ طارق
نمشي على النّمارق
إن تُقبلوا نُعانِق
أو تُدبروا نُفارق
فِراقَ غيرِ وامِق
تردّد الأستاذة أُميّة: فراق غير وامق.. فيتابع نور:
قِفا نبكِ مِنْ ذكرى حبيبٍ ومَنزلِ
بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخولِ فَحَوْمَلِ
ويتململ ذلك الشاب الوسيم الذي يجلس بجوار مدير المدرسة، كأنه يبحث عن شيءٍ ما!
تُلقِي قمر بيتَها باندفاع:
لا تشترِ العبدَ إلّا والعصا معهُ
إنَّ العبيدَ لَأنْجاسٌ مَناكيدُ
ويستنكر القولَ أحدُ الحاضرين: “متى استعبدتمُ النّاسَ وقد ولَدَتْهم أمّهاتُهم أحرارَا!”… تلتفت الأستاذة يسرى جهة الصوت لترى شيخًا وقورًا في عينيه نور الإيمان وهدوء الحكمة.. لكنّها تلمح بجواره رجلًا آخر ضخم الجثة، أسمر البشرة، ينظر إليها نظراتٍ حادّةً وهو يضع يديه على ركبتيه بخشونة. تُقطّبُ الأستاذة يسرى جبينَها وتقول: البيت صحيح.. نكمل المساجلة، دورك سمر…
– دواؤكَ فيكَ وما تُبصرُ
وداؤكَ منكَ وما تَشعُرُ
وتحسبُ أنّكَ جِرمٌ صغيرٌ
وفيكَ انطوى العالَمُ الأكبرُ
يمكث نوربضعَ ثوانٍ يفكّر، وسط همس الجمهور وارتقاب اللجنة للوقت.. ثم يحكي بصوته الرنّان:
رَمتني بِسهمٍ أصابَ الفؤادَ
غداةَ الرّحيلِ فلمْ أنتصرْ
فأسبَلَ دمعي كفضِّ الجُمانِ
أوِ الدُّرِّ رقراقُه المُنحدرْ
ويُتبع البيتين بتنهيدة ارتياحٍ يُكبّرُ لها الجمهورإعجابًا، بانتظار ردّ قمر…
رماكَ الحاسدونَ بِكلِّ عَيبٍ
وعَيبُكَ أنَّ حُسنَكَ لا يُعابُ
كانت سمر مَشوقةً إلى قافية الباء فأسرعت تبثّ مشاعرها في البيت الذي تعشقُه:
بَصُرْتَ بالرّاحةِ الكُبرى فلمْ تَرَها
تُنالُ إلّا على جِسرٍ مِنَ التّعَبِ
وتُصوّب الأستاذة يسرى بَصرَها نحو ذلك الرّجل الغريب -الذي يجلس مُعتدًّا بنفسه، لا ينظر يمينًا أو يسارًا، وكأنّ الكونَ كلّه لا يملأ عينيه- قبل أن يعترض على البيت المحبوك للمرة الثالثة… ويبصرها الرجل في اللحظة نفسها فيبتلع تعليقه قبل أن يخرج!
يرفع نور صوته وهو ينظر إلى الحضور نظرة الأبطال قائلًا:
بلادي وإنْ جارتْ عَليَّ عَزيزةٌ
وأهلي وإنْ ضَنّوا عَليَّ كِرامُ
ترُدّ قمر:
– متى يلتقي مَن ليسَ يُقضى خروجُهُ
وليسَ لِمَن يَهوى إليهِ دُخولُ
وتصمت سمر قليلًا، تفتش في ذاكرتها عن بيت يبدأ بحرف اللام، ويطول صمتها.. فيقف رجلٌ مُتجهّم الملامح، ينظر إلى من حوله نظرة تحدٍّ وازدراء ثم يقول:
لَعمرُكَ ما في الأرضِ لي مِنْ مُصاهِرٍ
ولا نَسبٍ يُدعى بِأرضٍ عُمانِ
فيُجيبُه صوتٌ في آخر القاعة: ألستَ القائل:
لولا الحياءُ لَهاجَني اسْتِعبارُ
وَلَزُرتُ قبركِ والحبيبُ يُزارُ؟
هدوء من فضلكم.. تنادي الأستاذة أميّة معترضة: رجاءً! يُمنع تَدخُّل أيّ أحد من الحضور أو التشويش على المتسابقين.
تحاول سمر التذكّرجاهدة.. ليت ال.. لكنّ الوقت يَنفَدُ قبل أن تُسعفها الذاكرة بشيء، فتُطرق رأسها حزنًا.. وتعلن الأستاذة يسرى انتهاء وقتِ الجولة الأولى من المسابقة، وانتقال قمر ونور إلى الجولة النهائية:
شكرًا لكِ سمر، لقد أبليتِ بلاءً حسنًا في الجولة الأولى، وكانت اختياراتك من الشعر جميلةً جدًّا!.. أيّها الحضور الكريم..دَعُونا نشكر الطالبة المميزة (سمر) على ما أمتعتنا به من عذب الكلام.. وتقف سمر لحظةً ثم تختفي خلف الكواليس وسط إشادةٍ حارّةٍ جدًّا من عائلتها ومعلماتها وجميع الحاضرين.
وتبدأ استراحة قصيرة (مدّتها ربع الساعة) بين الجولتين. وتغمر الأنوار القاعة من جديد.. كلٌّ يهمس ويضحك ويناقش جيرانه بشغف.. بينما تبحث الأستاذة هدى بعينيها عن أولئك الغرباء الذين تكرّرت مشاغباتُهم خلال الجولة الأولى، ولكنّها لا تجد أيًّا منهم!
تنتهي الدقائق الخمس عشرة بإعلان الأستاذة هدى بدء الجولة النهائية:
أيها السادة والسيدات، أرجو منكم العودة لأماكنكم والتزام الهدوء، تبدأ الآن جولتنا الثانية والأخيرة بين المتسابقَين: قمر ونور. وتعلو هتافات الجمهور مشجعة الطالبَين كليهما بثناءٍ جميل قطعَه صوت الأستاذة أميّة:
ألا أيّها الديكُ المنادي بِسَحرةٍ
هَلُمَّ كذا أُخبِرْكَ ما قد بَدا لِيَا
بَدا ليَ أنّي قدْ رُزِئْتُ بِفتيةٍ
بَقيّةِ قومٍ أورَثوني المَباكيَا
وتبكي -بجانب المدير- امراةٌ جليلة بحُرقةٍ، ترتدي السَّواد، وعلى وجهها وقارٌ وحزنٌ قديمٌ لم تمحه السنون! وتُكمل الأبيات:
فلمّا سمعْتُ النّائحاتِ يَنُحْنَهُ
تَعزّيتُ واسْتيقنْتُ أنْ لا أخَا لِيَا
ويُخيّم الصّمت على وجوه الحاضرين لثوانٍ ثقيلة.. فلا تتمالك قمر نفسَها أنْ تقول:
يا عينُ جودي بالدّموعِ السُّجولِ
وابْكي على صَخرٍ بِدمعٍ هَمولِ
ويرتفع صوت بكاء الأمهات الحاضرات في المدرجات.. وتمسح الأستاذة يسرى نظارتها بمنديلٍ قماشيّ مُطرّز تحمله في يدها دائمًا!
ثم توجّهُ كلامها لنور قائلة: دوركَ يا بُنيّ، والقافية هي اللام. فيُبادر نور قائلًا:
لو يَعلمُ المرءُ ما في النّاسِ مِنْ دَخَن
لَباتَ مِنْ وُدّ ذي القربى على دَخَلِ
ويبدو التأثُّر بالبيت واضحًا على وجه الرّجل المتأنق فيقول بصوتٍ هادئ: رحمك الله أيّها البارودي، يا شاعر الشباب!
