لا أظنُّ أحدًا منَّا لم يكن في طفولته يضع رأسَه على الأرض ثم ينقلب على ظهره؛ البشرُ هم البشر، والصِّغار هم الصغار. كان صبيان العرب يفعلون ذلك، نَقَلَ اللغويون عن بعض الأعراب: لنا لعبةٌ يَلعَب بها الصبيان، نُسمِّيها (جَبَّى جُعَل)، يضع الصبي رأسه على الأرض ثم ينقلب على الظَّهر. ومعنى جبَّى بتشديد الباء: وضع يديه على الأرض أو انكبَّ على وجهه، والجُعَل: حيوان كالخنفساء.
الأراجيح التي لَعِبنا بها صغارًا وأحيانًا ونحن كبار، لَعِبَ بها صبيانُ العرب قديمًا، كانوا يُسمُّونها (الرُّجَّاحة) على وزن (رُمَّانة)، وتُسمَّى الرُّجَّاحة أيضًا، بـ (النُّوَّاعة) و(النُّوَّاطة) و(الطُّوَّاحة).
ولعبوا بـ(الأُرجوحة) أيضًا، وجمعُها (أراجيح)، وتُسمَّى (الْمَرجوحة) كذلك. وهي “خشبةٌ تُؤخَذ فتُوضَع على تلٍّ عال ثم يجلس غلام على أحد طرفيها وغلام آخر، فترجح الخشبة بهما، ويتحركان، فيميل أحدهما بصاحبه الآخر”. فليس ما نراه اليوم في الحدائق اختراعًا حديثًا لم يَعرِفه الأوَّلون.
وتَزَلَّج الصغار قديمًا من (الزُّحْلُوقة) أيضًا، وأهل نجدٍ يقولون: (زُحْلُوفة) بالفاء. وتَذكُر بعض المعاجم لغةً ثالثةً وهي (الزُّحْلُوكة). والجمع: زحاليق وزحاليك. ويُفسِّرونها بـ الْمَـَزالّ، جمع مَــــــَزِلَّة. قال بعض اللغويين: الزُّحْلوقَةُ: مكانٌ منحدرٌ مُمَلَّسٌ؛ لأنّهم يَتَزَحْلَفونَ فيه.
لا نزال نلعب لعبة (المسَّة) وقد لَعِبها صبيان العرب، وإن اختلفت في بعض قوانينها. كانوا يُسمُّونها: (الأَسْن) و(الضَّبْطة) و(المسَّة) و(الماسَّة) و(الطَّريدة). وفيها يحاول اللاعب أن يمسَّ الخصم؛ فإن وقعت يدُه على بدنه أو رأسه أو كتفه فهي (المسَّة)، وإن وقعت على الرِّجْل فهي (الأَسْن).
ومن ألعابهم (الأُنبُوثة)، يحفرون حَفِيرًا، ويدفنون فيه شيئًا، فمن استخرجه فقد غلب.
وكانوا يخبؤون شيئًا تحت تراب، ثم يُصدَع صدعَينِ، ثم يَضرِب اللاعبُ بيده على أحدِهما أو بعضِه، فإن قَبَضَ على الخَبْء فيه قَمَر. و(قَمَر) ههنا فعل فِعلٌ ماضٍ، يقال: قَمَرَ فلانٌ فلاناً إذا غَلَبَه.
وتُسمَّى هذه اللعبة: (البَحْثة)، و(البُحَّيْثَى) على وزن (الغُمَّيضى)، وقد كانوا يلعبون (الغُمَّيْضى). ويبدو أنَّ المغلوب في لعبة (البَحْثة) كان يُعاقَب، فقد ذكر صاحب كتاب “الألعاب الشعبية لفتيان العراق” أنَّ فتياتِ العراق لا يَزَلْنَ يَلعَبْن هذه اللعبة، وأنَّ اللاعبة إن لم تَعثُر على الخَبء تُضرَب على ظَهْر كفِّها عِدَّة ضَرَبات(1). ولعلَّ هذه اللعبة هي (المقابلة) أو (المفايلة) أو هي صورةٌ من صورها. و(المفايلة) و(الفِيال) لعبةٌ لفتيان الأعراب بالتراب، يخبئون الشيء في التراب، ثم يقسمونه قسمَينِ، ثم يقول الخابئ لصاحبه: في أيِّ القسمين هو؟ فإذا أخطأ قال له: فال رأيك. ومعنى فال: أخطأ. ومضارعُه: يَفِيل. والمصدر: الفَيْل والفُيُول.
ومن ألعابهم الدارة، وهي أن يقعد الصَّبيّ القرفصاء، ويقعد صبيٌّ آخر، ويجعل ظهره في ظهره، ويدور الصبيان حولهما يضربونهما، فإذا أمسك واحدٌ منهم صبيًّا، أجلسَه مكانه. يتعلَّمون من ذلك خِفَّة الأيدي، وسرعةَ الضرب والمشي، ونحوه.
ومن الألعاب التي لا تزال تُلعَب اليوم، أن يُطامن الصبي ظهره، ويأتي آخر يعدو من بعيد حتى يركبه. كانت تُسمَّى بـ(التَّدبيح). والتَّدبيح هو خفض الرأس، ومعنى يُطامِن: يخفض.
قد يلعب الصبيان، فيحمل اثنان منهم ثالثًا على أيديهما، أترى تلك الصورة الآن؟ اسمُها عند العرب: (الجِعِرَّى) بكسر الجيم والعين. وهذه كلمة ثقيلة جدًّا، أتدري لماذا؟ لأنَّ الكسرة حركةٌ فيها ثِقَل، فإذا تلتها كسرةٌ أخرى زاد الثِّقل. ولَيْتَ الكسرة الثانية وَقَعت على غير العَين، إذًا لاحتُمِل الأمر، لكنَّها وَقَعَتْ على العين، فزاد الثِّقل أكثر؛ لأنَّ العين حرفٌ حلقيٌّ، وحروفُ الحلق ثقيلةٌ في ذاتها، فكيف إذا انضمَّ إليها ثقيلان؟!
إذا انتظم الأطفال بعضُهم خلف بعض، وأمسك كلٌّ منهم بحُجزة مَن أمامه، سميَّناها لعبة القطار، أمَّا العرب فيُسمُّونها (سَفْد اللقاح).
التَّماثيل التي نُسمِّيها اليوم بالعرايس، كانت تُسمَّى بـ(البنات)؛ ففي حديث عائشة رضي الله عنها: “كنتُ ألعب مع الجواري بالبنات”. ولعلَّهم سَمَّوها بـ(البنات) لأنَّ الصبايا كُنَّ يَتَّخِذْنها بناتٍ لهنّ. وكان لأهل المدينة لعبةٌ تُصنَع من الجلود البيض، يقال لها: (بنت قُضَّامة). والقُضُم هي الجلود البيض، واحدُها قَضِيم.
وقد لَعِبَ العرب أيضًا ألعاب الطاولة، كانت لهم لعبة اسمها (الأربعة عشر)، وهي قطعة من خشب، يُحفَر فيها ثلاثة أسطر، ويُجعَل في تلك الحُفَر حصى صغارٌ يلعبون بها. وتُسمَّى عند بعض العوامِّ (الشَّارده)، وأصلها (چهارده) بالفارسية، ومعناها أربعة عشر.
اللعب بالنَّار خطير لكنَّه يُغرِي الصِّغار، وصبيان العرب أغرتهم النَّار، فخاطروا، ولعبوا بها. لهم لعبة تُسمَّى (البَوْصاء)، يأخذون عُودًا في رأسه نار، يُدِيرُونه على رؤوسهم. ولعلَّ تلك الحركة المستديرة كانت سريعة بحيث تبدو النَّار كالحلقة فوق رؤوسهم
لا تجد سلاحًا إلَّا وله مِثالٌ يَلعَبُ به الأطفال، وقد كان لصبيان العرب مثل ذلك، كانوا يلعبون بسهام لا نُصُول لها؛ فرؤوسها مدوَّرة أو عليها تمرةٌ معلوكةٌ أو طِينٌ حتى لا تعقر أحدًا، تُسمَّى (الجُمَّاح) بوزن رُمَّان، يتعلَّم بها الصبيان الرمي، يرمون بها الطائر، فيَسقُط دون أن يموت، فيأخذه رامِيه، ثم إذا شبَّ الصبي تَرَكَ الجُمَّاح، وأَخَذ النَّبْل.
