أدب

كلمة في الجمال

روى الرّواةُ فيما رووا أنّ رجلَين من أهل الأدب تلاقيا بعد طول بعاد، وكان واحدهما قد زلق قلبه في مهاوي الهوى، ذلك أنّه في إحدى مجالس الأدب اطّلع على شاعرةٍ كساها الشّعر من جلاله، وزّينها بزينةٍ من دلاله، فعَلِقَها هذا الأديب وكان على رفيع ذوقه ودقيق حسّه متين الدّيانة، غليظ الورع، يضرب بينه وبين الخلوص إلى مرابع الهوى حُجُبًا من ورائها أسوارٌ، فإن غلبته نفسه فأطلّ من وراء ذاك الحجاب، وجد ذلك السُّور مانعًا له من ولوج ذلك الباب، فظلّ في حصنه محفوظًا من مهاوي الرّغبات الـمُغريات.

وكان الرّجلان قد انتحيا مجلسًا خارج المدينة؛ يناظران فيه السّماء صافية، ويخلوان فيه من قيلٍ وقال، فقال هذا الأديب لصاحبه وهما يتناجيان في مجلسهما: هل تبلغ المرأة المنزلة التي تصبو إليها نفسها في دُنياها بغير جمال يَزينُها ويعينها؟

فأطرق صاحبه ساعةً ثمّ قال: قد، إن كان الجمال في ذهن الناظر محصورا في ملاحة العينين، وتناسق الشفتين، واستواء القدّ، وانتظام الجسم في هيئة فنيّة باهرة، كأنّها صنيعةُ إزميل مثّال بارع، أو لوحةٌ بيانيّةٌ قذفها إلى الوجود أديبٌ مِصقَع. ولكنّ الجمال عند ذوي القلوب الشّاعرة، والأذواق السامية أجلُّ قدراً من أن يبدأ وينتهي فيما تشربه العيون الناظرة من حُسن الصورة.

فقال الأوّل: قد علمتُ شأنَ الجذب من أقوال العلماء، وهو على اتّساع مراميه وذكاء مكتشفيه كالذرّة في كثيب الرّمال حتّى يُجذب القلبُ فتُعلمَ حقيقةُ تلكَ الحال!

قال الصّاحب: أطلِق عِنانَ ما في صدرك، فلا بُدّ للمصدور أن ينفُث.

فقال الأوّل: لم تكن صاحبتُنا ممّن حُرمن نصيبهنّ من الجمال الظاهر، بل كانت فيه مستويةً على عرش، كأميرةٍ من أسطورة غابرة يتسامر في براعة حُسنها النُّدماء، وتنساق إليها أبصار المستحسنين كما انساقت إلى النُّجوم الهادية أعينُ السّائرين، وتتقلّب عليها –غيظاً- قلوب الحاسدات، كما قلّبتَ اللّحم على السَّفود الماضيات، وهي وإن كانت قد أُكرمت بألوانٍ من الحُسن المتجلّي، فإنّ حُسنها لم يقف عند هذا الحدّ، وحظّها منه كان من ذلك أبعد.

فقد كانت تنظم من القصائد قلائد كريمة، وتبعث فنونها فتأخذ بالقلوب، فلم يكن دأبها أن تنظم الكلام على وزن، وتقيمه على قافية، حسبُ، بل كانت تنظم المشاعر في رصفٍ رائع، وتكسوها من الألفاظ من كلّ بديعٍ ناصع، وسيّان أنت نهلت من فنّها قارئًا بعينك أو شنّفت بقصائدها سمعك، كنتَ كذلك الصوفيّ إذ يغمض عينيه من “الحالة”، يرتعش من شيءٍ سماويٍّ يتنزّل عليه فيخشع قلبه، ويبتسم له ثغره، لا هو يدرك عِلّته، ولا هو يجيد تسميته، فيسلّم أمره وقد احتجب عنه السرّ، كما قال الغابر:

فَكانَ ما كانَ مِمّا لَستُ أَذكُرُهُ

فَظُنَّ خَيراً وَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ

2 كلمة في الجمال

ولقد كانت أهلاً لأن يصيبها العُجب؛ إذ تناهت إليها الأبصار، وأناخت عندها المواكب تحتقب المدائح، ولكنّ الجمال كان له غير رأي، إذ جعلها على دين ترجع إليه فيحميها، وأب تشفق عليه أن يراها في غير الحال التي يرجوها، ونفس صانتها عن مزالق الهوى، وجسمٍ حفظته من طُلّاب الـ(…)، فكانت من خُلُقها ودينها في حِصنٍ منيعٍ وموئلٍ حفيظ، تسبي القلوب بالعبارة السّاحرة، والنّظرة الخالبة، وأيّ جمال لم تجعله في حمى فقد أبحتَه لكلّ طالبٍ وراغب.

