
عاشت حتى زمن يزيد بن معاوية، عليها مسحة من جمال لم يُخفِه تضغُّن وجهها، من يراها لأول وهلةٍ لا يظن أنه قد تصرَّم من عمرها ما يزيد عن سبعين سنة، جلست على مِصطبةٍ مرتفعةٍ عن الأرض تبحث عن الدفء، الجو بارد، والشمس تسارقها النظر من بين السحب، لا زالت تتذكر الأيام الأولى التي جيءَ بها للمدينة، بيعت جارية من نخاسٍ مصري، لتقضيَ عقدًا من عمرها ثمنًا لحريتها التي تنشدها.
كانت مولاة لأناس من الأنصار، زُوجِّت على عبدٍ أسود، لم يكن لها ثمة خيار لتقبل أو ترفض، الأمر لسيدها فقط، أنجبا أولادًا، وكلما جاءها ولد توسَّعت الهوُّة بينها وبين زوجها، الذي كان لا يرى الدنيا إلا بها، يخفق قلبه إذا خرج إلى السوق وغاب عنها، كانت الرئة التي يتنفس بها، والعين التي يبصر بها، يحبها كأشدِّ ما يحب الرجال زوجاتهم، وتبغضه كأشدِّ ما تبغض النساء!
لا نجاة لها من هذا الحال إلا بأن تعود سنواتٍ ثقيلةً للوراء، يداها مكبلتان بالرق، والرقيق لا أمر له، الحرية التي فقدتها ذات يوم هي التي ستنجيها مما هي عليه اليوم، عرضت على سيدها أن تدفع له (360) درهمًا في تسع سنين، في كل سنة (40) درهمًا مقابل أن تسترجع حريتها، كانت تدرك صعوبة هذا الطريق وطوله، يدفعها إلى ذلك الحلمُ الذي يتراءى لها بعد سداد الثمن، القرار الذي تسعى أن يعود إليها، أن تقدر أن تقول لا عندما لا يروقها شيء أو تقول نعم، أن تنتزع حقوقها كاملة، تشوَّفتْ كثيرًا لليوم الذي تلقي عن نفسها اسم الجارية، وتستبدله باسم الحرة.
مضت أربعة شتاءات منذ أن أزمعت ذلك القرار، جمعت (160) درهمًا، قاربت نصف المبلغ المحدد، لا زال الدرب طويلًا، أجهدها المسير، تنعطف إلى بيت جارتها، تقف أمام باب حجرة صغيرة متواضعة، وقبل أن تطرق الباب أصلحت من هيئتها، ثم طرقت الباب برفق، فتحت الباب وأُذن لها بالدخول، استقبلها جارتها بصدرٍ منشرح، وكرمٍ بالغ، واحتفت بقدومها كعادة أهل ذلك البيت في الاحتفاء بالقادم.
تجاذبت مع جارتها أطراف الحديث، وحين همَّت بالانصراف لحظت جارتها أنها تريد أن تخبرها بشيء، كانت مترددة، تلتفت يمينًا وشمالًا بسرعة، تخشى أن يعرف خبرها أحد، فأسرَّت لجارتها بمرادها، كانت تؤمِّل أنها تعينها ببعض المال حتى يقصر ذلك الدرب الطويل.
تكفَّلت جارتها بكل ما بقي، أُطلق سراحها من أسر العبودية، حلَّقت كفراشةٍ ترفرف بين الحقول، لها أن تنتقي ما تريد، لا أحد سيجبرها على فعل ما تكره، وماذا عن زوجها العبد الأسود الذي كرهت البقاء معه؟ الإسلام يعطيها الخيار إذا صارت حرة بين أن تبقى مع زوجها المملوك أو تفارقه، فاختارت الفراق.
لم يحتمل زوجها ذلك، قصد كل الطرق، تشفَّع بأولاده، لعلها تنثني عن قرارها، كان هذا الحب يعصف بقلبه، كأنَّ بنيانًا انهدَّ عليه، إذا تراءى له خيالُ فقدِها انتابتْه رعدة، لم يملك نفسَه، انهمرت دموعه، علا نشيجه، أظلمت الدنيا في وجهه، ما ذنبه؟ ألأنَّه عبد؟! فهي كانت قبل قليلٍ مثله؟ ألأنَّه أسود وذميم؟! ماذا يفعل إذا الله تعالى أختار له ذلك؟ لم يزد ذلك الأمر زوجته إلا مُضيًّا.
تناقل الناس حديثه، قال أحدهم لصاحبه وهو راجع من المسجد: عجيبٌ أمر هذه القلوب، قلبٌ يقبل حدَّ البكاء، وقلبٌ يدبر كأنه الصخر الأصم!
لم يستطع العبد أن ينسى حبَّه الأول، كان يقف على دارها، مع شروق الشمس، وطلوع الهلال، يتتبع طريقها، دموعه تسبق كلامه، لا يقدر على منع انهماره أمام الملأ، يمسحه عن وجهه بيد مرتجفة، ويفرك أنفه بإبهامه والسبابة ليزيل ما علق بها.
مرت سنواتٌ عديدة، تخرج هذه المرأة يومًا للسوق، فيلحقها عبدٌ أسود، يبكي إثرها، دموعه تسيل على لحيته، وهي تمضي بلا التفات، فيقول رسول الله ‘ للعباس: يا عباس «ألا تعجب من شدَّةِ حبِّ مُغيثٍ بريرةَ، ومن شدِّة بغض بريرة مُغيثا!»
يؤثر هذا المشهد في نفس الرحيم، يتقدَّم إليها، ثم يقول لها: «لو راجعتيه فإنه أبو ولدك»، فقالت: يا رسول الله أتأمرني؟ قال: «إنما أنا شافع»، قالت: لا حاجة لي فيه.
تحررت بريرة بنت صفوان من أسر العبودية، ومن أغلال الحب النافر، ولكن من ينقذ مُغيثًا من أسر قلبه؟!