وتستعدّ قمر للإلقاء بثقة، فقد أعدّت الكثير من الأبيات التي تبدأ بحرف اللام والميم والألف والراء:
لنا في الدّهِر آمالٌ طِوالُ
نُرَجّيها وأعمارٌ قِصارُ
ستَفنى مثلَ ما تُفني وتَبلى
كما تُبلي فيُدرَكُ منكَ ثارُ
وما أهلُ المنازلِ غيرُ رَكبٍ
مَطاياهم رَواحٌ وابتكارُ
يهتف الحاضرون بصوت واحد معًا: الله الله الله! بينما ينظر رجل كبير إلى آخرَ يجلس بجانبه كأنّهما أستاذٌ وتلميذه يتبادلان الإيماءات بعينيهما.
ويتنفس نور الصعداء، فما زال لديه عدة أبيات من قافية الراء التي راجعها في ذهنه قبل دقائق، خلال الاستراحة:
رَماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتّى
فؤاديَ في غِشاءٍ مِن نِبالِ
فصِرْتُ إذا أصابتني سِهامٌ
تَكسَّرَتِ النِّصالُ على النِّصالِ
ويعود المعترض الأول إلى المشاكسة متمّمًا:
وهانَ فما أبالي بالرّزايا
لأنّي ما انتفعتُ بأنْ اُبالي
وتهمس قمر: اللام ثانيةً! حسنًا إذن فليكن: ليسَ الجَمالُ بِمِئزَرٍ… فاعْلمْ وإنْ رُدِّيتَ بُردَا إنَّ الجَمالَ مَعادِنٌ… ومَناقبٌ أَورَثْنَ مَجدَا ويبدو نور شاردًا بأفكاره إلى عالم بعيد، فتنبّهه الأستاذة هدى قائلة: الدال يا نور! نعم نعم..
دَعِ الأياّمَ تفعلُ ما تشاءُ
وطِبْ نفْسًا إذا حَكَمَ القَضاءُ
ولا تَجزعْ لِحادثةِ اللّيالي
فما لِحوادثِ الدّنيا بَقاءُ
وكنْ رجلًا على الأهوالِ جَلدًا
وشيمتُكَ السّماحةُ والوفاءُ
ما شاء الله! مَتِّعينا بدوركِ يا قمر، فما أكثر الأبيات التي تبدأ بالألف في شعرنا العربي! وتُنشد قمر أبياتًا بَدت صاحبتُها في لهفة إلى إلقائها منذ بدأت المسابقة:
أراكَ عَصيَّ الدّمعِ شيمتُكَ الصّبرُ
أمَا للهوى نَهيٌ عليكَ ولا أمرُ
بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعةٌ
ولكنَّ مِثلي لا يُذاعُ لهُ سرُّ
إذا اللّيلُ أضواني بَسطْتُ يدَ الهوى
وأذللتُ دمعًا مِنْ خَلائقهِ الكِبْرُ
ويَهُمّ نور بإلقاء بيتٍ يبدأ بالراء، لكنّ الأستاذة يسرى تبادر الجميع بقولها (وهي تنظر في ساعةِ يدها): أيّها السادة الكرام، لقد شارف وقت المسابقة على الانتهاء، والمتسابقان متعادلان حتى الآن، وأرى أنّ كليهما يستحقّ الفوز بجدارة، لكننا سنقوم بِتحدٍّ أخير لِحسم النتيجة بينهما، لأنّه قانون المسابقة!
إليكم طريقة التحدي: أَقرأُ بيتًا تَنقصه الكلمة الأخيرة (القافية)، وعلى قمر أو نور إتمام البيت، كلٌّ في دوره، فإن لم يقدر أحدهما على الإتمام أَحَلتُ السؤال للآخر، حتى نُتمّ عشرة أبيات. ثم نجمع النقاط لكلّ متسابق ونعلن فوز من يحصل على المجموع الأكبر.. مستعدّان؟
يهزّ كلٌّ من قمر ونور رأسيهما بالإيجاب.. بينما تلاحظ الأستاذة هدى التوتر ظاهرًا على ملامحهما قلقًا من مفاجأة الأبيات، فتطمئنهما بصوتها الدّافئ: لا بأس عليكما.. لقد اخترنا الأبيات من قصائد مشهورة..