قال الصّاحب: إنّ الجمال ليحفر في صفحة القلب، فيستتر بين ثناياه، وإنّ له في القلوب حظوةً ومنزلة كريمة. وفي هذا منحةٌ ومحنةٌ تتناوبان على صاحبه، فالمنحة تكون في مرافقة الجمال له من غير حاجة منه إلى معاودة رؤيته بالعين والتزوّد منه، وأمّا المحنة ففي كونه يبرز إلى وعيه في حالات هو فيها مشتغل بغيره، يقتحم عليه دون طلبه إيّاه وتهيُّئِهِ له، فيشغّب عليه، ويصرف بعض عزمه ونشاطه عمّا هو فيه، كما أرى من حالك، وقد علمتَ أنّ لكلّ أمرٍ من أمور الدُّنيا وقتٌ يناسبه، وحالٌ توافقه، فإذا جاء في غيرهما انقلب نفعه ضرًّا، كالطّعام على الشبع، يؤذي البدن، ويُذهب الفطنة، ويُقعد عن المنافع. وقد عرفتُ في وجهك الهمّ من أوّل محضرك، فآثرتُ تركك وشأنك، إن شئتَ حدّثت، أو إن شئت أمسكت.

قال الأوّل: إنّ شأن هذا القلب لعجبٌ لا ينقضي منه العجب، فليس يزورني ذكرها نهارًا إلّا غِبًّا، فإذا جنّ الليل لزمني طيفُها، وعذّبني حُسنها.

قال صاحبه: هل فكّرت يومًا في سرّ الليل الذي يجعله يبعث العواطف والأفكار جامحة ملحّة؟ فهل أرّقك يومًا هذ التفكير، وأسهدك وحيّرك؟

لقد قلّبت أمر هذا الليل في ذهني؛ محاولًا فهم العلّة التي تجعله يضخّم المشاعر والأفكار، فخلصت إلى أنّ السرّ قد يكون في استراحة الحواسّ، أو في تخفّفها من المحفّزات الواردة على الإنسان.

فالليل مظلم، وعليه فالبصر لا يستوعب من المشاهد التي تشغل القلب والعقل إلّا قليلا، والليل ساكنٌ قليل الصخب، وعليه فالسمع يتخفّف من أعباء استيعاب الأصوات وتحليلها وترجمتها، ومتى قلّت الواردات على الإنسان من الخارج، فرغ الجوّ للصادرات عنه من الداخل، فإذا بمكنون قلبه يكبر ويعظم، ويأخذ منه زمام عقله الكليل بعد يومه الطّويل، وكم من عاشقٍ صُلِقَ بنيران العشق فؤادُه، ويده من عشيقته خاوية، وعينه عن محاسنها نائية، وتلكم ضريبةٌ لا ينجو منها قلبُ أديب.

وما يزال إحساس الإنسان يدقُّ حتّى يخلب الجمالُ العذبُ قلبه، ويُذهله عن عقله، ويمدّ في عمر ليله، حتّى إذا بلغ منه كلّ مبلغ، وطفح به صدره، وأعمت جلالته بصره عن غيره، ولم يجد في اللغة تعبيرًا يصفه، قال بملء فمه: “الله!”، فكأنّه بفطرته الأوليّة يحتمي من الهزيمة أمام جلال الجمال باللجوء إلى الجليل الجميل ذاتِه، وكأنّه إذ تخذله اللغة يفرّ إلى خالق اللغة. وما مِن ذي قلبٍ حيٍّ وطبعٍ سليمٍ إِلّا والجمالُ من أغذية قلبه، ومشتهيات نفسه، فهوّن عليك؛

فعَسى يُعينُكَ مَنْ شَكَوْتَ لَهُ الهَوى 

في حَمْلِهِ فالعَاشِقُون رِفَاقُ 

لا تَجْزَعَنَّ فَلَسْتَ أَوّلَ مُغْرَمٍ 

فَتَكَتْ بِهِ الوَجْنَاتُ وَالأَحْدَاقُ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى