مرّ ما يزيد على مئةِ سنة على إنشاء لجنة التأليف والترجمة والنشر ! فلقد أُنشئت في القاهرة، سنة 1914؛ في مطلع القرن العشرين، وبقيتْ، سنين، حيّةً قائمةً ترفد الثقافة العربيّة بخير الزاد؛ تأليفًا، وتحقيقًا، وترجمة. ولم يأفل نجمها حتّى أخذ القرن يوغل في نصفه الثاني؛ فتبدّلت أحوالٌ كثيرة، وخفيت معالم، وظهرت معالم أخرى، وتقهقر نشاط الأفراد، وأمسكت الدولة بكلّ المنافذ. غيرَ أنَّ ما صنعته لجنة التأليف والترجمة والنشر شيءٌ لا يقدر الزَّمن أن يطويه.
كانت “اللجنة” قد نشأت حين أراد فتية ناشئون، مازالوا في صدر أعمارهم، أن ينهضوا ببلدهم من خلال نشرِ العلم، والمعرفة الصحيحة؛ لكي يقوى، ويقدرَ أن يُدير شؤونه؛ فعقدوا العزم على أن يُنشئوا لجنةً تنشر الكتب الرصينة النَّافعة، وأن يتعاضدوا على تمويلها، وأن ينهضوا بأعبائها كلّها. وقد كان في الصدارة منهم: أحمد أمين، وأحمد زكي، وأحمد عبد السلام الكرداني، ومحمّد عبد الواحد خلّاف، ومحمّد أحمد الغمراوي، وعبد الحميد العبادي، ومحمّد فريد أبو حديد، وحسن مختار رسمي، ويوسف الجندي، وصبري أبو علم. وكلّهم كان من ذوي الثقافة الرصينة المتينة. إذ كان منهم من سلك سبيل العلم الصرف مع إقبال على اللغة والأدب، وكان منهم من أخذ بالتراث العربيّ مع إقبال على ثقافة العصر، وكان منهم رجال قانون يحبّون العربيّة. فلا غرو أن يتمَّ للجنة بهم التوازن، وأن يسلكوا بها سبيل الحكمة، وأن لا ينشأ ميل يفضي إلى جورِ قديمٍ على حديث، أو حديثٍ على قديم. ثمّ إنّها هيّأت أمرها ووضعت قانونًا يحكم عملها؛ حتّى تجيء خطواتُها سليمة صحيحة؛ كلّ خطوة في موضعها، وانتخبتْ أحمد أمين رئيسًا لها، فأحسن إدارتها، وبلغ بها غايتها؛ فصارت تجدّد له الرئاسة كلّما انتهت مدتها. وبدأت مسيرتها في تأليف كتب مدرسيّة؛ ليأخذ الناشئة المعرفة واضحة مستقيمة في لغة عربيّة فصيحة؛ وكان أوّل كتاب أصدرته في الكيمياء؛ ألّفه أحمد زكي، وأحمد عبد السلام الكرداني. وقد كان من نظام اللجنة؛ أن تُحيل كلّ كتاب يقدّم إليها على خبيرين قبل طباعته؛ فإن أقرّه الخبيران أخذ سبيله نحو المطبعة، وإن بدا لهما رأي فيه انتفع منه المؤلف في تقويم كتابه حتّى يستوي بعيدًا عمّا يشوبه. ثمّ اتّسع نطاقها، وجعلت من شأنها أن تنشر الأصيل من المؤلفات، وأن تنقل إلى العربيّة ثمرات الفكر الأوربيّ، وأن تحقّق وتنشر عيون التراث العربيّ؛ فكان من ذلك أن نشرت (قصّة الفلسفة اليونانيّة) و(قصّة الفلسفة الحديثة) ، و(قصّة الأدب في العالم) من تأليف زكي نجيب محمود، و (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام) من تأليف أحمد أمين، وكان من الترجمة أن نشرت (تاريخ الفلسفة في الإسلام) تأليف دي بور، وترجمة محمّد عبد الهادي أبو ريدة ، و(تاريخ الفلسفة الغربيّة) تأليف برتراند رسل، وترجمة زكي نجيب محمود، و(قواعد النقد الأدبي) تأليف لاسل آبر كرومبي، وترجمة محمّد عوض محمّد، و(محاورات أفلاطون) ترجمة زكي نجيب محمود، و(دفاع عن الأدب) تأليف ديهامل، وترجمة محمّد مندور، و(قصّة الحضارة) تأليف ول ديورانت، وترجمة زكي نجيب محمود، ومحمّد بدران وآخرين، وكان من تحقيق التراث أن نشرت (شرح حماسة أبي تمّام للمرزوقي) تحقيق عبد السلام محمّد هارون، و(العقد الفريد) تأليف ابن عبد ربّه، وتحقيق أحمد الزين، وغير ذلك ممّا كان ركنًا عزيزًا من أركان الأدب الحديث.