نبدأ على بركة الله مع نور، أَكمل البيت:
وإنْ كثُرَتْ عيوبُكَ في البَرايَا
وسَرَّكَ أنْ يكونَ لها….؟
هل هناك خيارات يا أستاذة؟ وتنفجر القاعة بالضحك والتعليقات الساخرة! تتنحنح الأستاذة يسرى وتقول: طيب، أستطيع أن أساعدكَ بشيءٍ واحد؛ القافية هي الهمزة!
يُجيب نور: دواء؟ للأسف..
ينتقل السؤال إلى قمر: غطاءُ؟
صحيح! والنقطة الأولى من نصيب قمر. السؤال الثاني يا قمر، من القصيدة نفسها:
ورِزقُكَ ليسَ يُنقصُهُ التّأنّي
وليسَ يَزيدُ في الرّزقِ….؟
تفكّر قمر في الكلمة المضادة للتأني! وتردّد البيت بصوت مسموع لتساعد نفسها: ورزقك ليس ينقصه التأنّي، وليس يزيد في الرزق ال.. ال..
الأستاذة يسرى: هل تستطيعُ إكمال البيت يا نور؟
يُجيب نور: لا! فتعيد الأستاذة الشطر الثاني بتمامه: وليس يزيد في الرزق (العَناءُ)!
السؤال الآن لنور عِلمًا أنّ القافية هي الدال:
وإنّ الذي بيني وبينَ بَني أبي
وبين بَني عمّي لَمُختلفٌ…..؟
جدَّا؟
صحيح! النتيجة الآن نقطة مقابل نقطة.
نتابع:
فإنْ يأكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهم
وإنْ هدَموا مَجدي بَنَيْتُ لهم….؟
مجدًا! رائع يا قمر..
ولا أحملُ الحِقدَ القديمَ عليهمُ
وليسَ رئيسُ القومِ مَنْ يَحملُ …؟
يُكمل نور بسرعة: الحقدَا!
وإنّي لَعبدُ الضّيفِ ما دامَ نازلًا
وما شيمةٌ لي غيرُها تشبهُ ….؟
تبادر قمر: العبدَا..
ننتقل الآن إلى قصيدة جديدة وقافية الباء معكَ يا نور:
لا يحمِلُ الحقدَ مَنْ تعلو بهِ الرُّتَبُ
ولا يَنالُ العُلا مَنْ طَبعُهُ ….؟
ال.. الغضبُ؟
ممتاز يا نور! صحيح..
ومَنْ يكنْ عبدَ قومٍ لا يخالفُهمْ
إذا جَفَوهُ ويَسترضي إذا ….؟
عتبوا؟
تبارك الله يا قمر!
البيتان التاسع والعاشر من قافية الميم، انتبه يا نور:
يا نفسُ دُنياكِ تُخفي كلَّ مُبكيَةٍ
وإنْ بَدا لكِ منها حُسنُ…..؟
يطير نور فرحًا بهذا السؤال فهو يحفظ القصيدة جيّدًا، فيقف ويُجيب بكلّ ثقة:
وإن بدا لكِ منها حُسنُ مُبتَسَمِ.
جميل جميل! استرح يا بنيّ! دوركِ الآن ياقمر:
يَفنى الزّمانُ ويَبقى مِنْ إساءتِها
جُرحٌ بِآدمَ يَبكي منهُ في ….؟
في ال… في ال… لاأعرف!
ننقل السؤال إلى نور:
جرح بآدم يبكي منه في الأَدَمِ!
وتهتزُّ القاعة بأنغام الفرح، وتصل الحماسة ذروتها ترقّبًا لإعلان النتيجة وتكريم سفراء البيان..