كنَّا ونحن صبية نأخذ السَّجَّادات ونحوها من الأقمشة، فنَلُفُّها على هيئة مستطيلة ونتعارك بها، وهذه هي (المخاريق)، جمْعُ (مِخْراق)، وهو ثوب يُلَفُّ ويَضرِب به الصبيان بعضَهم بعضًا. وفي معلَّقة عمرو بن كلثوم:
كأنَّ سيوفَنا منَّا ومِنهم
مخاريقٌ بأيدي لاعبِينا
نسمع اليوم كلمة (المثاقفة)، يَعنُون بها عمليات التبادل الفكري الثقافي. و(المثاقفة) عند العرب هي اللعب بالسِّلاح، وهي محاولة إصابة الغُرَّة في المسايفة. والغُرَّة هي النَّاصية.
ومن ألعابهم التي يتدربون فيها على مدافعة العدو ومخاتلته: (الشَّحْمة)، وهي أن “يمضي واحد من أحد الفريقين بغلام، فينتحون ناحية ثم يقبلون، ويستقبلهم الآخرون، فإن منعوا الغلام حتى يصيروا إلى الموضع الآخر فقد غلبوهم عليه، ويدفع الغلام إليهم، وإن هم لم يمنعوه ركبوهم”.
وكانوا يلعبون لعبة القفز على الحواجز، يُسَمُّونها (القُفَّيْزَى)، يَنصِبون خشبةً، ويتقافزون عليها.
ومن ألعابهم العنيفة (الشَّفَلَّقة)، وهي أن يَكْسَع أحد اللاعبين الآخر من خلفه، فيصرعه.
رسم الخطوط على الأرض من قواعد كثير من الرياضات والألعاب الشَّعْبية، وقد استخدمها صبيان العرب كثيرًا، كانوا يَخُطُّون خطًّا مستديرًا ويقف فيه الصبي، ويجتمع فيه الصبيان ليأخذوه. يُسمُّون تلك اللعبة (الحَجُّورة) و(الحاجورة). ولهم لعبةٌ اسمُها (الحوالِس)، يخطُّون خمسة أبياتٍ في أرض سهلةٍ، ويُجمَع في كل بيتٍ خمسُ بعرات، وبينها خمسةُ أبياتٍ ليس فيها شيء ثم يُجَرُّ البعر إليها، كلُّ خطٍّ فيها (حالس).
كان لصبيان العرب لعبةٌ من قبيل التظاهر بالموت كما كنَّا نفعل، اسمُها (حي ابن موت)، “وهو ضربٌ من لعب الصبيان، يجعلون ثوبًا تحت الرَّمل، ويُهال على أطرافه، ويُرقِّقونه فوقه بقدر ما يَستُر الثوب وهو تحته، ثم ينادونه: يا حي ابن موت. وقيل: يلبس الصبيُّ ثوبًا يَحُولُ بينه وبين الرَّمل ثم يُدفَن في الرَّمل”.
ما يُعرَف بـ(اليويو) لَعِبَ العرب بنُسخةٍ بدائيةٍ منه، سَمَّوْها: (الخرَّارة) و(الخُذْرُوف) و(اليَرْمَع)، وهو عُوَيدٌ مشقوقٌ في وسطِه أو حجر مثقوب، يُشَدُّ بخَيْط، ويُمَدُّ، فيُسمَع له دَوِيّ.
أمَّا ما يُسمَّى اليوم بـ(البُلبُل)، ونُسمِّيه في اليمن (الدِّرْوام)، فتُسمِّيه العرب (الدُّوَّامة)، ولعلَّك فَتَحْتَ الدال، والصواب الضم. دُوَّامة على وزن رُمَّانة. وهي فَلْكةٌ تُلَفُّ بسَيْر أو خيط ثم تُرمَى على الأرض، فتدور. والفَلْكة: قطعة من الخشب على شكل مخروط.
تكرار المفردات الصعبة من الألعاب الغريزية في السُّلوك اللغوي لدى البشر، كنا نعبث بتَكرار “القسطنطينية” و”القلقشندي” و”خَشَبة الحبْس حَبَسَتْ خمس خَشَبات”، وكان لصبيان العرب مثل هذا العبث، يلعبون لعبة اسمُها (دِحِندج)، يجتمعون لها، فيقولونها، فمن أخطأ قام على رجل واحدة، وحَجَل سبع مرَّات. ومعنى الحَجْل: أن يرفع رِجْلًا ويقفز على الأخرى.