ولم تكن اللجنة مغلقة على أعضائها المؤسسين؛ بل إنّ بابها كان مفتوحًا لكلّ ذي مقدرة على التَّأليف والترجمة فالتحق بها محمّد بدران، وزكي نجيب محمود، وآخرون.
ومن ينظر في آثارها يدرك اتّساع أفق القائمين عليها، ورصانة فكرهم؛ ذلك أنّ سواقي المعرفة تجري عندهم؛ يجاور القديم منها الحديث، والشرقيّ الغربيّ، من دون نفور أو نشوز.
وتوطّدت مكانتها بين الكتّاب والقرّاء، ورأت أن تُصدر مجلّة أسبوعيّة فأصدرت (الثقافة) في سنة 1939، وصاحبُ شأنِها القائمُ بأمرها رئيسُ اللجنة أحمد أمين نفسه. واستطاعت (الثقافة) أن تجد لها حيّزًا بين القرّاء على الرغم ممّا كان لمجلّة (الرسالة) من مدى، ونفاذ. وقد بقي صدورها متّصلًا حتّى سنة 1953؛ إذ انقطعت عن الصدور ، وخلت ساحة الأدب منها ومن (الرسالة) لتنشأ مجلّات أخرى.
ووقف أحمد أمين، وهو يقصّ سيرة حياته، عند “اللجنة” قائلًا: (وقد تكوّنت اللجنة … سنة 1914، ونحن الآن سنة 1953 فيكون قد مضى عليها أكثر من ست وثلاثين سنة، وقد طبعت من الكتب أكثر من مئتي كتاب، وكانت لا تقرر كتابًا إلّا إذا حوّلته على اثنين خبيرين بالموضوع يبديان فيه رأيًا بالصلاحيّة أو عدمها، أو حاجته إلى التعديل. ولبثت طول هذه المدّة رئيسًا للجنة يعاد انتخابي فيها رئيسًا لها كلّ عام .
وازداد عدد أعضائها إلى أكثر من ثمانين عضوًا من خيرة المتعلمين … وأسست لها مطبعة خاصّة … ). وقد كانت إدارة أحمد أمين للجنة موضع تقدير وحسن ثناء، فقد منحها من وقته وجهده ورجاحة رأيه شيئًا كثيرًا؛ لولا شائبة ما كان أغناه عنها؛ إذ كان يضع اسمه أحيانًا على كتب، من مطبوعها، كأنّه شريك في التأليف أو التحقيق، على حين أنّ جهده فيها لم يزد على قراءتها، وهي مخطوطة، وإجازة نشرها؛ كصنعه في (قصّة الفلسفة اليونانيّة)، و (قصّة الفلسفة الحديثة)، و(قصّة الأدب في العالم) وكلّها من تأليف زكي نجيب محمود! وكصنعه في (شرح حماسة أبي تمّام) الذي قام بتحقيقه عبد السلام محمّد هارون. أقول ما أغناه عن ذلك ؛ وهو الكاتب المؤلف ذو التَّصانيف الكثيرة!
وأحبّ أن أنقل ما تحدّث به زكي نجيب محمود عن اللجنة ومبناها القديم؛ إذ يقول: ( 9 شارع الكرداسي بناء قديم كسيح تكاد تتقوّس جدرانه وتهوي سقوفه؛ لكنّه جزء لا يتجزّأ من حياتي، ومن حياة رجال كثيرين، بل إنّه جزء لا يتجزّأ من تاريخ الأدب المصريّ الحديث، فكما ترتبط الحركات الأدبيّة أحيانًا بهذا “الصالون” أو ذاك المنتدى، فسترتبط الحركة الأدبيّة المصريّة من بعض وجوهها بهذا البناء المتهافت 9 شارع الكرداسي، ففي حجراته قامت مشروعات وصدرت مطبوعات واجتمعت حلقات الأدباء والمتأدبين يسمرون وينقدون).
نعم ! إنّ منزلة لجنة التأليف والترجمة والنشر كبيرة في تاريخ الأدب الحديث، في النصف الأوّل من القرن العشرين؛ لكنّها بعد أن توغّل القرن في نصفه الثاني خفت بريقُها، ويبس أديمُها، وتهيّأ الزمان لأنماط أخرى من النشر والناشرين؛ غير أنّها تظلّ مفخرة من مفاخر آباء الثقافة العربيّة الحديثة …!
مساء الخير اريد معرفة عنوانكم في مصر