تُضاء الأنوار ثانية في نواحي المسرح كلِّها، فتظهر بعض المقاعد خاليةً من أصحابها! تقف الأستاذة يسرى وسط المسرح، تبتسم وترفع يدها فيهدأ الحضور جميعًا مُنصتين لقولها:
الحمد لله رب العالمين.. الحمد لله الذي وفّق أبناءنا لطلب معالي الأمور، وأنعم عليهم بحبّ اللغة العربية، والتنافس في إتقانها. ورحم الله أمير الشعراء القائل:
إنّ الذي مَلأَ اللّغاتِ مَحاسنًا
جعلَ الجَمالَ وسِرَّهُ في الضّادِ
وإني والله لفخورةٌ بطلابنا جميعهم.. وشاكرةٌ للمعلمات اللاتي يشجّعنهم على الاستمرار، كما أحيّي الآباء الذين يحرصون على إكمال ذلك الدور في البيوت.. لقد شعرتُ بأرواح الشعراء العظام معنا هنا أثناء المسابقة… وكأني أرى مَلكَهم امرَأ القيس، وأسمع صوت عنترة يصرخ على فرسه لعلّ قومه يدركون بطولته.. وأذكر شكوى الفارس الأسير أبي فراس الحمداني في روميّاته.. ومجالس العلم بين أبي تمّام وتلميذه البحتريّ.. وأشعر بمرارة بُكاء الخنساء أخاها صخرًا.. وأُعجب بفخر المتنبي الذي ملأ ذِكره الآفاق.. وحكمة الإمام عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه)، والشافعيّ رحمه الله!.. ورِفعة أمير الشعراء أحمد شوقي..
لقد كانت رحلة تاريخية ماتعة بحقّ! من الجاهليّة ثمّ الإسلام إلى عصرنا الحاضر.. وكان أبناؤنا فيها خيرَ خَلَفٍ لخير سلَف..
أيها المعلّمون: علامة الأبياتِ العاليةِ أن تزداد حلاوة وطلاوة مع ترديدها وجريانها على الشفاه، كما وصفها الشاعر الجاهلي:
تُكَرُّ فلا تَزدادُ إلا استنارةً
إذا رازتِ الشِّعرَ الشِّفاهُ العَوامِلُ
أرأيتم كيف تسمو النفوسُ بشرف المعنى! وكيف يصون الشعرُ عن الدّنايا صدورًا تحفظه! هل لاحظتم جمال اختياراتهم؟ أسمعتم انطلاق ألسنتهم وانشراح صدورهم بما يقولون! وهل لمستم مثلي ذلك العنفوان المترفّع عن سفاسف الأمور، وتلك الرِّقة الرحيمة بكلّ عزيز! .. ذلك -أيّها الكرام- فِعلُ الشِّعر، وتربية الشِّعر، وتهذيب الشِّعر.. وأثره السّائر المتراكم عبر العصور… فطوبى لذواتٍ تحمله وتتذوّقه وتتخلّق بفضائله.. والسّلام لأرواحٍ ما غادرَنا نورُها مذ رحلت.
والآن، هنّئوا معي الأبطال: نور وقمر وسمر (يقف المتسابقون وسط المسرح، وقد رفعوا أيديَهم عاليًا). لتبدأ مراسم التكريم..
ثمّ تُلتقط صورةٌ للذكرى -بكاميرا تصوير فوريّة- تُظهِر:
(نور) في المنتصف، يحمل مجموعة قيّمة من الكتب والدواوين الكاملة لشعرائه المفضّلين، فوقه ظرفٌ مختومٌ عليه اسمه بالخط الديواني الأنيق، وعن يمينه (قمر)، تحمل عددًا أقل من الكتب، وديوانًا لشاعرها الفارس: أبي فراس الحمداني، وظرفًا مختومًا عليه اسمها كذلك، وعن شمالها (سمر)، تحمل مجلّدًا ضخمًا وديوانَين للمتنبي وأبي تمّام، وظرفًا مختومًا عليه اسمها.
وتظلّ الأكفّ تصفّقُ بحرارة حتى تُسدَل ستارة المسرح، ويغادر المديرون والمعلمات وأولياء الأمور تباعًا.. ويخلو من الناس المكان.. ويبقى صدى القوافي تُردّده الجدران!