وإذا خرج الصبي، فلم يجد أحدًا يلاعبه لم يرجع إلى البيت، بل يصيح: عرعار. فإذا سمعه الصبيان خرجوا ولعبوا معه.
رأيتُ الصبيان في حارات مدينتي يأخذون عبوةً بلاستيكيةً فارغةً، ثم يتقابل اثنان بيدِ كلٍّ منهما عصا، وتُوضَع العبوة على الأرض ثم يُضرَب أحدُ طرفَيْها فترتفع في الهواء، فتُضرَب ضربةً ثانيةً نحو اللاعب الآخر فيحاول صدها. وقد لعب صبيان العرب هذه اللعبة قديمًا بخشبتين، إحداهما صغيرة وتُسمَّى القُلَة، والأخرى كبيرة، وتُسمَّى الْمِقْلَى والمِقْلاء.
تنطيطُ الكرة، ليس بلعبةٍ حديثةٍ، كان غِلمان العرب يلعبون بالدَّبُّوق على وزن (تَنُّور)، وهو “كرة شعر تُرمَى في الهواء، ثم يتلقَّاها الغلام ضارباً لها تارة بصدر قدمه، وتارة بالصفح الأيمن من ساقه اليمنى، رادًّا إيَّاها إلى العلو على الدَّوام”.
وكان الفتيان يتجاحفون الكرة بالصوالجة، أي يتدافعونها أخذًا.
وقد تُصنَع الكرة من الخِرَق، كما نصنع نحن الكُرَات من الأكياس البلاستيكية.
وكان للصبيان لعبةٌ تشبه اللعب بالكُرَات البلورية، يَحفِرون حفيرة تُسمَّى (المزداة)، ويرمون بها الجوز. ويقال من ذلك: زدَا الصبي الجوز وبالجوز يَزْدُو زَدْوًا. لكن هل هو الزدو بالزاي أم السَّدو بالسين؟ قال بعض اللغويين: هو السدو، وأمَّا الزَّدْو فلغة صبيانية كما قالوا: للأسد أزَد! والصبيان في الماضي كالصبيان اليوم، يبدلون بعض الأحرف ويحولونها عن مواضعها؛ فالصغير: زغير، والخمسة: حمسة، والكهرباء: كرهباء. وكثير من العوام يقعون في مثل هذا.
وعرفوا قديمًا الألعاب المبنيَّة على الحِيَل والخدع البصرية، ومن ذلك (خيط السَّحَّارة)، وفسَّره بعض اللغويين بأنه شيء يَلعَبُ به الصبيان، إذا مُدَّ من جانبٍ خَرَجَ على لون، وإذا مُدَّ من جانب آخرَ خَرَجَ على لونٍ آخرَ مخالف، فيجيء أخضر، ثم تمدُّه فيجيء أصفر، ثم تمدُّه فيجيء أحمر، وهكذا.
ومن الطريف أنَّ للعرب لعبةً اسمُها (الضَّب)، كانوا يُصوِّرون ضبًّا على الأرض، ويُحوِّل واحدٌ من الفريقين وجهه، ثم يضع بعضُهم يدَه على شيء من الضب، ويخمِّن الذي حَوَّلَ وجهَه ذلك العضو، فإن أصاب قَمَرَ، وصار هو السائل، وإن أخطأ رُكِبَ هو وأصحابه.
ولهم لعبةٌ من ألعاب التَّخمين تُسمَّى (المهزام)؛ يُغطَّى رأس أحدهم ثم يُلطَم، ويقال له: من لطمك؟ ولا ندري ما العاقبة إن أصاب أو أخطأ، والظَّاهر أنَّ اللطم سيستمر على أي حال.
آخر ما نذكره هنا، أنَّ غلمان العرب لَعِبُوا في الليل كما لعبوا في النَّهار. كانت لهم لعبةٌ اسمُها (عَظْم وضاح) ويُصَغِّرونها على (عُظَيم وضاح)، يأخذون عَظْمًا شديدَ البياض فيُلْقُونه، ثم يتفرَّقون في طلبه، فإن وجده واحد من الفريقين رَكِبَ أصحابُه الفريقَ الآخرَ من الموضع الذي يجدونه فيه إلى الموضع الذي رَمَوْه منه.
الهوامش:
- الألعاب الشعبية لفتيان العراق، عبدالستار القرغولي، مؤسسة هنداوي، ص63.
مقال رائع … بذل فيه مجهود كبير .. شكرا لكم ..